"الرواية" عنوان ماكر، يثير الفضول ويستدرج الشهية الى القراءة، اختارته نوال السعداوي لروايتها الصادرة حديثاً عن دار الآداب 2004 . وإن كنا لا نسجل للسعداوي سبقاً في اشتغالها على موضوع اغرابي ومفارق بادر اليه من قبلها روائي أميركي كبير بول اوستر أبدع عن جنس النص نصاً، سوّاه مخلوقاً كتابياً ناطقاً يروي بلغته شرط انكتابه. إلا أننا نلتفت وبكثير من الموضوعية الى همَّة هذه الكاتبة التي حظيت مؤلفاتها منذ نهاية الستينات باهتمام لافت، جعل منها ظاهرة خلافية تضاربت حولها الآراء، بين متحزب ينحاز اليها بلا حساب، ومعارض يتطرف في معاداتها، حتى كاد الجدل حولها ينقلب صراعاً حاداً بين أنوثة هجومية ومتنمرة، خرجت عن طوع المألوف، وذكورة متسيدة باغتها الهجوم فاستنفرت دفاعاً. يشهد على ذلك تورط الكثير من الكتّاب في مقاربة نصوصها واتهامها تارة بنسوية سلبية مفرطة وطوراً بمعاداة الأنوثة واضطهادها. السعداوي التي دأبت منذ ما يقارب الأربعين كتاباً، على مباغتتنا بأسئلة مشكلة ومثيرة للجدل، تطرح هذه المرة سؤال الرواية في نص روائي بقلم امرأة. امرأة النص في"الرواية"شابة رقيقة الحال، مغمورة النسب، لا هوية لها سوى ذاكرة مشطوبة الجذور، غائمة النشأة والطفولة وهي ايماءة نرجِّح كنايتها لما يُثار من خلاف حول جذور الرواية العربية وأصالة مرجعيتها الفنية. ذاكرة مستجلبة تلقحها الفتاة بسرد مخصب يفيء الى الراهن من زمنها، وتحبل بها مثل جنين ينمو ويتحرك داخل رحمها أو رحم الكتابة سيان، فهما في النص صنوان. ليس للشابة اسم تعرف به ولا صفة ابداعية تشهرها وتشفع لها بالكتابة، تأتي اليها من غيب مجهول لا تباركها السلطة الأدبية المنحازة الى الأسماء اللامعة، والمتواطئة مع تكريسها، لذا تُحدث الرواية عند صدورها زلزالاً من الغضب العارم والكثير من الجلبة والفزع والاستنفار"فيتحرك رجال الشرطة على الفور يجوبون الشوارع والميادين والأزقة المسدودة يفتشون عن الرواية داخل الأكشاك فوق الأرصفة على النواصي وتحت مراتب الأسرة في البيوت"ص 712. بمثل هذا الإلماح الدَّال تُستهل به الرواية ص 7 وبه تنغلق أواخر صفحاتها، يومئ النص الى"شيطانية"الرواية المحظورة، تلاحق مثل وباء مفسد، مخلٍّ بالأمن والاستقرار والأخلاق، لتصادر وتمنع من التداول بجريرة القول الجسور، المبدع يُجرم ويُقمع ويُكم كلما اجترأ على انطاق اللامقول، وخالف كلام السلطان يتستر ب"حجاب الشرع ويرتدي ثوب الإله الرب"ص 14 تماكره كارمن من طريق الكتابة، تقوِّلها بالمجاز ما لا تتيحه لها الحقيقة المكبَّلة بأغلال الماضي البائد"نحن نتوارى خلف الكتابة لننطق المسكوت عنه... لنعيش الحرية كما نشاء وبصرف النظر عن الأخلاق"ص 190. بهذا المعنى تبدو الرواية بحسب كارمن ومن خلفها السعداوي، جنساً أدبياً يتلطى ببلاغة السرد، ليراوغ القمع ويغافل حراسه، وهو ما يحيلنا تلقائياً، الى ما سبق للدكتور جابر عصفور أن أشار اليه في كتابه"زمن الرواية"، حيث جعل البلاغة"سلاح المقموعين لمناوشة نواهي مجتمعهم القمعي". الرواية الشيطانية المولودة من"شبق العقل وشهوته"، المنقطعة عن سياق المكتوب في الأدب والتاريخ، الخارجة عن عرف الروايات المستنبتة من رحم الأساطير، ظلَّت تراود الفتاة - وهو الإسم النكرة الذي يشار بها اليها في النص - مذ وسوست لها الكتابة بالفكرة"وهي غارقة في النوم، قبل أن يدركها الوعي"ص 135. الفكرة الجهنمية سكنت لا وعيها، تهدر فيه مثل موج صاخب يؤرِّقها ويخيفها في آن، وفي مخاض عسير تحاول أن تكسر خوفها، فتهتم بالكتابة ولا تفعل. الأرق عينه، تكابده شخصيات أخرى في النص، ينشغل كل منها في كتابة روايته الخاصة رستم، سميح، كارمن، لتصير الكتابة بهذا المعنى هاجساً مقيماً يتشاطره سكان الرواية، يهيمون في فلكها أسرى لشهوتها، يُسلمون لها قيادهم، شغفهم وحياتهم. فتختزلهم لتستأثر وحدها بدور البطولة، ويقترن فعلها بالحب، الجنون، الموت، الحياة، المرض، الخوف، الشفاء والخلاص، تتحول في عرف الأنوثة فعلاً عشقياً مُعجزاً حيث"لا يمكن الجروح أن تلتئم إلا بالكتابة، ولا شيء يهزم الجنون أو الموت إلا الكتابة"ص 40. على ما تقوله مريم الشاعرة في النص، تصف نفسها بأنها"كالزرع تخرج من بطن الأرض، لا أسرة ولا أب ولا وطن ولا عشيق ولا زوج إلا الشعر"ص 52. ومثل مريم تؤمن الفتاة وهي قرينة كارمن في الرواية أو ظلها أو ربما مولودها الروائي بأن الكتابة أقوى من الخوف والموت وأبقى من كل الغرائز، عصيَّة على الشراكة، لها الولاء الأوحد، هي الحياة بكليتها، تفيض وتنبض في الشعر وفي الرواية، ما بينهما يعقد النص صلةً رحميةً، فتخرج مريم"الشعر"و"فتاة الرواية"من صلبٍ واحد، يهبهما انتماءً كونياً يفضلُ سائر الانتماءات ويفوقها في شرط الروح الأعلى، وحده يحقق لهما حريةً لا تحصرهما فيها حدود ولا تغلهما قيود. حرية تُسقط عنهما ال 9أثقال، تزيحها لتنفسح فضاءاتهما وتزول عنهما الحجب فتعرفان، تدركان أن"لا شهوة تفوق شهوة الكتابة"ص 172 تلقحهما بما لا يستطيعه إلا الحب. ولئن كانت الكتابة في الرواية قرين الحب - كما يحلو للسعداوي أن تردد في أكثر من مناسبة - إلا أنها حب مطلق، غير مشروط، يتفلت من كل أسر ويتجاوز حدود الأنوثة والذكورة،"لتتسع لذته لما فوق المشاعر"225. هذا الحب الكلي لا يتحقق تحققه في اللغة الأولى، لغة البدء البريئة من استبداد الذكورة وتفردها، على ما يقوله النص وتؤكده السعداوي في معظم نصوصها البحثية والإبداعية، إلا متى غلبت شهوته فارق النوع بين مؤنث ومذكر، وتحررت الروح الأسيرة من محبسها. غير ان هذا الحب الذي يُميت ويُحيي ونبلغُ الموت في سبيله، تخشاه المرأة الخائفة"تضحي به من أجل الرجل، وتروح الى أوهام حب آخر، لا يعرف إلا اليأس وينتهي بالموت"ص 186. موت تقاومه الفتاة"فلا تسمح لرجل أن يملأ خيالها أو يشبع عقلها أو حتى جسدها، تحاول التعويض عن الحب والحرية بالكتابة، وتقتحم أي تجربة من أجل المعرفة"ص 170، تحت الحاح الغريزة الموسوسة عينها، التي استحكمت بكارمن وحملتها على العيش وحدها"لا تفكر بشيء سوى الكتابة بشهوة تفوق الشهوات الأخرى". لهذا حين يغلبُ الفتاة خوفها،"تخفي شهوتها كالعورة، تظنها وهماً مصنوعاً من الخوف، أو ورماً حميداً أو خبيثاً"ص 162، ولمَّا تنكفئ كارمن خائفة، خائبة وعاجزة عن"فك أسر ذاك الشيء المجهول بداخلها، يشبه المارد المربوط تحاول تحريره بالكتابة من دون جدوى"ص 252، ويثقلها حملُها الروائي، لا يأتيها فيه المخاض، فتمرض وتهزل وتفقد شهيتها للحب وللحياة وتفكر بالانتحار، حينها يهدر صوت مريم محفزاً ومحرضاً على اقتحام الفعل المعجز"نحن نكتب لنعبِّر عن الخرس في أعماقنا، نخاف اللامنطوق أكثر من الموت، ولا نفكر بالانتحار إلا حين نعجز عن الكتابة"ص 461، خلفها نتوارى، لنعيش الحرية، تبرئنا من البكم وتطلق أرواحنا وتردم الهوَّة بين الواقع والخيال. وصوت مريم في النص هو صوت الشعر المتعالي، الطليق من كل أسر، المترفع عن الأنوثة والذكورة، المتحدر من لغة البدء، تعليه رواية السعداوي فوق الأصوات كلها. الصوت الذي يقهر الخوف ولا يخشى الموت تريد له السعداوي ان يصير هو الآخر صوت الرواية، حين تمكن كارمن من فك قيد المارد المغلول، الجاثم في أعماقها، وتحرر روحها لحظة موتها الأخيرة، معه"يتلاشى الخوف من النار، السجن، الجنون وكل شيء"ص 312، ومنه تنتزع بقوة معجزة القدرة على القتل،"لتصبح الكلمة المكبلة بالقيود منطوقة"ص 252، طليقة وحية، فتنجو الرواية/ الكتابة من الاغتيال، تعهد بها مثل حرز شاف، مثل إرث ثمين، الى الفتاة التي لم تعرف أماً ولا أباً، تهبها كارمن نسب الأمومة، تسميها ابنتها روايتها. الرواية الناجية من الاغتيال، المنتصرة على كل أشكال الحصار، تقترن ولادتها بالموت، لا على قاعدة موت الكاتب/ الكاتبة، وفق المقولة النقدية الشهيرة، بل برهاناً دلالياً جازماً على جهنمية الكتابة، بما هي قدر قاتل يفضي الى الجنون والموت، كما في حالة كارمن الروائية التي هي تمثيل كنائي لمي زيادة، وفرجينيا وولف، وارنست همنغواي، تفترس فيروساتها الأنوثة والذكورة... تفترس العمر من الطفولة الى الكهولة مباشرة من دون مرحلة الشباب"ص522 جينات الكتابة الوراثية التي لا شفاء منها"تأكل خلايا الجسم وتقفز فوق سياج العقل ويذعن لها العمر"ترثها الفتاة / الإبنة، يزدوج دورها في الرواية بين الكتابة والانكتاب، لتنمو بذلك بذور الالتباس، يتعمده النص بقصدية واعية، فيفضل في مطارح منه بين الفتاة وكارمن باعتبارهما شخصيتين متناقضتين، مختلفتين، في الوقت الذي يقرن بينهما في مطارح اخرى، لا يقتصر التلميح فيها على تطابق ملامحهما فللاثنتين ذات"التقاطيع المنحوتة من الصخر"ولهما ذات"النظرة الثاقبة كحد السكين"هي ذات ملامح الانثى المتفوقة، تلبسها السعداوي لبطلاتها في نصوصها الروائية"سقوط الإمام"و"الحب في زمن النفط" فضلاً عن انسياقهما بذات الجنون الى الكتابة"فمساحة الاثنتين مشغولة بأوراق الرواية والاقلام المقصوفة والدموع الجافة، تحتضن الواحدة منهما اوراق الرواية كأنها رجل تعشقه، تريد ان تلتهمه حتى النخاع، لتلد منه طفلها"ص971، بل يتحوّل التلميح الى تصريح لا شبهة فيه، عندما يختلط الصوت على رستم، ويحيره الشبه، فيروح يحدث نفسه"تتكلم في الفراش مثل كارمن، ربما هي كارمن او اختها الصغرى او ابنتها. نسخة طبق الاصل عنها، وصوتها يكاد يكون هو الصوت..."ص442. ثم يجزم هي كارمن عن يقين. على ان هذا اللبس الذي تثيره شكوك رستم لا يزول عند هذا الحد، بل تحييه وتغذيه اشارات اخرى مبثوثة في متن النص، تحمل الى سؤال آخر، حول العلاقة الملتبسة بين رواية كارمن ورواية الفتاة - إن جاز استخدام صيغة التثنية للرواية الواحدة - وبين رواية السعداوي تتوارى خلف بطلتيها، تمثلان في النص وجهين لفعل روائى واحد، كأنهما اثنتان في كائن واحد يكتب وينكتب، بمعنى آخر كأنهما تمثيل لسيرة الكتابة الروائية بقلم امرأة، تصير بطلة النص وقطبه الجاذب، لها الانتماء والولاء، وما دونها عبث، على ما تقوله مريم في الشعر، وتسعى اليه الفتاة وتلتزمه كارمن، الكتابة المنجية، المنجبة، تنتشل المرأة من الخوف، النسيان والضياع، تردم الهوة بين خيباتها وأحلامها، بين ماضيها وحاضرها، تعلي صوتها / قولها وتلدها من جديد. في المقابل يحيلنا هذا اللبس الذي تعتمره الرواية فنياً، وعلى رغم الاختلاف الذي تدعيه لها السعداوي، الى نصوص روائية سابقة "لعبة الاطفال الدائرية"،"امرأتان في امرأة"، و"موت الرجل الوحيد على الأرض" حيث يراد للعبة التخفي هذه، على مستوى البناء الفني، ان تؤدي دور الدلالة، تومئ الى المراد منها بالإلماح والتخييل، اجتناباً للوقوع في فخ الخطاب التقريري، لم تنج منه هذه النصوص، طغى عليها هاجس القول النسوي المتستر دوماً بذات التكوين الفني المكرور. وفق هذا الايقاع، تقارب"الرواية"وبانحياز مسبق، اشكالية الكتابة الروائية، فتقيم الفارق بين كتابة امرأة، تبذل فيها كارمن موتها لتنتصر على قيدها التاريخي المزمن، وكتابة رجل، تؤرق سميح المنشغل بالعمل الذي ورثه عن أبيه وجده، يصرفه عن كتابة رواية تحقق له حلمه بأن"يصبح روائياً مثل تولستوي او دوستوفسكي"ص511، وتستعصي معاناتها الجهنمية على رستم فيتلبد خياله ويعجز عنها لأنه"شبعلن ومستريح"وغير موهوب"."جعلوني كاتب كبير بالوراثة، بالواسطة وبالفلوس..."ص731 لذا يتفّه رستم الكتابة، يسفهها، فهي"مجرد كلام على الورق، مجرد تنفيس عن الغضب المكتوب زي العادة السرية"ص631. وفي مثل هذا الاعتراف السافر يسوقه النص على لسان رجل / كاتب، ترميزاً لذكورية السلطة النقدية المهيمنة، تنحاز لبعض الاسماء المباركة سياسياً، تلمعها وتسوق لها بجوائز أدبية يحصد منها رستم جائزة الدولة التقديرية، ما يبطن اتهاماً فاضحاً يدين به الراوي، ومن خلفه السعداوي ارتكابات هذه السلطة المرتهنة والمتواطئة ضد الابداع والمبدعين، يجرّمون بتهمة المساس بقيم السلطة ومقدساتها، فتصادر ابداعاتهم، ويتم اقصاؤهم، لمصلحة اشباه رستم وجمالات، الكاتبة المزعومة التي تتولى في احدى الصحف المعروفة عموداً اسبوعياً يكتبه لها عشيقها المسؤول عن باب النقد الأدبي، توليه جمالات جسدها في مقايضة رخيصة ومنفرة، تستدرج اليها المرأة حين تتورط في ابتذال أنوثتها، حد اغتصاب الذات، بوهم تحققها في كتابة مستعارة ومزيفة، يمليها عليها الرجل، ليكفل امتثالها ويكرس تبعيتها. على هذا النحو تناصر السعداوي كتابة المرأة في الرواية، تبدع الحياة من الموت"كارمن لم تكن ميتة، هي تعيش في روايتها"ص217. وتذهب بكتابة الصفقات والاستقواء والارتهان والتبعية الى العقم والفشل. فيكابد رستم ارقاً أفظع من الموت، يغلبه العجز عن الكتابة، فينتحر ص254 وعلى هذا النحو ايضاً، يعلو مرة اخرى الخطاب الضدي المشاكس والعنيد، يلازم نصوص السعداوي، على اختلاف مقارباتها الابداعية في القصة والرواية المسرحية، الخطاب النسوي عينه يستبد ويطغى، في قصدية نافرة، تذهب بالمتعة الفنية، وتقيم الحد بين ضدين عدوين، لن يسع اي خطاب سلبي، مهما طال اصراره، ان يجمع شملهما ويصلح الود بينهما.