تعود نوال السعداوي في روايتها الجديدة «إنّه الدم» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2014) بصورتها المتمرّدة وبأسلوبها الثائر ونبرتها الدافعة إلى التحرّر وكسر القيود. لكنها تختار هذه المرّة أن تكتب رواية الثورة المصريّة عبر سرد مباشر من ميدان التحرير وقصص نسائه وشبابه والدماء التي أهرقت فيه. لم تضع السعداوي عنوان روايتها في شكل اعتباطيّ، فالقارئ يشعر بحرارة الدم بين يديه وبلونه الأحمر أمام عينيه. وليس الدم هنا هو دم الحياة أو الولادة الجديدة، لكنه دم الموت والتضحية، بل قلْ علامة العذاب والألم اللذين تمرّ بهما الشخصيّات. يؤطّر الدم الفضاء السردي، لنجده أوّلاً في ميدان التحرير مع مئات بل آلاف الجثث المكدّسة الواحدة فوق الأخرى، من دون إمكان تبيان هويّة الضحايا «قُتل الآلاف بالرصاص الحي أو الغازات أو التعذيب، لم تعثر الابنة على جثّة أمّها، ولم تعثر الأمّ على ابنتها، كانت الجثث تختلط بعضها ببعض، تتلاشى الفروق بين البشر، يساوي الموت بينهم» (ص11). ويعود الدم ليظهر في مشهد الولادة، وبينما يكون الدم في الولادة رمز الحياة والحريّة والبداية الجديدة للأم والمولود معاً، يتجلّى في هذه الرواية على أنّه إكمال لسلسلة العبوديّة وقيد جديد يُضاف إلى قيود الأم ومولودها. فبدلاً من أن تكون الولادة حدثاً سعيداً في حياة الأم، تتحوّل الولادة إلى عمليّة خطرة، يستمرّ من بعدها النزيف مهدداً بخطر الموت. فالولادتان الأساسيّتان في الرواية (ولادة فؤادة لابنتها داليا، وولادة سعديّة لابنتها هنادي) تجريان في السجن، فتكونان ولادتين صعبتين، تضطرّ فيهما الأمّ إلى إسعاف نفسها بنفسها، ليتحوّل الدم إلى تجسيدٍ للألم والوجع والحبس. أمّا المشهد الثالث الذي يظهر فيه الدم بوضوح، فهو حين يعتدي شاكر (زوج فؤادة) على هنادي (ابنة سعديّة)، فيطغى الدم على المشهد ويتحوّل إلى كلّ ما يتذكّره القارئ من هذه الحادثة «رائحة الدم تتبعها مثل ظلّها، فوق الأسفلت في الميدان، والدم في السجن فوق الأسمنت، والدم في المستشفى، والدم في الزقاق وفي كلّ مكان...» (ص217). ولا تنفكّ رائحة الدم تسكن هنادي وتطاردها، ونراها تصف دمها بأنّه دم فاسد، على الرغم من أنّها هي الفتاة البريئة، ابنة السادسة عشرة ، التي تتعرّض للضرب المبرّح نتيجة عمل لم تستطع منع وقوعه. ولا تنتهي مأساة هنادي مع الدم عند هذه المرحلة، فبعد عمليّة الإجهاض، تضعف الفتاة المراهقة وتخور قواها وتنزف لأكثر من أسبوع. غياب خادع ورغم غياب الدم ظاهراً من حياة فؤادة الصحافيّة القويّة العنيدة المتشبّثة بالصدق والعدالة والقيم الأخلاقيّة والانسانيّة، نجدها تنزف بصمت في كلّ معركة تخوضها مع مدير تحرير الصحيفة الذي يحاول كبح جماحها ومنعها من قول الحقيقة والمطالبة بالحقّ. نراها تنزف في كلّ مرّة تسمع فيها نصيحة صديقتها كوكب، الصحافيّة الأخرى، التي دائماً ما تحضّها على كتابة ما يريدون منها كتابته لتتمكّن من النجاح والتألّق وبلوغ مراكز عالية. ينصح الجميعُ فؤادة بتجنّب الحقيقة وبالسير مع التيّار، لكنّها ترفض الانصياع وينتهي بها الأمر بالاستقالة من «الجورنال» قبل أن تُطرد منه. نراها تنزف في كلّ مرّة يقع نظرها على زوجها شاكر، رجل تزوّجته لأنّه كتب لها الرسائل، ومشى في التظاهرات معها، ودخل السجن مثلها، وكتب عن حقوق المرأة باحترام وتحضّر كما تكتب هي، ووصف العالم كما تحلم هي أن تراه. لكنّ شاكر رجل منافق، لا يؤمن بما يكتب، ولا يعيش وفق القيم التي ينادي بها. فنراه يكره فؤادة ويغار من نجاحها وينفجر في لحظات ضعفه ليتحوّل إلى شعلة سخط، إلى الرجل الحقيقي المختبئ تحت أقنعة الهدوء والتحضّر. وفؤادة امرأة عاجزة عن حبّه أو حبّ صديقتها أو أحد من المحيطين بها. وحدها الكتابة تجذبها، فهي امرأة تكره الفساد والظلم والاستبداد كما تكره القيود والعجز والفتك، وتكتب لتُخرج المجتمع من الظلمات العفنة التي يقبع فيها منذ سنوات، تكتب بِقِحَةٍ وجرأة لا يردعها عنهما شيء: «كرهتُ المدرسة والبيت وأبويا لأنّه بيظلم أمي، وكرهت أمي لأنّها تقبل الظلم، كرهت الدنيا كلها، ابتديت أكتب لأكشف الظلم، كنت بأحلم بالعدل.» (ص60) ولا يمكن ألاّ يتساءل القارئ إلى أيّ مدى تشبه فؤادة نوال السعداوي؟ إلى أي مدى صبّت الروائيّة في بطلتها مزايا شخصيّتها وثورتها ورغبتها في فضح الظلم والفساد؟ إلى أيّ مدى تبنّت ثورة السعداوي وعشقها للكتابة وبحثها الدؤوب عن العدل؟ إلى أيّ مدى فؤادة هي نوال؟ تضارع بنية رواية السعداوي بنية رواية طه حسين «دعاء الكروان» التي يبدأ فيها السرد من نقطة معيّنة، ثمّ يعود منها إلى ماضي الشخصيّات، ومن بعد الانتهاء من الاسترجاع الطويل الذي يستحوذ ما يناهز نصف الرواية، يعود إلى الحاضر، أيّ النقطة التي بدأ منها روايته ليكمل سرده في الحاضر. فكذلك تفعل السعداوي، تبدأ سردها بميدان التحرير، تُعلم القارئ بمصير الشخصيّات وما آلت إليه أمورهم، تصف له حاضرهم ومجريات يومهم والحروب التي يخوضونها، ثمّ تعود إلى ماضيهم. تعمد إلى الاسترجاع لتبرّر سبب وجود هؤلاء النسوة في خيمة في ميدان التحرير، لتبرّر موت جلال أسعد وغيره من الشبّان. وبعد الاسترجاعات الطويلة وفي كل الحبكات التي تُثري الرواية وتمنحها واقعيّتها الاجتماعيّة، تعود الكاتبة بشخصيّاتها إلى الخيمة، إلى الحاضر، إلى هتافات «يسقط النظام». لكنّ الراوي في هذه الرواية ملتبس الوجه، فهو تارة شخصيّة من الشخصيّات النسائيّة التي تتكلّم عن نفسها لما لا يتعدّى العشر صفحات، وطوراً هو صوت الراوي الخارجي الذي يعرف كلّ شيء ويرى ويسمع ويحلّل ويقدّم الحقائق وخبايا الأمور. فتبدأ الرواية بدالية ابنة فؤادة التي تصف الخيمة من وجهة نظرها، ثمّ يعود السارد الخارجي إلى التحدّث عن الشخصيّات وقصصها، ليتدخّل صوت إحدى الشخصيّات ويتسلّم زمام السرد من بعده وهكذا دواليك. وهذا التبديل في الأصوات الروائيّة لم يكن سلساً ولا مبرّراً ولا واضحاً، وأثار في عدد من الأحيان الالتباس، رغم الحركيّة التي منحها للنصّ. تختار السعداوي أن تنهي روايتها بصوت الرئيس، مسبّب الثورة والرجل الأكثر استهتاراً بالنساء: « فيه إيه بيحصل في البلد؟ / ولا حاجة يا فخامة الرئيس./ أنا سامع أصوات؟ / شويّة نسوان بيضحكوا مع بعض./ كده خليهم يتسلّوا.» (ص279). تختار السعداوي أن تترك للرئيس أن ينهي روايتها بعد ما سردت قصص نسائها ومن بعد أن أوصلتهنّ إلى الثورة والتمرّد والخروج إلى الشوارع. وبينما تترك الكاتبة روايتها مفتوحة على تهكّم الرئيس وسخريته من النساء، يعرف القارئ أنّ النساء هنّ اللواتي يظفرن في نهاية المطاف، وهنّ اللواتي يُسقطن النظام، فلم يستطع الرئيس، رغم قوّته وسلطته وجبروته، أن يقف في وجه الثورة والنساء والعدل والكرامة والحريّة والدم.