تحسب وأنت تقرأ الرواية الثانية لأحلام مستغانمي "فوضى الحواس" * او الجزء الثاني من "ذاكرة الجسد" انك تقع على متعة تعادل متعة الكاتبة وهي تحنو على الكلمات حنو الأم وحدبها، وتنحتها بأنامل انثوية، ولذّة مقرونة بلذّة الولادة وعذابها. ولا عجب اذا ساورت القارئ احاسيس كهذه مشتقّة من قاموس الأمومة، ما دامت القاصّة تحتجب خلف بطلة عاقر، تجدد حياتها بتوليد الكلمات، وبما يتناسل من قلمها من كائنات حبرية تندرج على القرطاس، وتسترد بالكلمات ما حُرمت منه في الحياة من قدرات وأفعال، وتجعل من التركيب السردي بديلاً عن قول تعجز عن قوله كأنثى، على حد تعبير عبدالله الغذامي، وتقرأ العالم بعينيها وحواسها وجسدها وذاكرتها، وتحاول ان تستحوذ على العالم، عالم الرجل بالتخييل وبسلطانها على الكلام واللغة، ما بقيت مملوكة في الواقع لعالم الرجولة التي "تأمر، وتقرر، وتطالب، وتحمي، وتدفع، وتتمادى" وتجرّدها من أنوثتها وتغتصب حقوقها. بالكتابة تشرّع القاصة ابواب حريتها الداخلية، وترسم مدارات عالمها الباطني وأحاسيسها المتفجّرة، وتمارس وهم التفوّق والتمايز، ووهم تبديل وجه العالم من خلال الحرف، وبعبارة أخرى، تكتب لتختبر قوة الكتابة ومنطقها، إزاء منطق الحياة الذي يجعل من بطلتها رهينة زوجها الضابط الكبير ومزاجه السلطوي، في حين ان الكتابة تعتقها من واقع الكبت والاضطهاد المعنوي لأنوثتها لتحلّق بها عوضاً عن ذلك، في فضاء الحبر والحلم. البطلة تعيش الكتابة كما تعيش الحياة، بل تعيش الحياة على هامش الكتابة، وتتحول الكلمات في النص الى مظلة تحمي من المطر، والعاشق يوقف سيارته بين جملتين!. وإذ تأخذ الكتابة مأخذ الحياة، فإنها تمحو الحدود الفاصلة بين المتخيّل والواقعي، وتكتب الرواية كاتبتها، وتذهب بطلتها الى موعد ضربه لها رجل الحبر والورق الذي صنعته بنفسها، بل ان العلاقة هذه التي تقيمها البطلة مع صنيعها تؤلّف البؤرة الروائية الأساسية في "فوضى الحواس"، علاقة تتميز بازدواجيتها، فهي بين الكاتب وشخوصه، وبين المرأة داخل الكتابة وخارجها، وهي بمثابة حوار باطني بين الأديبة كذات انسانية والأديبة كذات ادبية. وإذ يبدي الزوج انزعاجه من جلوس البطلة لساعات امام طاولة الكتابة، بدل تخصيصها هذا الوقت لطفل لا يأتي. انما يرى في مخاض الكتابة أمومة بدلاً من ضائع، أمومة مزيّفة، وانحرافاً عن دور الأمومة الحقيقية التي أرستها الطبيعة وأقرّها المجتمع ومجّدها وعدّها أولوية من أولويات الأنوثة الحقّة. وحيال عقم البطلة وحرمانها من الإنجاب والخصوبة البيولوجية، تسعى الى بديل الكتابة والتخييل الروائي. الخصوبة العقلية والفكرية، عوض الخصوبة البيولوجية والطبيعية. لذا تحبل بذلك الرجل الورق الذي يجعلها تكتشف حواسها، ويكبر داخلها كل يوم. تمارس أدبيتها بدلاً من ممارسة أمومتها، وتخترق العالم بنصّها المضاد لفضاء العداء والكراهية والحقد وشوارع الغضب الجزائري وأزقّة الموت المباغت والمفخخ، وزمن السجون والاعتقالات والتجاوزات، وغياب الشهداء والشهود، وانحراف الثوار القدامى، وانتشار ظلامية المتطرفين. والنص بمقدار ما هو مضاد لعنف الرجولة الكاذبة، فهو سيمفونية عشق للأرض والوطن، ولأحد رموزه محمد بوضياف الرئىس الشهيد الذي تهدي اليه أحلام مستغانمي روايتها الجديدة. وتحضّنا هذه العلاقة الجدلية التي تقيمها الكاتبة بين بطلتها والرجل الذي يخرج من بين سطورها بشراً سوياً، على التساؤل عن مكانة الكتابة في حياتنا، وعن صحة انحيازنا الدائم والمسبق الى الحياة على حساب المكتوب، وإلى الواقعي على حساب الوهمي، خصوصاً ان الكتابة تطرح في كثير من الأحيان اسئلة لم تكتشفها الحياة. كذلك تضعنا هذه العلاقة الداخلية بين الكاتبة وما تكتبه امام كيفية تكوّن العمل الأدبي والروائي من جهة. والسؤال من جهة اخرى: إذا كانت الكتابة حصناً يحمي الكاتبة من ضعفها الأنثوي، او وسيلة ناجعة لإقامة توازن نفسي ووجداني مع فضائها الاجتماعي، او ان الكتابة ليست إلا ثمن انوثة مهدورة لن تُستعاد واقعاً فتُستعاد تخييلاً. ومستغانمي في روايتها قوّضت منطق البنية البطريركية التي نظرت الى المرأة بصفتها مصدراً من مصادر حرارة الخلق والحياة والطاقة الإنجابية. وحلّت الكاتبة مكانها الكتابة بما هي طابع عقلي وثمرة من ثمار التوليد الفكري والذهني، وعامل خلاّق يبتكر الفضاءات والشخصيات والعوالم البديلة، ويليق بمكانة المرأة وكرامتها وعقلها. ولكن القاصّة لم تقاوم الذكورة إلا بمقدار ما قاومت الأنوثة الخاضعة المستكينة لقدرها. كأنوثة الأم وصويحباتها "نساء الضجر والبيوت الفائقة الترتيب، والأطباق الفائقة التعقيد، والكلمات الكاذبة التهذيب، وغرف النوم الفاخرة البرودة، والأجساد التي تخفي تحت اثواب باهظة الثمن .. كل ما لم يشعله رجل". هنّ نساء الاستكانة اللاتي تطبّعن بقيم المجتمع البطريركي ومعاييره وسننه. ينفقن الوقت في الثرثرة الفارغة والمباهاة المصطنعة والتطلعات المحدودة. وفي كل ما يدل على هامشية دورهن ولاجدواهن. والأم مثلهن تواصل حياتها بعد موت زوجها شهيداً في حرب الاستقلال بجسد غريب عنها لا يمتّ لها بآصرة، او قل بجسد متقاعد او انوثة معطوبة بحسب عبارة مستغانمي. اما الأنوثة الحقّة فهي انوثة الأرق والأسرّة غير المرتبة، والأحلام التي تنضج على نار خافتة، وفوضى الحواس لحظة الخلق، الفوضى التي تشبه "الكاوس" الكوني قبل ان يستقر ويحدد مساراته وينتظم في مداراته الثابتة والدائمة. وبإيجاز، فإن الأولى انوثة الواقع والتقليد، والثانية أنوثة الكتابة والقلق والاختلاف. بيد ان بطلة مستغانمي التي تقف بين كوكبة من الرجال فيهم: زوجها العميد في الجيش الجزائري، وأخوها المقرّب من الأصوليين، وخالد رسام الذكرى، وطيف الأب شهيد الاستقلال، وعلى رأسهم رجل الوهم الكتابي. لا تنظر الى هؤلاء او تقرأ رجولتهم قراءة معادية او عنيفة إلا بمقدار ما يلابس وجودهم او موقعهم الوظيفي او الاجتماعي او السياسي رجولة الجبروت والتسلّط او العنفوان الذكوري او التعسّف العسكري. بل إن بعضهم تجلوه الكاتبة وفق تكامل ذكوريته مع أنوثتها. وبمقدار ما تحسن الرجولة التواضع مع الانوثة او الاندراج في اطار الشعور الإنساني العام، وكأنما يشكل الرجل في ذهن البطلة "الأنيموس" اليونغي او الحجم النفسي المذكر لدى كل امرأة، مقابل "الأنيما" الحجم النفسي المؤنث عند كل رجل. لذا فان احلام مستغانمي لا تنتج في روايتها "فوضى الحواس" معنى الأنوثة المضادة للرجولة. الأنوثة المدمّرة المهتاجة الحاقدة والمتحيّزة، انما تحاول بأنوثتها الدينامية المبدعة ان تفهم الآخر، فتحاول استيعاب اخيها ناصر المقرّب من الأصوليين رغم كراهيتها لهم، وتلوذ بأبوّة ابيها الشهيد الذي فقدته منذ الطفولة، وترسم صورة الرجل الورق على إيقاع احداث الوطن. فالقاصّة لا تنتج هنا إلا معنى الأنوثة والرجولة في اتحادهما واكتمالهما وتواصلهما. وإذ لا تفصل همّها الأنثوي عن همّها الوطني كما كان شأنها في روايتها السابقة "ذاكرة الجسد". فإنها تجعل بطلتها تتجاوز نرجسيّتها الأنثوية واستيحاءاتها الجسدية وتهويماتها المحبوسة لتنسجها على خلفية المعاناة الوطنية، وتستدمجها في لحمة الشهادة للوطن وذاكرته النازفة والآيلة الى الاندثار. فتغتذي الكتابة الجسدية والأنثوية في هذه الحال رغم دلالاتها الشبقية وتجلّياتها الحسّية بدلالات اجتماعية وسياسية متعددة. وتتحول الى مرايا للفكر والوجدان. وإذا كان الحب الذي يغلّف سيرة البطلة ويأخذ بمجامع قلبها وحياتها وخيالها ينبئ بموضوع عادي أضاءته من قبل كتابات نسائية عربية سابقة، فانه في "فوضى الحواس" وفي فضاء الجزائر بلد الكاتبة يغدو امراً غير عادي، لأنه ينمو في وسط فضاء سياسي واجتماعي يقتات من ذاكرة دموية تنشر الغضب والضغينة، وتشكل علاقة الحب بين رجل وامرأة تحدياً وفضيحة بل "اكبر عملية فدائية تقوم بها امرأة جزائرية" وفق عبارة القاصّة. من هنا يتواشج الهمّ الفردي بالهمّ الجماعي، ويأخذ حجم الجسد حجم الوطن. في رواية تكتبها مستغانمي الشاعرة قبل ان تكون القاصّة، وعالمة الاجتماع قبل ان تكون الأديبة، يتجلى هذا التوليف الصعب بين لغة شاعرية تشكل جسد هذا النص البديع، واللغة السردية التي تضيء بنية عالمها وهندسته، بين المنحى الحلمي والمنحى الواقعي. نقرأ لغة عاشق مولّه بمعشوق ليس هو إلا هذه اللغة العربية الأخّاذة بمجازاتها واستعاراتها. لغة عشق قرأناها سابقاً في "ذاكرة الجسد" عندما زاوجت الكاتبة بين شكل الأحرف العربية وروحها وإيحاءاتها وقيمها التشكيلية والتزيينية الرقشية. وا تزال هنا منجذبة الى جماليات اللغة ومخزونها البلاغي وقدراتها التعبيرية والدلالية. وبالتوازي مع هذا الانبهار اللغوي تقف القاصة في كثير من بؤر الرواية موقف عالم الاجتماع لتضيء في نصها السردي على البنيات النفسية والاجتماعية والتمظهرات الجسدية عند الرجال وعند النساء خصوصاً، مثل علاقة الجسد بما يرتديه، وطقوس الاستحمام داخل الحمّامات النسائية العامة، ولغة الأيدي والاشارات وسوى ذلك من تحليل للنظرات والأصوات والعلامات. وكل ما يدل على ان وراء هذه القراءة المتبحّرة والواسعة والعميقة امرأة مثقفة، وكاتبة مترددة بين ايجاد ذاتها وأنوثتها في الكتابة وفي الكلمات والحبر، أو اكتشاف كينونتها وجوهرها داخل العالم وخارج النصوص. * صدرت عن "دار الآداب" بيروت - طبعة أولى 1998 - 375ص.