منذ الصفحات الأولى لكتاب نزيه أبو نضال "تمرّد الأنثى"، الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004، يراود القارئ تفكّر مشاكس، فيستذكر ما اتفق عليه معظم النقاد ودارسي الأدب حول قصر تاريخ الرواية العربية بالقياس الى الغرب، ثم يعطف هذا التاريخ على عنصرية التصنيف الأدبي الذي أغفل رواية المرأة. كانت السبّاقة الى هذا الفن أليس البستاني والأكثر اقبالاً عليه عائشة التيمورية، زينب فوّاز، لبيبة هاشم، استبعدها نسب أول اصدار روائي الى رجل هيكل، هذا بصرف النظر عن القيمة الفنية لهذه الروايات الأولى مجتمعة - ومعيارها الغرب طبعاً. ولا مراء بأن الرواية النسائية، قياساً بالسابق، تحظى هذه الأيام على وجه الخصوص برعاية خاصة ومكثفة، لا سيما من الكتّاب الرجال، يقاربون اشكالياتها إمّا حرصاً على موضوعية أدبية لا تستثني الآخر ولا تفرط بما يكتبه، وإما انسياقاً وراء موضة رائجة. وفي الحالين، يتورطون من حيث يعلمون أو لا يعلمون في جدل لم تُحسم نتائجه بعد، لجهة قيمتها الإبداعية وشروطها الفنية، اضافاتها وخصوصيتها. واللافت ان بعض من شغلتهم رواية المرأة، فصرفوا الوقت والجهد للبحث في خصائصها - مادة وتكويناً - يقعون منذ البداية في تناقض سافر، إذ يوطئون لأبحاثهم بمقولة تكاد تتكرس لازمة مكرورة تتردد باستمرار، حيث يسبغون نعمة الإبداع على كتابة المرأة وينزهون الإبداع عن الجنسوية في الآن عينه، جازمين بأن الأدب لا يمكن أن يكون نسائياً أو ذكورياً". غافلين تماماً عن خصوصية التجربة الإبداعية المشروطة بشرط النوع، تقويم الاختلاف بين أدب/ ذات امرأة وأدب/ ذات رجل. مدججاً بهذه اللازمة "الشعاراتية" يدلف نزيه أبو نضال الى الرواية النسوية العربية 1885 - 2004، معرجاً على وضع المرأة العربية عموماً الأردنية خصوصاً "باعتباره جزءاً من تراتبية قمعية شمولية تطاول مختلف تفاصيل وجزئيات حياتنا الاجتماعية، ص 18، ليكشف عن الهاجس المحوري الذي يشغل روايات المرأة، محدداً "مركز الخلل" الكامن وراء ما يُفشل "تمرّد الأنثى" إبداعياً، ويعوّق معركتها لاسترداد موقعها الصحيح، وهو ما يحتاج في نظره الى "زمن طويل وجهود مكثّفة" ينبغي حشدها لمجابهة الواقع بهدف خلخلته وهدم ثقافته العنصرية، تمهيداً لتغيير هذا البناء التراتبي القمعي. ينطلق أبو نضال في مقاربته لإشكالية الرواية النسوية العربية ومكوناتها من سؤال صورة المرأة في رواية المرأة، من خلال تجلياتها كافة، في صورة الأم، الزوجة، الخادمة، الحبيبة، العذراء، المومس والمناضلة. فيسود ما يزيد على الثلاثمئة صفحة يصنِّف محتوياتها في أبواب شاء أن يقصها على سبعة، لا يُفضي واحدها الى الآخر كما في الحكاية الشهرزادية، ولا يكتمل بها رمز السماوات السبع، مما يضيف الى غواية العنوان غواية الرمز الذي يظل قاصراً عن تلبية وظيفته الدلالية أو الإيحائية المنشودة. وإن كنا لا نجادل كاتباً في عنوان يختاره، إلا أن الجدل يصبح مشروعاً متى خالفت دلالة اللفظ المختار المراد المقصود منها في الحقيقة أو في المجاز. فالتمرد على ما يعرّفه أبو نضال في علم الاجتماع، هو محاولة فردية لتغيير الواقع، وهي محاولة محكومة بالفشل بالنظر الى فرديتها، بحسب تعبيره. أما في المعنى الفلسفي، وبحسب تعبيره أيضاً، فالتمرد فعل التحدي الذي يمارسه الفرد ضد قوى عاتبة لا يستطيع الحاق الهزيمة بها، ص 25. هذه القوى ذات القدرات الأسطورية يضعها أبو نضال في موازاة قوى الهيمنة الذكورية المتسيّدة ماضياً وحاضراً. لم تجد في زحزحتها محاولات فردية خاضتها وتخوضها المرأة/ الكاتبة لإرساء موقع أدبي خاص يكفل استدخالها ضمن البؤرة المركزية للإبداع متوسلةً الى ذلك أشكالاً مختلفة تمثلت - والتقديرات للكاتب - بالحرب ضد الرجل/ الذكر في الغالب الأعم، أو بالتماهي في نظرتها الى ذاتها مع نظرة الرجل في أحيان قليلة، ثم في حالت نوعية أخرى، بخوض صراع تُشرِك فيه المرأة الرجل ضد كل أشكال التخلف التاريخي، الاجتماعي والثقافي، ص 10، يدفعها الى ذلك هاجس التحرر الاجتماعي، السياسي والجسدي. وعلى هذا يسوق أبو نضال أمثلة من نصوص روائية يستنطقها ما يدعمُ به تعريفه لتمرد الأنثى/ الكاتبة، تُمنى بالهزيمة دوماً، وتؤول محاولاتها، بمختلف توجهاتها، الى الخسران، فلا ينالها من تمردها سوى ما نال سيزيف من صخرته ص26، تجرّ أثقالها وتستمر تكتب عساها تبلغ قولاً جديداً لم يقله بعد الرجل/ السيد، فتحقق وجودها وتؤكد ذاتها، لكن لعنة السقوط تلاحقها وتلازمها الهزيمة، إذ تنتهي بطلة ليلى العثمان وسمية الى الموت غرقاً حتى لا يراها حراس الشاطئ مع حبيبها، تسقط "زهرة" حنان الشيخ برصاص القنّاص الذي وهبته جسدها الممتنع عن اللذة، وتقتل "عين الحياة" في رواية السعداوي ثمرة الدنس وتذهب الى الجنون، فيما تهرب بطلات أمل شطا من جحيم المجتمع الى ملجأ للعجزة والمنبوذات من النساء، ص 15. على هذا النحو تتكرّس الشخصية النمطية في رواية المرأة والقول للكاتب خارج سياق الواقع الموضوعي الثقافي والاجتماعي والتاريخي، فتنحرف الأنثى بمعركتها بعيداً، تروح الى "الاحتجاج المادي يأخد شكل إطلاق الحريات الجسدية بالمعنى الجنسي باعتباره الحد الأقصى للتعبير عن هذه الحريات"، ص 15. وعلى هذا النحو أيضاً، تتهاوى الفكرة المتمردة، تبقى مجرد رغبة عارمة بتحقيق ولادة جديدة، عالم متغيّر أو قول خاص ومختلف، لن يتحقق على ما يبشر به أبو نضال، في الإحالة الى ارنست فيشر، "عبر خطاب سياسي واجتماعي، لكن عبر نص إبداعي صادق وحقيقي، حتى يستطيع أن يفعل ويغيّر" ص 18، الى أن يحين ذلك ثمة "قرابين كثيرة ينبغي دفعها مع كامل استحقاقاتها على مساحة الإبداع النسوي، وخصوصاً في الرواية". في ضوء ما تقدم، نستوضح نزيه أبو نضال عما يحمل الكاتبة الى تنميط بطلاتها، هل هو الخلل الفني أم هو خلل اجتماعي عميم تمكر به الكاتبة، فتصوغه في أبشع صوره وأكثرها استفزازاً، فالتنميط واقع يشرط حياة المرأة ووجودها، وهو الى هذا مصير لا تلقاه وسمية أو زهرة أو عين الحياة، بل يصيب بطلات أخريات لروائيات يسقط عنها أبو نضال صفة النسوية بالنظر الى عدم افراطهن بهاجس المرأة وقضيتها - لكأن الكاتب، رجلاً أم امرأة، يعدم خصوصيته التعبيرية حين يتناول الشأن العام - هذا، ناهيك عن التنميط الذي نقع على قرينه في روايات الرجال حيث تنمّط الأنثى باعتبارها موضوعاً وليس ذاتاً، وحيث لا يزال الكاتب العربي، على رغم كل ادعاءاته، يُخضع المرأة في خطابه الروائي السائد لنمط الصورة المشتهاة في المرآة الاجتماعية، فتذهب بطلات الكثير من كبار الكتّاب الرجال الى الانتحار والهستيريا والنبذ أو التوبة والانصياع والامتثال. بهذا المعنى، يبرز تمرد الأنثى في رواية المرأة احتجاجاً على تنميط صورة الأنثى في كتابة الرجل، وتماهٍ بهذه الكتابة في الآن عينه. حيث ان ما يعطب هذا الاحتجاج يتمظهر في قصور الذات المغيّبة عن استرداد ذاتها في معركة نجزم بخسرانها، لا حين تنحرف بعيداً من مسارها خارج السياق السائد ثقافياً، اجتماعياً وتاريخياً، فتطلق البطلة ومن ورائها الكاتبة الحرية للجسد وتجترئ على البوح بنزواته، بل حين تُغيبُ هذا الجسد أو تكرّس مشروعية ابتذاله أو اختزاله الى مجرّد آلة للإنجاب أو الإمتاع والمؤانسة. فتتطابق حينها صورة المرأة في رواية المرأة مع صورتها في ذهن الرجل وروايته وتذهب البطلات المتمردات في خاتمة الروايات النسائية الى مصير يحكمه السياق السائد موضوعياً، ثقافياً، اجتماعياً وتاريخياً، السياق ذاته الذي يقاضي أمثالهن بالموت رجماً، انتحاراً، غرقاً جنوناً وهستيرياً حين يغادر الجسد آلته القمعية ويتمرد على العبادات الطهرانية التي جعل أصلاً من أجلها، في عرف الذكورة ومسلماتها. أما فرضية أبو نضال باستحالة وجود البطلة التي تحلم الكاتبة بوجودها، ص 21. فتحلها الكاتبة محلها وتلبسها أفكارها. فالأمر، بخلاف ما يدعيه صاحب الفرضية، لا يضير الشخصية الروائية ولا يسقط عنها الشرط الفني والموضوعي بذريغة تعارضه مع شرطها الواقعي، بل وحده الإرث الاجتماعي الثقافي والتاريخي من سيتهدده العطب ويتحول عن مسار ربما آن الأوان لتغييره لمصلحة الإنسان بثنائيته، على قاعدة ارث فني مغاير تتمثل فيه وتشرك ابداعات روائية نسائية شجاعة ورائدة تخالف المألوف وتخرج عن طوع المعايير المطلقة أباحت ما تشاء وحرّمت ما تشاء. استيضاح آخر نطرحه على أبو نضال: لئن كان الأدب كما سائر الفنون والعلوم والمعارف انجازاً ذكورياً رعته وكرسته سلطة ذكورية منحازة ومتفردة تُفتي لحفظ بقائها ودوام سلطتها بمعايير وأحكام لا تعترف بالاخر ولا تلحظ تمثيله ما خلا استضافات شكلية ومهمّشة تصير ملكاً أحادياً يحتكر القوامة داخل كل ما ينتجه الواقع في الفكر والسياسة والتاريخ والاجتماع والأدب الروائي بالطبع، لا تشرك في ملكها الجنس الآخر يظل مقهوراً وعاجزاً سيّان تمرد في الواقع أم على الورق، تراود المرأة الكتابة على مساحاته البيض تُسكِنُها شخوصاً تكاد تتحول كائنات حية تشهر تمردها في السلب والايجاب، في الحرب والسلم، أو ربما في التواطؤ أيضاً لما يرتقي وعي الكاتبة وتدرك أنها والرجل ضحيتان لسلطة قمعية واحدة. أفلا يغدو التبجج عندها بلا جنسوية الأدب وهماً مظلّلاً، ترهات لا نصدّقها. ما دامت الذكورة هي الفعل والفاعل، ولجنسها الغلبة والقول الفصل، وما بقيت الأنوثة جنساً مقصياً وممحواً لا ذات حقيقية يبدع عنها خارج الصورة المدسوسة بقوة القهر والإتباع؟ وهل يجوز القول بعدها إن الأدب منجز انساني وشمولي، لا نفرق فيه بين فاعل أو فاعلة؟ بل حتى تبرئته من عنصرية جنسوية مستبدة تستأثر بأحكامه، تنتجها وفق ما تشاءه الذكورة المتألّهة تطيعها الأنثى/ الكاتبة وتعيد في الكتابة انتاجها خارج الذات الغائبة والمغيّبة، فتقع في فخ التماثل والاتباع، أو تتماهى باستبداد الذكورة فتنتزع منها العرش وترثها في الطغيان والتفرّد. وفي كلا الحالين لا تبدع عن ذاتها ولا يثمر تمرّدها سوى أوهام الذات المستعارة؟ تمرّد الأنثى الذي سيظل صراخاً أجوفاً مهزوماً ما دمنا نعفّ في النصوص الروائية على وجه التحديد عن الخصوصية الجنسوية للكاتب/ الكاتبة، ونغفل التمييز بين صوت الفاعل وصوت الفاعلة بزعم ان للأدب صوتاً إنسانياً واحداً لا يخضع للتصنيفات الجنسويّة، حيث ان الكثير من روائع الأدب لا يشير إذا ما أُسقط عنه اسم الكاتب/ الكاتبة الى هوية صاحبه صاحبتها بحسب ما يدّعيه أبو نضال ص 276، وهو ما نخالفه ونرى فيه تجاوزاً لواقع هذه الروائع بصرف النظر عن روعتها التي يتّبع فيها ابداع المرأة ابداع الرجل، يشاكله ويتمثل به فتنتفي الخصوصية وتضيع الفوارق بين كتابتيهما. الفوارق التي يحصرها عبد الكبير الخطيب في طبيعة الموضوعات المطروحة على قاعدة تفاوت الاهتمامات بين الجنسين، يتبناها جورج طرابيشي ويشقها نصفين، فيجعل للرجال منها نصيب العقل، فيما يخلي للمرأة ساحة الوجدان. هذه القسمة التي تشطر التعبير الأدبي شطرين، يتكئ عليها أبو نضال ويستهلّ بها مطالعته حول قصور الوعي في الرواية النسوية العربية، متذرّعاً بأن المرأة/ الكاتبة "في تقديرنا، هي الأقدر على رصد أزقة المرأة وحواريها الداخلية، وكشف عوالمها المتقلبة ص 11، مستشهداً بمقولات رجالية غالب هلسا ومقولات نسائية آني لوكليرك. نختتم استيضاحاتنا بسؤال أخير لأبي نضال الذي يجيّر للمرأة قدرات هي غير قدرات الرجل، عما يقوله في آنا كارنينا التي برع تولستوي في تصوير انفعالاتها ورصد أزقتها الداخلية وكشف عوالمها المتقلبة كما لم تفعل كاتبة في ذلك الزمن. هذا ناهيك عن أمثلة لا تحصى يفوق فيها الكاتب الكاتبة في التعبير عن وجدانها. في المقابل قد تصح دعواه في أن الكثير من الأدب الروائي الذي كتبته المرأة لا يندرج ضمن ما يسمى بالرواية النسوية التي تنشغل بقضية المرأة بحسب تعريف أبو نضال مثاله على ذلك "غرناطة" لرضوى عاشور. لكن ما الذي تملكه هذه الرواية، وروايات كثيرة مثلها، من سمات الخصوصية الأنثوية والإبداعية ويفرّقها عن روايات الرجال ما خلا اسم الكاتبة سيما وانها قاربت مدارات العقل التي تدور في فلكها اهتمامات الرجال، على وجه التخصيص، وفق القسمة المشار اليها آنفاً؟ لن نجادل أبو نضال في أكثر من ذلك، ولن نقارب قراءاته لبعض النصوص المنتخبة في كتابه حيث يبان التناقض، على سبيل المثال لا الحصر، فيما أورده حول "زهرة" حنان الشيخ التي تقدّم جسدها الممتنع عن اللذة، وتنتهي الى الجنون والموت برصاص قنّاص ص 25، "تشعر معه للمرة الأولى بالمتعة، وبأنها امرأة... ص 244". هذا الجسد الذي تنكره المرأة ولا تعترف به لذاته/ لذاتها، فتبتذله وتصيره موضوعاً للذّة لا تتحقق له/ لها، إلا متى تحوّل قرباناً ليس لذاتها، بل للذَّات الجمعية ليتمجد بذلك الجسد المغيّب تماماً كما في صورة الأمومة يختزل فيها جسد المرأة الى مجرد رحم يُنجِبُ نسل السلطة.