استقليت الاسبوع الماضي قطاراً بين مدينتي ليفربول ولندن في رحلة مدتها اربع ساعات. في المقعد خلفي شابان في العشرينات احدهما آسيوي والآخر غرب -افريقي. حمل الشابان آلة صغيرة راحت تبث أحد الافلام الكوميدية الآسيوية المضحكة "غودنس غرايشوس مي". كان بامكاني سماع الفقرات بوضوح شديد جعلني القي كتابي جانباً وانصت. وما هو الا وقت قليل حتى بدأت استمتع بما أسمع لدرجة نسيت كتابي وما فيه. فجأة، ظهر من الصفوف الامامية رجل ثلاثيني ضخم، شديد البياض، يكاد يكون وردياً، رأسه حليق وكتفه مغطاة بوشم كبير. راح الرجل يصرخ ويشتم الشابين، ثم قال "أطفآ هذه اللعينة، أتفهمان؟". شعرت بان شجاراً في طريقه الينا. ولكن لمفاجأتي الكبرى، نفذ الشابان الأوامر بسرعة. اعتراني الخجل. هل كان علي ان أتدخل؟ شعرت بالإهانة عنهما. صعقتني فظاظة الرجل، وعنصريته التي كانت من دون اي شك وراء تصرفه. وانا الآن اروي هذه القصة لانني لا ازال خجلة من سكوتي، والكلمات عالقة في حنجرتي. كان بامكاني على الاقل ان اطلب منه التكلم بتهذيب، او ان ادافع عن هذين الصغيرين بالقول انني استمتع بالبرنامج. لكنني لم أفعل لان هامش التفكير والتصرف محدود بمساحة مقصورة القطار. لا زلت اشعر بالسوء لأنني مقتنعة أنني الوحيدة التي كان يجب عليها التدخل. فأنا أفهم تماماً حاجة الرجل الوردي في الدفاع عن مساحته، كما افهم حاجة الشابين الى مشاركة المكان العام وتحويله ديواناً. فأنا في نهاية الامر وعلى رغم كل التغييرات التي طرأت على حياتي، ابنة بيروت، المدينة بامتياز: لا بل أكثر من ذلك، هي مدينة على شواطئ المتوسط، ذلك المكان - المزاج الذي لطالما وجد للآخر فسحة يضمه فيها ويحوّله ذاتاً. أقول مدينة بامتياز: ف"المدينة هي تجمع اجتماعي، لانها تنظم نفسها في مكان يضم افرادها، ولأنها ضاربة في الزمن من غير ان تركد في الادراك والتمثيل، ولأنها مجبولة بالتوتر والتباين، بالخلافات والصراعات بين اللاعبين". لكن مدينة على شواطئ بحر مشترك تختلف كثيراً عن مقصورتي هذه. فإذا ضاق المرء ذرعاً باليابسة، سرح نظره وتنفس هواء البحر وأبحر... أو على الاقل حلم ببلاد أخرى. بيروت! كم انت مختلفة عن هذه المقصورة، وكم تشبهينها في عدد اللغات التي تتناهى الى مسامعي من المقاعد المجاورة. بيروت التي لم ارد لها يوماً ان تصبح هوساً او حنيناً سخيفاً يحمل في طياته تلك الاكاذيب التي تشكل جوهر الحنين. هي لي كالبندقية لماركو بولو: سيدي، قال ماركو بولو الى قبلاي خان في "المدن الخفية" لإيتالو كالفينو: - الآن حدثتك عن المدن التي أعرف. - هناك مدينة لم تحدثني عنها قط. - طأطأ ماركوبولو رأسه . - البندقية، قال خان. ابتسم ماركو وأجاب "أظنك انني تحدثت عن غيرها؟". لم يرف للامبراطور جفن. قال: "الا انني لم اسمعك تذكر اسمها". - "كلما وصفت مدينة ضمّنت وصفي شيئاً من البندقية". لذلك كلما تحدثت عن مدينة او زرت مدينة قصدت بيروت واعدت زيارتها. هذا ليس للحظة احياء ذكرى او احتفاء بمدينة. لأنني ولسوء الحظ مدينة لبيروت بأن جعلتني اتآلف مع الظلم والفساد اللذين يصادفهما الانسان بدرجات متفاوتة في جولاته وصولاته في مدن اخرى. فلنسمه اعترافاً، وهو واقع لم أحبه كفاية عندما وصلت الى لندن، بعيداً من المتوسط الذي رسم لمراهقتي احلاماً ووعوداً، قبل ان تلفظني النار والدماء بعيداً من شواطئه. وجدت نفسي في مدينة مختلفة عن التي نشأت فيها، مدينة انغلوساكسونية حتى النخاع، مدينة تعيش منطوية في ظل أنوار خافتة، لا تعرف الشواطئ ولا حياة المقاهي. اسمحوا لي اليوم ان استعير بخجل من كتاب كالفينو الرائع "المدن الخفية"، لأفهم مدينتي أكثر، مدينتي غير الخفية، المرئية بوضوح بفضل فرحها الصاخب، ومسراتها المسموعة، ولكن ايضاً بفضل انهياراتها الصاعقة والمتكسرة. للأسف ووعيي مرتبط بهاتين النغمتين المتناقضين. فمن دون بيروت، مدينة الجنوب، ومن دون حياتها المترجمة لما استطعت ان اعيش يوماً بسعادة في مدن الشمال. وبفضل خلفيتي هذه شعرت ان واجبي لا يقتضي مني الانخراط في تلك المساحة المدنية فحسب، بل ان احلم، ومن دون اي خجل، بالتأثير فيها، وفي "الآخر" والهويات المتحولة للفسحات المدنية "المشتهاة" لمدن اليوم. خلفية! كم أحب هذه الكلمة، وأفضلها على هوية او أصل. فالهوية والأصل تفترضان كنهاً نقياً كما انهما كلمتان تطفوان في زمن المتاعب وتعلنان وصوله. أما خلفية فمرادف لقاعدة، وتأتي في الخلف، هي واقع يمكن تجاهله او التخلي عنه. وخلفيتنا ليست بالضرورة اصلنا. هي التربة التي تنمو فيها مجموعة حقائق، وتتسع لإنبات حقائق اخرى. "الجزرة أصل وجذر" تقول صديقتي لزوجها الذي يلح عليها بالعودة الى دياره وأصله. فتصيح في وجهه "أنا لست جزرة". فلنعد الى بيروت، الخلفية. كانت بيروت ولا تزال مدينة تسافر في اتجاهات مختلفة. فلننظر الى كتابتها. يمكن قراءتها بالطول والعرض. وانا هنا اعني اللافتات واللوحات الاعلانية الملونة التي زينت طريقي الى المدرسة لسنوات والتي لا تزال تبهرني كلما عبرت تلك المدينة. فعندما تقرأ بالاتجاه المعاكس لا تعزل القراءات الاخرى. ربما لهذا السبب لم نع، زميلي اندريه كاسبار وأنا، عندما حططنا للمرة الاولى في بريطانيا وحاولنا انشاء دار نشر، مصاعب التعامل باللغة الثالثة: الانكليزية. سأخبركم قصة محرجة. عندما بدأنا عملنا في المكتبة احتجنا لعنوان بريدي. كان ذلك في 1979، وكنا هاجرنا للتو الى انكلترا. ورحنا نبحث في دليل الهاتف عن زبائن محتملين، وغالباً ما وقعنا على مطاعم صينية او ملاه تايلاندية. كنا تائهين لكن مثابرين. احياناً أشعر انني ورثت هذا التفاؤل الساذج عن جد جدي الذي هرب من الحرب الكبرى فقفز في أول مركب ودفع للقبطان ثمن تذكرة الى اميركا. الا ان القبطان كان مراوغاً فالقى بجدي وابناء قريته في غينيا الفرنسية قائلاً لهم "هذه اميركا". لذلك كانوا يطلقون على افريقيا، اسم اميركا في قرية جدي. ومن هناك، من افريقيا راح جد جدي يرسل الأموال لعائلته فعلّم اولاده الذين آمل ان يكونوا حفظوا شيئاً من الجغرافيا. ولو لم أنشأ في مدينة تقرأ في الاتجاهات كلها، لما استمتعت بلندن اليوم، مع تنوعها الثقافي، ووقائعها المتداخلة والمتناضحة. بيروت مع كلماتها المتحركة في كل اتجاه منحتني طريقة متوجسة في مقاربة الحقيقة، وما درج تعريفه اليوم لسوء الحظ بقيمتي الخير والشر. ففي الليسيه الفرنسية في بيروت، تعلمت ان الصليبيين هم اما قديسون او محتلون اشرار. يختلف ذلك بحسب الكتاب، إن كان بالفرنسية اي مكتوباً من اليسار الى اليمين او بالعربية من اليمين الى اليسار. هذه الكتابات المتناقضة علمتني ان الحقيقة يمكن ان تقرأ من وجهات مختلفة، بحسب الموقع التاريخي لقارئها، وموقعه الجغرافي، واهم من ذلك كله تطلعاته. لهذا السبب بالذات، وجدت نفسي وسط المقصورة ارفض رفضاً قاطعاً التسليم بهذه المشاجرة حول المساحة او ما يسمى بصراع الثقافات، لا بل أسوأ: الحضارات. ولكن ايضاً لانني قرأت في بيروت سيمون دو بوفوار بالفرنسية، وأبا نواس بالعربية ومارغريت ميد في الجامعة الاميركية، تمكنت من مواجهة شوفينية ذلك موظف المصرف الانكليزي الذي راح يسألني عن مديري كي يفتح حساباً لدار الساقي في فرعه. كان ذلك منذ 25 سنة، عرف خلالها التفوق الذكوري بعض الهزائم. الا ان الموظف الرصين واللبق بسترته من قماش التويد الانلكليزي، لم يجد الالحاح في طلب مديري شيئاً من قلة اللباقة. راح يردد كأنه اصيب بصمم "دعي مديرك يأتي ويفتح الحساب بنفسه". واصريت في المقابل انني انا المدير، او ما يسميه هو بالرئيس... دون جدوى. فتوجهت الى اقرب مصرف آخر وفتحت الحساب وعشت بسعادة من بعدها. ولأنني كنت امشي من الاشرفية الى راس بيروت عبر عين الرمانة او ساحة البرج، عابرة شرفات المنازل وقناطرها العثمانية لم اشعر بالغربة في نيويورك او فاس. في عشريناتي كنت اقطع تلك المسافات وانا ارندح الحان اديث بياف وام كلثوم وفيروز، او جون كولتران ورولينغ ستونز، فاصبحت قادرة على الغناء والرقص في اي مدينة اخرى على هذه الألحان نفسها. لحظة. نسيت كالفينو ومدنه الخفية. لم ار سوى الجانب المشرق لحياتي المدنية. فانا ذهبت الى مدينة وجعلتها لي، وتباهيت بمعالمها وعاداتها: لندن دياري ايضاً. لندن المختلفة، ولكن ايضاً الفسيحة بما يكفي لتعيش كرم حيوات متعددة وحقائق متوازية. في موراليا، يقول ماركو بولو لقبلاي خان في "المدن الخفية"، الزائر مدعوّ لاكتشاف المدينة ومعاينة بطاقات بريدية قديمة تصورها كما كانت. الساحة المربعة نفسها، وتبدو فيها دجاجة مكان محطة الباصات، ومنصة موسيقية مكان الجسر وسيدتان تحملان مظلة مكان المصنع. واذا اراد المسافر الا يخيّب ظن السكان، عليه ان يمتدح البطاقات البريدية ويفضلها على الحاضر. لكن من غير المجدي ان يتساءل المرء ان كانت المدن اليوم افضل مما كانت عليه بالامس، لأنه ما من صلة بينهما. فالبطاقات البريدية لا تصور موراليا كما كانت بل مدينة اخرى صادف ان سميت موراليا. آمل الا اكون قد وصفت بيروت كما تبدو في البطاقات البريدية. لأنني لم اصنع للحنين، وأنا اشكر بيروت لانها حضرتني للهجرة على انها مغامرة واعدة. وعلي ان اقر بان لندن وحدها، لندن اليوم وليس تلك التي في بطاقات الحقبة الفكتورية، هي التي منحتني فرصة العيش في بيئة متعددة الاتنيات حيث الآسيوي مهندس كمبيوتر يساعدني على استخدام الشبكة المعلوماتية، مثل مراسل الأخبار جاري، فيما بيروت اليوم تعطيني صورة واحدة للآسيوي: خادمة مقموعة ومستغلة في أحد المنازل. دعوني اخبركم عن تجربتي الاخيرة في لندن. في عملي الفني، ركزت خلال السنوات الثلاث الماضية على موضوع الاحكام المسبقة من خلال المظهر واللباس. ففي عملي الاخير "dressing re-adressing" او ما قد يترجم ب"ازياء وصياغة آراء" الذي يتناول ملصقات السينما وغلافات الكتب عبر ارتداء ازياء "الاخر"، لاحظت ردات فعل "المواطنين الاصليين" تجاه التغيير الخارجي، لا سيما الزي. ففي لندن وفانكوفر اعتبرت الرموز شرقية، فيما تحولت غربية في بيروت. ومنذ بضعة اشهر دفعت تجربتي الى حد التطرف. فتقمصت زي لوليتا محجبة، تحرّك نرجيلة في فمها بدلاً من السكريات. ارتديت زي لوارنس العرب، ولباساً اسلامياً ابيض للاعبة تنس، وهو رداء يغطي كل الجسم ما عدا العينين. في مصر ابتاع محل للالبسة الرياضية الشرعية الزي الأخير. اما في لندن، فجبت الشوارع طولاً وعرضاً حاملة عدة التنس كلها والنرجيلة وانتظرت ردة فعل لم تأت ابداً. اللندنيون الذين مروا بي، حوّلوا نظرهم عني مباشرة. لم يروني، لم يتدخلوا. نظروا وأصروا الا يبصروا! اقر بانني لا زلت مرتبكة بهذا التسامح المبالغ فيه. فلو قمت بالشيء نفسه في باريس لقابلتني عبارة الفرنسيين المشهورة "rentrez chez vous" او عودي من حيث اتيت. وفي بيروت، انا واثقة من ان مجموعة اولاد ومراهقين كانوا ليلحقوا بي في الشوارع ويشيروا الي بسبابتهم. آمل ان أتمكن قريباً من حمل "حالاتي" الفنية واكتشافاتي عن الاحكام المسبقة واجول فيها اكبر عدد ممكن من المدن. وآمل أيضاً ان تعيد مدينتي بيروت فهم المعنى الحقيقي للمساحة الكوسموبوليتية في عصر الحقائق الشاملة، حيث الآخر هو أيضاً نحن، وحيث التراكم يحارب التراتب. وفي الختام اليكم قصة أخيرة من مدن كالفينو الخفية: بانتيسيليا: السؤال الذي بدأ يؤرق بالك الآن أكثر حدة. هل من خارج وراء حدود بانتيسيليا؟ او انك مهما ابتعدت عن مدنية ستلاحقك كأنك تنتقل من سجن الى آخر من دون أن تفلح في الخروج أبداً؟ الترجمة عن الإنكليزية: بيسان الشيخ