في مقدّمة ترجمته رواية إيتالو كالفينو «مدن لا مرئيّة» (دار المدى، 2012) كتب ياسين طه الحافظ قائلاً: «المدن التي يراها ماركو بولو في هذه الإمبراطوريّة مدن حصينة لا يمكن غزوها، لا يمكن أن تُقهر. هي مدن ظاهرها رموز، مدن خفيّة لا تُرى، والغريب فيها أنّها تفتقر إلى الصلابة، إلى المادّة في تكوينها. هي مدن أشكال وأصوات وحركات، مدن تشعر بوجودها ولا تراها... مدن تعجّ بهمس المقابر والوشوشة!...» (ص 8) منذ صفحة الغلاف الكاريكاتوريّة المتخبّطة في فوضى المباني والشوارع والطرقات، يظهر في الوسط وفي شكل دائرة متوسّطة الحجم، الإطار السردي الذي اختاره كالفينو لمدنه اللامرئيّة: الإمبراطور على صفحة الغلاف مُحاطاً بحاشيته وماركو بولو الرحّالة المشهور عند قدميه يقدّم له موجزاً عن رحلاته. وهذا الروائي الكوبي المولد، الإيطالي الهويّة أدرج وصف رحلة ماركو بولو داخل الإمبراطوريّة، في إطار حديثه مع الإمبراطور قبلاي خان. وبنية الرواية تتوافق مع هذا المخطّط الروائي، فالرواية تسعة أقسام، كلٌّ منها يبدأ بحديث ماركو بولو مع قبلاي خان وينتهي به، بينما يتمّ بين بداية القسم وخاتمته وصف المدن التي سافر ماركو بولو إليها من دون أن يظهر تدخّل ماركو بولو أو قبلاي خان في أيٍّ من التفاصيل. وعدا الأقسام التسعة التي تشكّل العمود الفقري للرواية، صنّف كالفينو مدنه وفق حلقات موضوعاتيّة، أي أنه حدّد نكهة كلّ مدينة داخل إحدى التصنيفات التالية: فمثلاً هناك «مدن وذاكرة»، «مدن ورغبة»، «مدن وعلامات»، «مدن خفاف»، «مدن تجاريّة»، «مدن وعيون»، «مدن وأسماء»، «مدن والموتى»، «مدن والسماء»، «مدن مستمرّة»، «مدن مخفيّة». وضم كلّ نوع من هذه الأنواع الأحد عشر خمسة أسماء مدن وصفها ماركو بولو ونقل هيئتها إلى الإمبراطور. فعلى سبيل المثال يصف بولو أناستازيا، وهي الثانية من مدن الرغبة، يصفها قائلاً: «هذه أناستازيا، المدينة الخادعة، تملكك، إن تعمل فيها ثماني ساعات في اليوم كقاطع خشب أو عقيق يماني أو حجر كريم أخضر، فكدحك الذي يعطي للرغبة شكلاً، يأخذ من الرغبة شكلها، وتظلّ تعتقد بأنّك تتمتّع بأناستازيا بينما أنت عبدها». (ص 22) ويحكم إيتالو كالفينو وصفه الأنيق للمدن، فواقعيّته ممزوجة بالأسطورة الأرستقراطيّة والخرافة اللذيذة. ويظهر نفَس كالفينو الأدبي عبر سسلسلة من الغرائب المصهورة بجديّة خرافيّة: «البعض يقول: إنّ المدينة هناك في الأسفل. ولا يسعنا إلّا تصديقه. المكان مهجور في الليل، تضع أذنك على الأرض، فتسمع أحيانًا صفقة بابٍ يُغلق». (ارجيا: ص 123) «الناس يتسلّقون المدينة بسلالم، وهم لا يظهرون على الأرض، فهم وكل ما يحتاجونه هنالك، في الأعالي، ولا أحد يفضّل النزول إلى الأسفل لا شيء من هذه المدينة يلامس التراب... هنالك ثلاثة افتراضات عن أهل باوسيز، هي: أنهم يكرهون الأرض؛ وأنّهم يحترمونها كثيراً إلى حد تجنّب أي تماس بها؛ وأنّهم يحبونها كما كانت قبل أن يوجدوا عليها... يتأمّلونها مفتونين وهم بعيدون عنها» (بوسيز: ص 80) مدن بولو مطعّمة بالخيال والمجاز وعناصر الخرافة، وقلّما نجد وصفاً عمرانيّاً ما خلا عدداً من الأسطر السريعة الخالية من الدقّة العمرانيّة الجيوميتريّة، كما في قوله: «سأروي لكم عن مدينة زنوبيا... فهي تقوم على أرض جافّة وهي ضخمة الأبنية والدور فيها شيدت من الخيزران والخارصين. وكلّ شرفاتها تقوم على ركائز ذات ارتفاعات متفاوتة، تجتاز الواحدة الأخرى، تربطها مرتقيات ومماشٍ جانبيّة، وتعلو الأبنية مظلّات وبراميل لخزانات الماء، ودورات لاتجاه الريح، وبكرات بارزة وبرك أسماك وغرانيق». (زنوبيا: ص 43) فحتّى الوصف العمراني لا يخلو من لمسة خرافة ساحرة؛ فلم يهدف بولو من وصفه هذه المدن إلى تحديد مزاياها أو وصف عمران مبانيها أو حتّى التطرّق إلى معلومات جغرافية دقيقة حولها، إنّما الوصف زاخر بوشوشات الحنين، يكاد القارئ يسمع صوته وهو يقصّ على قبلاي خان مجرى رحلاته. مدن ماركو بولو أو إيتالو كالفينو، وإن اختلفَت أسماؤها عن مدننا، هي المدن التي نحلم بها في قرارة أنفسنا، المدن الخرافيّة المتّشحة بالضباب: نراها لكنّنا نعجز عن تبيّن معالمها، نتبعها ونعجز عن لمسها، نشمّها ونعجز عن إبقاء رائحتها في كياننا. وعناصر الخيال أو الfantasme أو حتّى الabsurde، تغلّف المدن ويترافق المحال جنباً إلى جنب مع عامل المفاجأة المرعبة والصدمة: «سرت محاذياً الأسيجة موقناً بأنّي سأكتشف فتياتٍ حساناً يسبحن، لكنّي رأيتُ في قاع كلّ بحيرة القنافذ تأكل عيون المنتحرات وقد رُبطت الصخور إلى أعناقهنّ واخضرَّت شعورهنّ من أعشاب الماء... وحين تزهد روحي ولا تريد غذاءً إلّا الموسيقى، أعلم أنّي أحصل على ذلك في المقابر، ففي القبور يختبئ العارفون بين قبر وقبر يرتعش ناي وتصعد أصوات قيثارات تجيب إحداها الأخرى». (هايياتيا: ص 54) عالم إيتالو كالفينو يعجّ بالمدن الفاتنة التي مهما اختلفت أسماؤها ومهما ابتعدت الطرق المؤدّية إليها، فقد تشبه مدننا التي نعيش فيها أو تلك التي ندفنها في أعماقنا ونحلم بها سرّاً. ومدن كالفينو ليست مدناً وحسب، هي أحلام وخواطر، هي نوتات موسيقيّة متناثرة، هي نساءٌ اجتمعن على ضفاف النهر وراحت كلٌّ منهنّ تغسل شعرها وتنشره تحت الشمس، فكم من فقرة قد يقع عليها القارئ ويفاجأ بأنّها تنطبق في الوقت نفسه على المدينة وعلى المرأة. وتكثر عند كالفينو فكرة المدينة المزدوجة، أيّ المدينة التي لها توأم إمّا في السماء وإمّا تحت الأرض وإمّا على وجه الماء. والمدن الثانية تشبه الأولى في كلّ شيء، كما أنّ الأحداث في كليهما تجري في شكل متساوق: «سكّان فالدرادا يعرفون أنّ كلّ فعل من أفعالهم هو في اللحظة نفسها ذلك الفعل وخياله في المرآة... أحياناً تقلّل المرآة من قيمة الشيء، أحياناً تنكرها. ليس كلّ ما يبدو قيماً على المرآة يحتفظ بقيمته حين تعكسه المرآة. المدينتان التوأمان ليستا متساويتين... تعيشان الواحدة للأخرى وعيونهما متواشجة، لكن لا حبّ بينهما». (فالدرادا: ص 61) وفي خضمّ الكلام على المدن، تدور أحاديث وجوديّة بين الإمبراطور والرحّالة، حول الكون وأساليب الحكم والإنسان والنمو وتغيّر الإمبراطوريّة، وغيرها من الأمور المتعلّقة مباشرةً بالاهتمامات الإنسانيّة، ويختتم كالفينو روايته بخاطرة نجد صداها في معالم الفكر الفرنسي مع جان بول سارتر الذي أطلق جملته المشهورة: l'enfer c'est les autres فأن يُقال إنّ الجحيم هو الآخر على لسان مفكّر شيء، وأن يُقال الأمر نفسه في مذكّرات رحّالة شيء آخر. فمَن أدرى بالنفس البشريّة أكثر من الذي عاينها عن قرب في مختلف بقاع الأرض؟ فحقّاً بئس العيش كان في مقولة كالفينو شيء من الحقيقة: «إنّ جحيم الأحياء ليس شيئاً سيكون، وإذا وجد جحيم فهو ذلك الموجود هنا الآن، الجحيم حيث نعيش كلّ يوم والذي نكوّنه حين نكون معاً». (ص 159)