بدأ ماركو بولو 1254- 1324 رحلته من البندقية الى الصين عام 1271 أو 1272. يصعب تحديد تواريخ من هذا القبيل، في ذلك الزمن السابق لاختراع الطباعة كما لاكتشاف أميركا. رحلة كهذه، في القرن الثالث عشر، كانت تُهدد المسافر بمخاطر لا تُحصى، وقد تكون خاتمتها الموت على الطريق. خصوصاً إذا كان المسافر في السابعة عشرة من عمره! لكن ماركو بولو لم يسافر الى الصين بمفرده، بل كان في رعاية أبيه وعمه، تاجرين سافرا قبل فترة الى الصين وقابلا قوبلاي خان، خلال إحدى رحلاتهما التجارية الكثيرة في البرّ الآسيوي. كانا يملكان بيتاً في القسطنطينية، وآخر في قزوين. هل كانت عائلة بولو أول عائلة أوروبية تدخل الى الصين وإلى بلاط قوبلاي خان الإمبراطور المغولي الشهير؟ هذه حقيقة يمكن التشكيك في دقّتها. وبين الباحثين الألمان المختصين بالدراسات المغولية من استطاع نقضها معتمداً على حوليات مغولية وأخرى صينية. نذكر هذا كمقدمة للأسئلة الكثيرة التي يطرحها كتاب "رحلات ماركو بولو" حول "صدقيته". انظر مثلاً كتاب فرانسيس وود الصادر في لندن عام 1995 تحت عنوان: "هل سافر ماركو بولو الى الصين؟"، وهو مترجم الى العربية، في دمشق، عن دار قدمس، سنة 1999. إنها أسئلة تحتاج الى مجلدات لمعالجتها انظر مثلاً أبحاث سير هنري يول أو مقالته الشهيرة في "البريتانيكا" الصادرة عام 1912، أما ما نحاول الاقتراب منه في هذه العجالة فيتركز على علاقة كتاب ماركو بولو بالمصادر العربية، من كتب تاريخ وجغرافيا ورحلات وعجائب، كتب كانت معروفة في زمنه، ومتوافرة تماماً في تلك المناطق حيث عاش عمه وأبوه فترات طويلة من حياتهما. الباب الأفضل للدخول الى هذه المتاهة يكمن في استعراض الظروف التي رافقت تأليف ماركو بولو كتابه. نفهم من الفصل الأول من "رحلات ماركو بولو"، كما من "التمهيد" الذي نقع عليه في بعض المخطوطات الإيطالية، أن ماركو بولو لم يكتب كتابه بيده، وإنما هو أملاه على كاتب يدعى ستجيبلو وهو مواطن من بيزا. حدث هذا خلال السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر للميلاد. ثمة مخطوطات تؤكد أن فعل الإملاء و"التأليف" هذا حدث في 1295، فيما مخطوطات أخرى تجعل التاريخ 1296 أو 1298. انظر الترجمة العربية لكتاب "رحلات ماركو بولو" الصادرة في طبعة ثانية في القاهرة عام 1996. وهي ترجمة تعتمد على ترجمة وليم مارسدن الإنكليزية الشهيرة التي ترجع الى القرن التاسع عشر، ومعروف أن مارسدن استخدم النسخة الإيطالية التي حرّرها وطبعها راموسيو عند منتصف القرن السادس عشر. راجع "البريتانيكا" في مادة "ماركو بولو" كما في مادة "راموسيو". وإذا كنا حددنا زمن تأليف "الرحلات"، تقريباً، فإن مكان التأليف يبدو ثابتاً: السجن! لكن كيف وصل ماركو بولو الى السجن؟ يروي الرحالة الإيطالي الشهير في كتابه أن إقامته مع عمه وأبيه في الصين دامت 17 سنة. فقد وصلوا الى بلاط قوبلاي خان عام 1275 دامت الرحلة 4 سنوات، بطريق الموصل - بغداد - خراسان - كشغر - يرقند - لوبنور - صحراء جوبي - تانجوت...، محملين بهدايا بابوية وبالزيت المقدس، ثم عملوا في البلاط مدة 17 سنة، تمكن ماركو بولو خلالها من "حذق أربع لغات مختلفة"، حيث ولاّه الامبراطور على بعض شؤونه، كما أرسله في مهمات تجارية، وقد "عمد ماركو من جانبه، وهو أدرك أن الخان كان يجد متعة كبيرة في الاستماع الى كل ما هو طريف حول أعراف الشعوب وعاداتها ... الى أن يحاول حيثما ذهب الحصول على معلومات صحيحة حول تلك الموضوعات وتدوين الملحوظات حول كل ما رأى وما سمع لكي يُشبع ما طُبع عليه مولاه من حب الاستطاع". انظر ص 41 من الترجمة العربية. وفي 1292 غادرت عائلة بولو، الصين، عائدة الى الوطن فبلغت البندقية بعد ثلاث سنوات، في 1295، محملة بالمتاع راموسيو وصف بعد قرنين تقريباً، الرجال الثلاثة، يغادرون المركب في ثياب مغولية بالية ثم يمزقونها فتتساقط الجواهر من حشياتها وبطانتها. بين المتاع الكثير يمكننا أن نتخيل بعض الصناديق المملوءة بالمخطوطات والأوراق، خصوصاً تلك المخطوطات المتعلقة بالبلدان وطرق الانتقال والإتجار بينها. وإذا كان ماركو بولو تحدث عن تدوينه ملاحظات "سمعها" فماذا يمنع الاقتراح أنه نقل أيضاً ملاحظات "قرأها"؟ ألا يدخل هذا في باب "ما رأيت وسمعت"؟ لكن كيف وصل ماركو بولو الى السجن؟ كانت المدن الإيطالية آنذاك تدخل في حروب ومعارك بحرية ضد بعضها بعضاً، وخلال معركة بين البندقية وجنوى، وقع ماركو بولو أسيراً. وفي السجن في جنوى أو في الإقامة الجبرية هناك، بصفته من طبقة النبلاء أخذ يُملي على زميله في الزنزانة، ذلك الكاتب المدعو ستجيبلو، حكاية مغامراته في الصين، في السهول الرحبة، ووسط المدن، غير المرئية من سجنهما، إلا بعين الخيال! الغريب أن ستجيبلو، الذي من بيزا، كان هو أيضاً رجلاً سافر الى "الشرق". فعلى رغم المعلومات القليلة التي نملكها عن حياته، فنحن نعلم على الأقل أنه رافق الأمير ادوارد في حملته الصليبية الى عكا 1270 - 1273، وأنه قضى فترة مع هذا الأمير في صقلية، وأنه جعل خلال الطريق الى الأرض المقدسة يقرأ كتاباً عن مغامرات الملك آرثر الأسطورية كان بحوزة الأمير، ما دفعه الى تأليف مغامرات مشابهة بنفسه عن فرسان المائدة المستديرة، انظر طبعة يول - كوردييه حول رحلات ماركو بولو الصادرة في لندن عام 1903. أو كتاب فرانسيس وود المذكور آنفاً. هذا الرجل الرحالة مثل ماركو بولو انتهى أيضاً أسيراً في جنوى بعد معركة بحرية بين جنوى ومدينته بيزا في 1284م حيث قضى السنوات يكاد يموت ضجراً حتى وصل ماركو بولو الى زنزانته حاملاً كل تلك الحكايات. نقدر أن نتخيل العلاقة التي نشأت بين الرجلين. كان ماركو بولو مشهوراً بالحكايات التي يسردها على الجميع في البندقية لُقِب بسبب حكاياته والأرقام الضخمة التي يتلفظ بها، بماركو مليونه وكان ستجيبلو يستمع الى هذه الحكايات ويفكر بتدوينها. إيتالو كالفينو ألّف رواية شهيرة مطلع سبعينات القرن العشرين اعتمد فيها على علاقة متخيلة بين ماركو بولو وقوبلاي خان. العلاقة ذاتها قد نتخيلها بين ماركو بولو وستجيبلو: محاولة الخروج من الحدود الزمانية - المكانية الى أفق الخيال اللامتناهي. ألم يفكر سرفانتس في تأليف "دون كيشوت" خلال مدة أسره في المغرب؟. لكن وسط هذا التأليف المشترك فربما أضاف الكاتب قصصاً لم يُملِها عليه بولو بل سمعها هو بنفسه - أو قرأها - في "الشرق"، هل كان ماركو بولو يعتمد على ذاكرته فقط؟ أم على ملاحظات مدونة أيضاً؟ فرانسيس وود تُرجح الاحتمال الثاني، مقترحة الآتي: خلال فترة أسره - أو إقامته الجبرية - في جنوى، كان بمقدور أهل ماركو بولو أن يرسلوا إليه ما يشاء من مخطوطات وأوراق دوّن عليها ملاحظاته. لم يبقَ ماركو بولو في الأسر طويلاً. خلال سنة أو سنتين أُطلق سراحه، فرجع الى البندقية، وتابع حياته: تزوج، رُزق ثلاث فتيات، ولم يغادر عالمنا في 1324 إلا بعد أن كتب وصيته. سبعون سنة من الحياة كانت ستتلاشى بلا أثر لولا تلك السنة التي قضاها سجيناً في جنوى!. بعد سبعة قرون على موته ما زال ماركو بولو شهيراً بسبب رحلته الى الصين. فرانسيس وود بدأت منذ عام 1981 تشكك في حقيقة حدوث هذه الرحلة كلها. الباحثون الألمان شكّكوا قبلها بتفاصيل كثيرة في الرحلة لكن، دون أن يبلغوا حد نقضها بأجمعها! اعتمدت وود في أطروحتها المثيرة للجدل على تفاصيل من قبيل: لماذا لم يذكر بولو الشاي أبداً؟ أو لماذا لم يذكر العادة الصينية في تحجيم أقدام الفتيات بربطها؟ أو لماذا لم يصف السور العظيم؟ وهي تكتب في مقدمة كتابها أنها أرادت تأليف هذا العمل بالاشتراك مع باحث آخر يشاركها هذه الشكوك، هو كريغ كلوناس: "ورحنا نناقش بين الحين والآخر فكرة تأليف كتاب عن الموضوع مفضلين أن يكون بمساعدة أحد المختصين بالدراسات الفارسية - العربية الوسيطة، ولكننا لم نتمكن قط من تحقيق ذلك. وبالتالي فهاأنذا أمضي وحدي". ص 19 من الترجمة العربية المذكورة آنفاً. لو أتيح لفرانسيس وود باحثٌ مختصٌ بالدراسات الفارسية - العربية يساعدها في تأليف هذا العمل كما كانت تأمل لكان بين أيدينا الآن كتابٌ عن ماركو بولو يعجّ بالأسماء الفارسية والعربية. أسماء مثل القزويني الفارسي الذي كتب بالعربية أو المسعودي، أو الإدريسي، أو ياقوت الحموي، أو ابن حوقل، أو حتى ابن الأثير. لقد تعلم ماركو بولو - كما يخبرنا في مطلع كتابه - اللغة الصينية وثلاث لغات أخرى في فترة وجيزة. وهو في رحلاته يتحدث عن أكثر من بحّار عربي وشخصية عربية بارزة في البلاط المغولي. فهل تعلّم العربية أيضاً؟ كذلك فإن عمه وأباه كانا يتاجران في تركيا، كما في بلاد فارس، وأحياناً في بلاد الشام، فهل كانا يعرفان الفارسية والعربية؟ وحتى لو كانت عائلة بولو جاهلة اللغة العربية، فهل ننفي وجود مترجمين كانوا يرافقونها في الليل والنهار ويفيدونها بمعلومات عن أهل البلاد الإسلامية مثلاً؟ إن الشك في استفادة ماركو بولو من مصادر عربية، موجود - وإن بشكل موارب وخجول - منذ القرن التاسع عشر. يكفي أن نعود الى هوامش مارسدن على ترجمته الإنكليزية التي انتقد هنري يول طولها وتشعبها! كي نقرأ اسم الإدريسي القرن الثاني عشر للميلاد، أو اسم ابن حوقل المتوفى قبل ولادة ماركو بولو بقرون. لكن مارسدن يسوق هذه المقارنات من قبيل استعراض المعلومات أكثر مما يسوقها من قبيل عرض تأثيرات عربية في كتاب ماركو بولو. أما القارئ العربي لنص ماركو بولو وزميله في الزنزانة السيد ستجيبلو أو السيد روستيشللو كما يُسمى في مخطوطة أخرى فلا يستطيع إلا أن يعقد مقارنات بين ما يكتبه بولو عن "شيخ الجبل" وقلاع الحشاشين في الفصل الثاني والعشرين من الجزء الأول من رحلاته، وبين المعلومات الواردة بهذا الشأن في كتب المؤرخين العرب الذين سبقوا ماركو بولو الى تدوين هذه الأخبار، كابن الأثير مثلاً، صاحب "الكامل في التاريخ"، والمتوفى سنة 1233 ميلادية. كذلك نستطيع عقد مقارنات بين وصف ماركو بولو للحيوان الذي يُنتج المسك والذي "لا يزيد عن العنزة حجماً ولكنه يماثل الظبي في شكله" الفصل الثاني والخمسون من الجزء الأول وبين وصف تفصيلي لدابة المسك عند القزويني في "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" الذي وُضع قرابة سنة 1270م، أي قبل أن يغادر ماركو بولو أوروبا. غير أن مقارنة من هذا النوع ليست دليلاً حاسماً على استعارة بولو من القزويني. فالكاتبان يصفان حيواناً واحداً في ختام الأمر! راجع ص 155 و 413 من طبعة "عجائب المخلوقات" الصادرة في بيروت، ولكن قارئ الجزء الثاني من رحلات ماركو بولو لا يلبث أن يقع على وصف آخر لظبي المسك، في الفصل السابع والثلاثين، يكاد يتطابق تماماً في مادته مع نص القزويني وصف الدم المتحول مسكاً والرائحة التي تفوح فيتبعها الصيادون، وإن كان نص القزويني أشد ثراءً واكتمالاً. وإذا كان مارسدن يثبت في ختام الجزء الثاني هامشاً انظر ص 342 من الترجمة العربية يشير فيه الى اعتماد بولو على خرائط بحرية "كانت بصفة رئيسية بأيدي ربابنة عرب كانوا يمخرون البحر بسفنهم من الخليج الفارسي الى الهندوالصين"، فإن ماركو بولو يعترف بنفسه في الفصل السابع والسبعين من هذا الجزء ذاته أنه "لن يفوته ... ملاحظة أحوال أخرى أبلغه نبأها اشخاص جديرون بالثقة" ص 201. هذه "الأحوال الأخرى" التي نُقلت الى ماركو بولو ربما تضمنت كل تلك القصص "العربية" التي ينقلها لنا في الجزء الثالث من كتابه. قد نذكر "الأناس بذيل" ص 36، ونقارنهم بإنسان الماء ذي الذيل، المذكور في كتب العجائب عند القزويني وغيره، أو نذكر قصة الأفاعي ووادي الماس وقطع اللحم التي تحملها النسور والماس يلتصق بها ص 57، وهي حكاية معروفة في "ألف ليلة وليلة" كما يلاحظ مارسدن، بلا مبالاة طبعاً، إذ إن "ألف ليلة وليلة" ليس كتاباً سابقاً زمنياً على ماركو بولو. لكن اللافت أن هذه الحكاية موجودة كاملة في كتاب القزويني المذكور آنفاً وهو كتاب لا يأتي مارسدن على ذكره، ولو ذكره لكان عليه التنبه أيضاً الى تشابه آخر بين النصّين، نعني مسألة العنبر وحوت العنبر ص 80 في بولو، وص 164 في القزويني. وتشابه من هذا النوع يتكرر مرة أخرى لدى وصف طائر الرخّ ص 83 في بولو، ص168 في القزويني الذي يضعه بولو على جزيرة مدغشقر فيما يتركه القزويني بلا اسم في إحدى جزر بحر فارس. هل نذكر أيضاً مسألة جزيرة سيلان، التي يصفها بولو في فصلين وهذا غريب إذ اعتاد وصف كل مدينة أو جزيرة في فصل واحد، فلا يذكر في الفصل التاسع عشر خبر الجبل الذي تُتوّج قمته حفرة قد تكون "قبر آدم، جدنا الأول"، لكنه يخصص الفصل الثالث والعشرين للرجوع الى جزيرة سيلان أو سرنديب ووصف هذا الجبل و"ما يقوله المسلمون" عنه. لماذا يحدث هذا؟ ان الرجوع الى المسعودي أو الطبري، واستعادة الرواية الإسلامية حول نزول "جدنا آدم" على جزيرة سرنديب، وعليه ورق من الجنة يستر عورته، ورق بدّدته الريح فوق الجزيرة فنبتت من بقاياه أصناف التوابل التوابل التي تملأ كتاب بولو، التوابل التي حركت أوروبا باتجاه الشرق، والتنبه الى أن تواريخ المسعودي والطبري كانت معروفة في زمن وجود عائلة بولو في الشرق فالمؤرخان الكبيران تُوفيا في القرن العاشر للميلاد، اضافة الى فهمنا الظروف التي أحاطت بتأليف ماركو بولو لعمله، كل هذه العناصر تدفعنا الى الاقتراح الآتي: وصف بولو جزيرة سيلان في الفصل الرقم 19، وصفاً مختصراً ركز فيه على "ياقوتة" أورد - في مبالغة من مبالغاته البديعة - أنها "أعظم ياقوتة شوهدت في العالم". يشكل وصف هذه الياقوتة المادة الأساسية للفصل، كأن بولو كان عاجزاً عن ذكر أي شيء آخر يتعلق بهذه الجزيرة فاخترع هذه الحكاية كي يملأ فراغ ذاكرته مخيلته. لكنه بعد أن يملي الفصل العشرين ولاية ما أبار الطويل والمتميز بالخيال أىضاً، ثم الفصل الحادي والعشرين مملكة مورفيلي، والفصل الثاني والعشرين ولاية لاك حيث الناس يعيشون ليبلغ بعضهم "الخمسين بعد المئة مستمتعاً بالصحة والعافية"، نراه يعود فجأة الى جزيرة زيلان أو سيلان في الفصل الثالث والعشرين قائلاً: "أكره أن أتجاوز بعض تفصيلات أسقطتها عندما تحدثت في ما سلف عن جزيرة زيلان. وعلمتها عندما زرت ذلك القطر في رحلة عودتي الى أرض الوطن. يوجد بهذه الجزيرة جبل شاهق...". ربما كان التفسير الوحيد المعقول لمثل هذه الحادثة ولهذه المقدمات شبه القصصية عند بولو يكمن في وصول كمية من "الأوراق" الى زنزانة ماركو بولو خلال الفترة الفاصلة بين كتابة الفصل الرقم 19 - حيث لا يكاد يُذكر من جزيرة سيلان إلا تلك "الياقوتة" - وكتابة الفصل الرقم 23 حيث يحتل "الجبل" الذي نزل عليه "جدنا آدم" وما "يقوله المسلمون" عنه، مركز السرد. هل استعمل بولو مخطوطات عربية في "تأليف" رحلاته؟ هل لعب "كتاب البلدان" لابن الفقيه، أو "معجم البلدان" لياقوت الحموي الرومي 1179- 1229م، دوراً في تقسيم كتاب "الرحلات" الى فصول بحسب المدن، لكل مدينة فصل، كما فعل ياقوت الرومي؟ اعتمد الرومي ترتيباً أبجدياً للمدن، فهو يؤلف معجماً. أما بولو فيجعل الفصول المدن تتتالى تبعاً لخط السفر، بشكل عام وليس دائماً. إنه في هذا يصنع "دليل رحالة" يشابه رحلة ابن بطوطة في "تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" لكن ابن بطوطة 1304 - 1377م ليس سابقاً على ماركو بولو. وهكذا نعود الى سؤالنا: هل استعمل ماركو بولو مصادر عربية في تأليف كتابه؟ وهل لعب الكاتب - زميله في الأسر - دوراً فعلياً في التأليف: هل أضاف شيئاً من ذكرياته عن "شرقنا" مثلاً؟ هذه الأسئلة قد لا تجد أجوبتها أبداً. لا نستطيع التشكيك بالحقيقة التاريخية لماركو بولو إلا إذا شكّكنا بالحقيقة التاريخية لوجودنا. الرجل وُجد فعلاً، وعاش في البندقية، وتغرَّب فترة أين؟ لا ندري بالتأكيد، ثم عاد الى مدينته حيث حرّر وصية محفوظة مع سجلات كنسية حول عائلته ثم مات بعد ذلك بوقت قصير. لا نشكك في هذه الحقائق لكن ثمة من يستطيع التشكيك في بلوغ بولو بلاط قوبلاي خان، في قلب الصين، فعلاً. وفي هذه الحال، وبعكس ما تخلص إليه فرانسيس وود، فإن بولو يكون بالتأكيد كاتباً هائلاً: أن تنسج عالماً كاملاً كل تلك المدن من الخيال، هل تحسب وود الأمر لعبة؟ ولعل ماركو بولو أراد - في تجنبه أي ذكر لأي مصدر شرقي أو غربي مكتوب - أن يسرد حكاياته لبلوغ هذا الهدف بالذات: إبداع فضاء خيالي خاص يستطيع أن ينجو عبره، من الأسر كما من رتابة الحياة. * كاتب لبناني.