رأى أبو جعفر المنصور في المنام مدينة. كانت مدوّرة، بسور دائري يلفها، وفي مركزها قصر الخليفة. حين استيقظ المنصور دعا المهندسين إليه. على ضفة دجلة بنيت بغداد، "مدينة السلام"، مدوّرة بأربعة أبواب، كما رآها المنصور في المنام. قراء المسعودي والطبري وياقوت الحموي الرومي يعرفون مدناً كثيرة بدأت هكذا: في الخيال. بعض هذه المدن اكتسب قواماً مادياً. بعضها الآخر ظل من نسج الخيال. في "تحفة الألباب" لأبي حامد الغرناطي نقرأ عن "مدينة النحاس". مدينة بسور نحاس، بلا باب، وكل من دخلها لم يخرج منها بعد ذلك ابداً. ماركو بولو، الإيطالي الذي سافر الى الصين من ضجره في البندقية، لم يعثر على مدينته الخيالية إلا حين بلغ كاتاي. ايتالو كالفينو، في "مدن غير مرئية" 1972، وجد هذه المدينةالصينية نسخة خيالية عن مدينة ماركو بولو الأولى، وطنه: البندقية. مدينة تشقها اقنية مائية وبيوتها مرتبة في مربعات كرقعة شطرنج. كافافيس اليوناني انظر يمين العمود عاش في الاسكندرية أطول سنوات حياته. لكنه لم يكتب عن الاسكندرية التي عاش فيها بمقدار ما كتب عن الاسكندرية القديمة، مدينة الأسلاف. هذا الرجل عاش في التاريخ، في الماضي البعيد، بينما يتنفس هواء اليوم والآن. مدينته كانت واقعاً ووهماً في اللحظة ذاتها: الواحة والسراب. ليس غريباً إذاً رجوعه في اكثر من قصيدة الى هوميروس وعوليس: ذلك المسافر الآخر الباحث ابداً عن جزيرة خضراء، مدينته، ايتاكا. "انت قلت: سأمضي الى بلدان أخرى، نحو شطآن أخرى وسينتهي بي السعي الى ان أجد مدينة أخرى، خير من هذه التي كل مساعي فيها مذمومة مسبقاً، والتي قلبي فيها مسجى كميت. الى متى تكابد روحي هذا الضنى. إذ كلما استدرت أو نظرت أرى خرائب حياتي. هذه الحياة التي أفسدتها وهدرتها طوال سنوات كثيرة. لن تجد بلداناً جديدة، ولن ترسو على ضفاف جديدة. ستتبعك المدينة وستتسكع في الشوارع ذاتها. ستهرم في الأحياء نفسها. سيبيض شعرك في ذات المنازل وايان ذهبت. ستحل في ذات المدينة، لن يتسنى لك مركب أو طريق يقودك الى مكان آخر. لا تأمل أبداً. لقد ضيعت حياتك في العالم كله حين ضيعتها في هذه الزاوية" كافافيس. ابن خلدون، كتب حين زار القاهرة انها اوسع من الخيال. اتساع المدينة، وتلاطم موج سكانها ابن بطوطة، دفعا ابن خلدون الى تدوين تلك العبارة. أثر القاهرة في ابن خلدون نعثر عليه ايضاً في روايات مسافر آخر هو الأردني غالب هلسا انظر ص 18. كتب هلسا عن القاهرة وكتب عن عمان وكتب عن بغداد. مدن زارها وأقام فيها خلال الخمسينات والستينات والسبعينات. لكنه في روايته الأولى "الضحك" كتب ايضاً عن مدينة خيالية: مدينة بلا اسم. مدينة يزورها كولن اندرسون ولا تُعطى الحق في حياة فسيحة، فتظهر خطفاً في الرواية ثم تختفي. المدن رموز وحالات نفسية. نيويورك، بابل، الاسكندرية، طوكيو، باريس، بيروت، هذه مدن تتبدل بتبدل الناظر اليها. كل مدينة هي مدينة خيالية ايضاً. لندن روبرت لويس ستيفنسون تختلف عن لندن تشارلز ديكنز. اسطنبول النشرات الإخبارية تختلف عن اسطنبول اورهان باموك. بنى المنصور بغداد وأقام فيها ردحاً. هل احبها كما احب بغداد المنام، بغداد الخيال؟