صدرت في سراييفو عشية شهر رمضان الكريم ترجمة جديدة للقرآن الكريم، تلك التي أنجزها د. أسعد دوراكوفيتش رئيس قسم الاستشراق في جامعة سراييفو وعضو مجمع اللغة العربية في دمشق، والتي اعتبرت حدثاً ثقافياً في البوسنة سواء لما تمثله بالنسبة إلى د. دوراكوفيتش أو بالنسبة إلى الترجمات السابقة في تاريخ البوسنة خلال قرن من الزمن تقريباً. أما بالنسبة إلى د. دوراكوفيتش فقد احتفت به البوسنة أكثر من مرة مع إنجازاته الكثيرة في نقل عيون الثقافة العربية إلى اللغة البوسنوية. فبعد خبرة ثلاثين سنة في ترجمة الشعر والنثر من الأدب العربي القديم والحديث من امرىء القيس إلى محمود درويش احتفت الأوساط الثقافية في البوسنة بأهم إنجازين له في السنوات الأخيرة، ألا وهما أول ترجمة ل"ألف ليلة وليلة" من العربية إلى البوسنوية صدرت في أربعة مجلدات فخمة في سراييفو 1999 وأول ترجمة بوسنوية للمعلقات التي صدرت في سراييفو قبل شهور عدة للمزيد عنها أنظر "الحياة" عدد 29/5/2004. وأما بالنسبة للترجمة ذاتها فقد كانت تمثل تحدياً كبيراً للمترجم، وذلك مع وجود سبع ترجمات سابقة للقرآن الكريم على مدى 110 سنوات. ومع ذلك يمكن القول أن هذه الترجمة جديدة بالفعل تختلف عما سبقتها وتتفوق عليها مما يثير من جديد إشكالية ترجمة القرآن الكريم، حيث أن أية ترجمة لا تلغي الترجمات السابقة ولا تمنع ترجمات لاحقة بطبيعة الحال. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الترجمة الأولى للقرآن إلى اللغة اليوغسلافية المشتركة لغة الصرب والكروات والبشناق وسكان الجبل الأسود صدرت في بلغراد خلال 1895 بدوافع سياسية. فقد قام بإنجاز هذه الترجمة عن اللغة الألمانية القس الصربي ميتشا لوبيبراتيتش لخدمة سياسة بلغراد في احتواء المسلمين في البوسنة للمزيد عنها أنظر "الحياة" عدد 28/4/2000. وقد كان من الطبيعي أن يقابل المسلمون في البوسنة هذه الترجمة بتحفظ لأكثر من سبب، حيث أن ترجمة القرآن في ذلك الحين لم تكن مقبولة في حد ذاتها كما أن قيام قس صربي بترجمة القرآن وصدور هذه الترجمة مع صليب غلافها دلالة على وفاة صاحب الترجمة ساهم في نفور المسلمين من هذه الترجمة. ولكن مع انهيار الدولة العثمانية وتشكيل يوغسلافيا في نهاية 1918 التي أصبحت البوسنة جزءاً منها وتواصل المسلمين في البوسنة مع القاهرة / الأزهر خلال العشرينات والثلاثينات سمح للمسلمين أن يتابعوا ويشاركوا في قضية جواز / عدم جواز ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى التي انطلقت من القاهرة خلال ثلاثينات القرن الماضي. وهكذا مع هذا التطور الجديد أخذ بعض علماء المسلمين في البوسنة ممن يؤيدين ترجمة القرآن يبادرون إلى ترجمة القرآن إلى اللغة البوسنوية حتى انه صدرت في عام واحد 1937 ترجمتان الأولى أنجزها علي رضا كارابك والثانية محمد بانجا وجمال تشاؤشيفيتش. ومع تأسيس فرع الاستشراق في جامعة سراييفو ومعهد الاستشراق في سراييفو خلال 1950 وكلية الدراسات الإسلامية في سراييفو في 1974 أخذت تظهر موجة جديدة من الاهتمام بترجمة القرآن إلى اللغة البوسنوية، حيث صدرت تباعاً ترجمات عدة: الأولى لبسيم كركوت في 1977 والثانية لمصطفى مليفو في 1994 والثالثة لأنس كاريتش في 1995 والرابعة لرامو عطائيتش في 2001. ويلاحظ على هذه الترجمات التنوع والتباين، وهكذا فقد ترجم بعضها من العربية مباشرة كركوت وكاريتش بينما ترجم بعضها من التركية أو الألمانية كارابك وعطائيتش. ومن ناحية أخرى فقد التزم بعضها بالترجمة مع بعض التفسير إما بفتح الأقواس أو في الهوامش والملاحق، بينما بالغ بعضها في الاعتماد على التفسير مثل الترجمة الأخيرة لعطائيتش التي جاءت عشرة مجلدات. ومن هنا فقد كان الهاجس / التحدي الذي يشغل د. دوراكوفيتش يكمن في تبرير قيامه بترجمة جديدة للقرآن وفي تبرير جدة هذه الترجمة وما تضيفه بالنسبة للترجمات السابقة. وفي الواقع يمكن اعتبار هذه الترجمة إضافة منهجية ومعرفية بالنسبة إلى هذا المجال الذي تتزاخم فيه الترجمات، حتى أنه يمكن القول أن البشانقة أصبحت لديهم الآن ترجمة جديدة / مختلفة تمكنهم من تفهم وتذوق القرآن الكريم بلغة بوسنوية خالصة. في كلمة المترجم ص644-648 يعترف د. درا كوفيتش بأنه قد خصّص بوعي حياته لخدمة اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية، ولكنه لم يكن في ذهنه سابقاً ترجمة القرآن. ولكن بعد إصداره لعديد من الترجمات من الأدب العربي القديم والحديث، التي أثبت فيها قدرة وجدارة على نقل أصعب ما في الأدب العربي المعلقات إلى اللغة البوسنوية بأسلوب شاعري يسمح للبشانقة بتذوق مثل هذا الأدب، قرر دوراكوفيتش المضي في أهم تحد ألا وهو إنجاز ترجمة جديدة / مختلفة للقرآن الكريم. كان د. دوراكوفيتش يقدر ما للترجمات السابقة للقرآن من فائدة حيث تراكمت معها خبرة جيدة في ترجمة القرآن تمثلت في نضج الترجمات المتأخرة كركوت وكاريتش عن السابقة. ومع ذلك كان دوراكوفيتش يرى وهو الذي يتميز عن غيره بتمكنه من اللغة البوسنوية وتقاليدها الأدبية، أن الترجمات السابقة ركزت على نقل المعنى الديني / المقدس ولم تهتم كثيراً باللغة البوسنوية التي تنقل إليها المعنى. ولذلك فهو يشير مثلاً إلى ترجمة كركوت المعروفة التي كتب على غلافها "القرآن الكريم مع ترجمة معانيه". ويرى دوراكوفيتش أن هذا التركيز على نقل المعنى الديني / المقدس جاء نتيجة لأمرين. أما السبب الأول فهو أن الذين أنجزوا الترجمات السابقة كانوا في تكوينهم علماء دين، ولذلك فقد انعكست طبيعة دراستهم على ترجماتهم، في التركيز على ما هو ديني على حساب ما هو لغوي / أدبي / جمالي. أما السبب الآخر فهو اقناع هؤلاء بأن أسلوب القرآن في العربية معجّز / غير قابل للنقل إلى لغة أخرى، ولذلك اكتفوا بالتركيز على نقل معانيه. أما دوراكوفيتش فهو يعتقد، وهو الذي استفاد من دراسته وترجماته السابقة في إثبات تفوقه واستخدام لغة بوسنوية شاعرية جميلة، أن القرآن كلمة الله وباعتباره كذلك فهو يستحق أن يوصل إلى القارئ البوسنوي وغيره في أفضل أسلوب، في لغة شاعرية تؤثر فيه بجماليتها كما تؤثر العربية بجماليتها في من يقرأ القرآن بالعربية. ومن هنا فقد جهد د. دوراكوفيتش في أن يجعل القارئ البوسنوي يقرأ القرآن ويتمتع بقراءته في اللغة البوسنوية مع فهم معانيه بطبيعة الحال. ولأجل ذلك فقد اعتمد دوراكوفيتش الترجمة المباشرة الشاعرية بعض السور بوزن واحد وبعض السور بأوزان عدة التي تعتمد على آية مقابل آية وصفحة مقابل صفحة مع الاستفادة القصوى من التقنية الطباعية لإبراز هذه المعادلة. وبالمقارنة مع الترجمات السابقة لم يشأ دوراكوفيتش أن يضع ما يعوق انسياب القارئ البوسنوي في قراءاته للقرآن وتمتعه بتلك القراءة، حيث أنه لم يفتح الأقواس داخل الصفحة ولم يضع الهوامش للشرح والتوضيح لا في يمين الصفحة ولا في أسفلها. ولكن في بعض المواقع التي رآها ضرورية وضع الأرقام الصغيرة التي أحال معها القارئ إلى ملحق صغير ص612-643 في نهاية الترجمة لتوضيح بعض الأمور مثل شرح ما تعنيه "الأشهر الحرم" بالنسبة للعرب وغير ذلك. ولهذا يمكن القول أن ترجمة دوراكوفيتش، التي احتفت بها الأوساط الثقافية في البوسنة على نحو غير مسبوق، إنما تؤكد أن عملية الترجمة تحتمل دائماً المزيد من الإبداع حتى حين يتعلق الأمر بما هو مقدس كالقرآن الكريم. * كاتب كوسوفي/ سوري.