يمكن القول ان حضور الادب العربي في البوسنة دراسةً وترجمةً مرّ بثلاث مراحل مختلفة وصولاً الى الآن. فخلال الحكم العثماني الذي امتد خلال 1463-1878 انتشرت اللغة العربية وثقافتها لدى النخبة الجديدة في البوسنة التي غدت تضمّ من يؤلف في بلاغة اللغة العربية وينظم شعراً فيها على نمط الشعراء العرب. وخلال الحكم النمسوي-المجري للبوسنة (1878-1918)، ظهرت نخبة جديدة استفادت من خبرة الاستشراق النمسوي ومناهجه في دراسة الادب العربي وتحقيقه، على رأسها صفوت باشأغيتش (1870-1934)، الذي ناقش رسالته للدكتوراة في جامعة فيينا 1910 ويعتبر مؤسّس الاستشراق البوسنوي بالمعنى الاوروبي الكلمة. ومع اندراج البوسنة ضمن مملكة يوغوسلافيا في 1918، برز البوسني فهيم بايراكتاروفيتش (1889-1970) الذي أسّس أول قسم للاستشراق في جامعة بلغراد عام 1925 وأصبح يعرف ب «عميد الاستشراق» في يوغوسلافيا. ولكن المرحلة الاهم للبوسنة كانت في جمهورية يوغوسلافيا (1945-1992) بعد أن تأسّس في 1950 قسم للاستشراق في جامعة سراييفو وأول معهد للاستشراق في سراييفو حيث أصبحت سراييفو المركز الاهم للدراسات الشرقية بالاستناد الى عدد العاملين والاصدارات في هذا المجال ومن ذلك دراسة الادب العربي وترجمته، الى أن انهارت يوغوسلافيا واستقلت البوسنة في 1992. بالاستناد الى هذا «التراث»، يمكن القول إن الادب العربي دراسةً وترجمةً ارتبط في العقود الاربعة الاخيرة باسم أسعد دوراكوفيتش أكثر من غيره سواء في يوغوسلافيا السابقة أو في البوسنة المستقلة، نظراً لما أصدره من دراسات وترجمات كثيرة تتناول الادب العربي من قديمه الى حديثه. ويكفي انه عرّف القارئ اليوغوسلافي إلى جورج سالم وزكريا تامر وغيرهما في سبعينات القرن الماضي، وأصدر مختارات لجبران ومحمود درويش في ثمانينات القرن الماضي ونشر أول ترجمة بوسنية كاملة ل «ألف ليلة وليلة» في 1999 وأصدر في 2004 أول ترجمة للمعلّقات مع دراسة وافية وترجمة بوسنية جديدة للقرآن الكريم. وفي هذا السياق، لا بد من ذكر كتابه «شعر المشرق للقرن العشرين» (1994) الذي عرّف فيه بعشرات الشعراء العرب في القرن العشرين. وعلى رغم انشغال دوراكوفيتش الدائم بالادب العربي دراسةً وترجمةً خلال أربعين عاماً، إلا أنه لم يتمكن إلا من زيارة مصر (1977-1978) وسورية (1985) والاردن (1996) حيث إن ظروفه الصحية منعته من السفر لاحقاً حتى إنه لم يتمكن من السفر الى باريس عام 2003 لتسلم جائزة «الشارقة/ اليونسكو» لخدمة الثقافة العربية التي منحت له تقديراً لعمله. وقد عوّض عن ذلك صدور ترجمة رسالته للدكتوراه «نظرية الابداع المهجرية - دراسة في أدب المهجر» في دمشق 1989 والكتاب الذي صدر في أواخر 2011 عن المشروع القومي للترجمة في القاهرة بعنوان «دراسات في أدب البوسنة والهرسك وفي الادب العربي» بترجمة جمال الدين سيد محمد. وكان هذا الكتاب صدر في سراييفو عام 2005 وضمّ دراسات مختارة لدوراكوفيتش في مجالين متداخلين تميّز بهما، بل أصبح اسمه مرادفاً لهما: الدراسات الشرقية في البوسنة والادب العربي، حيث إنه ضمّ بالتساوي ثماني دراسات من كل مجال تفيد القارئ العربي كثيراً في التعرف الى خصوصية الاستشراق أو الدراسات الشرقية في البوسنة الآن، وإلى حضور الادب العربي في البوسنة دراسةً وترجمةً من امرىء القيس الى جبرا ابراهيم جبرا. وفي ما يتعلق بالمجال الاول، يكفي هنا أن نستعرض عناوين الدراسات الثلاث الاولى: «الاستشراق – المشكلات والمناهج والمسميات» و «التطور الفكري لتاريخ ونقد الادب في مؤلفات المستعربين البشانقة» و «البلاغة العربية باعتبارها علماً منغلقاً وآمادها في البوسنة». ففي الدراسة الاولى التي نشرت عام 2000 يشرّح خلفيات الاستشراق الاوربي وصولاً الى صدور كتاب ادوار سعيد الذي ساهم النقاش حوله في بلورة مدرستين مختلفتين (مدرسة بلغراد ومدرسة سراييفو)، كانت الاولى أقرب الى النزعة المركزية الاوروبية، بينما كانت الثانية تبحث عن بديل معرفي، وهو ما عبّر عنه دوراكوفيتش في كتابه «علم الشرق» الصادر في 2007 والذي أعاد فيه الاعتبار للعلم (الاورينتولوجيا) بديلاً من التسييس (الاورينتاليزم). وفي هذا السياق، تفيد دراسته اللاحقة في التعرف إلى الباحثين الرواد في مجال الدراسات الشرقية الحديثة في البوسنة، أو «المستعربين» كما يسمّيهم، ليبيّن جذور ما عرف لاحقاً ب «مدرسة سراييفو». أما في الدراسة الثالثة، فلدينا ما يفيد عن سعة معرفة دوراكوفيتش وثقافته، حيث إن معرفته بهذا الجانب قد ساعدته على انجاز ترجمة أفضل الى اللغة البوسنية لما كان صعباً على الترجمة مثل «المعلقات السبع». أما في ما يتعلق بالقسم الثاني عن دراسات دوراكوفيتش عن الادب العربي، فتبدو اسهامات دوراكوفيتش في شكل محدد أكثر للقرّاء العرب، حيث إن هذه الدراسات مقدمات لما نشره وترجمه من الادب العربي من أقدم عصوره حتى الآن (لديه تحت الطبع رواية «الحلال» ليوسف ادريس). فالأصل في هذه المقدمات أن تعرّف القارئ البوسني أو اليوغسلافي (الذي لا يزال يشكّل مجالاً قارئاً يضم البوسنة وكرواتيا وصربيا والجبل الاسود) إلى الاعمال الشعرية أو الروائية من الادب العربي التي يقدمها دوراكوفيتش مترجمة بالكامل أو على شكل مختارات مثل «المعلقات السبع» أو «ألف ليلة وليلة». وفي مثل هذه المقدمات التي تعتبر دراسات مرجعية بالنسبة الى الباحثين هناك، يغوص دوراكوفيتش في الاصول والآراء المختلفة المتعلقة بالأصول ونقدها وصولاً الى ما يساعد القارئ على التواصل معها في شكل أفضل، وهو ما يميّز بالفعل دوراكوفيتش الذي يبدع في ايصال «المعلقات السبع» الى الذائقة البوسنية بفضل تمكّنه من اللغتين. ويلاحظ هنا أن دوراكوفيتش بدأ دراسة الشعر العربي وترجمته بالعكس: من الشعر المعاصر الى الشعر الجاهلي. فقد بدأ في الثمانينات من القرن الماضي اهتمامه بالشعر الفلسطيني نتيجة لما كان يمثله هذا الشعر في ذلك الوقت وأصدر في 1984 مختارات لمحمود درويش بعنوان «قصائد مقاومة» مع دراسة عن خصوصية الشعر الفلسطيني باعتباره «شعر المقاومة»، بينما نشر في 1994 مختارات شعرية ضمت الشعر الفلسطيني وغيره بعنوان «شعر المشرق للقرن العشرين» التي عرّف بها بشعراء لبنان والعراق وسورية والاردن والكويت وغيرها، وتناول في مقدمته دراسة واسعة للتيارات الشعرية الجديدة التي عرفتها المنطقة في القرن العشرين. وعلى صعيد النثر، فقد اشتهر دوراكوفيتش بمختاراته التي أصدرها عن جبران في زغرب والتي أعيد طبعها، ولكنه ساهم في مقدمته للكتاب الذي أصدره في سراييفو عام 2000 في توضيح الوجه الشرقي لجبران. فقد ركزت المختارات السابقة على ما نشر لجبران في الانكليزية باعتباره نتاجاً للعالم الجديد الذي حلّ فيه جبران وهو ما ترجم الى الصربية أو الكرواتية، بينما سعى دوراكوفيتش في هذه المختارات الى إنجاز أول ترجمة لمؤلفاته العربية («عرائس المروج» و «دمعة وابتسامة»... الخ) مبيّناً ما تمثله من فلسفة جبران في حاضنتها الشرقية. والى جانب جبران، ترجم دوراكوفيتش روايات معاصرة من الادب العربي بدءاً ب «البحث عن وليد مسعود» لجبرا ابراهيم جبرا (1995) و «قصة زهرة» لحنان الشيخ (1998) وصولاً الى «الحرام» ليوسف ادريس (2013)، التي قدّم لها بدراسة عن مؤلفيها وتحليل لرواياتهم. اضافة الى ذلك، يضم هذا القسم تعليقات دوراكوفيتش عما ينشر من ترجمات من الادب العربي كما هو الامر مع رواية «موسم الهجرة الى الشمال» للطيب صالح و «الايام» لطه حسين (سراييفو 1998). وأخيراً يمكن القول إن نشر هذا الكتاب في اللغة العربية يعتبر نوعاً من التكريم لأكاديمي قضى أربعة عقود من حياته في دراسة الادب العربي وترجمته، كما أنه يمثل فرصة للقارئ للتعرف إلى خصوصية الاستشراق أو الدراسات الشرقية في البوسنة واستقبال الادب العربي هناك.