رفيق شامي روائي سوري يكتب بالألمانية ويحظى بشهرة كبيرة يحسده عليها بعض الكتّاب الألمان. رواياته تباع بغزارة وتشهد رواجاً عالمياً، وقد ترجمت الى لغات عدّة. يتقن رفيق العربية ويتحدث فيها بطلاقة مع لهجة سورية لم تفارقه على رغم مغادرته سورية قبل 33 سنة. عاد رفيق الى بلاده مرّة واحدة في 1985، ومنذ ذاك الحين لم يتوجّه اليها اعتراضاً على النظام السوريّ كما يقول. في المانيا يشعر بالحريّة ويكتب ما يشاء بعيداً من أي رقابة أو إرهاب فكريّ. التقيته في دار النشر الألمانية "هانزر" الكبيرة حيث كان محاطاً بالكثير من المعجبين الذين يطلبون توقيعه على كتابه الجديد "حكواتية الليل". الناشر نفسه يقف الى جانبه مبتسماً والكاميرات تسترق له لقطات واقفاً بين الكتب أو منحنياً وموقّعاً. كان وقته ضيقاً تبعاً للمواعيد الصحافية التي نظمتها له الدار. وعندما علم أنني كاتب في صحيفة "الحياة" رحّب بي وقادني الى مكتب صغير هرباً من الضجيج. لم أجر معه حواراً كاملاً لضيق الوقت لكننا "دردشنا" معاً في أمور عدّة. سألته: أنت نجم في المانيا ومبيعاتك تزاحم مبيعات الكتّاب الكبار بينما أنت مجهول عربياً! لماذا؟ أجاب: "صحيح. ولا أدري ما السبب تماماً. حاول بعض الناشرين العرب ترجمة كتابين لي الى العربية واشترطوا عليّ حذف مقاطع عدّة فرفضت. ثم جرت محاولات أخرى ولكن مع اصرار على الحذف، فرفضت مرّة أخرى. لا أريد أن يترجم لي الى العربية كتاب مراقب مسبقاً. وهكذا لم أحصل على أي فرصة للترجمة. لديّ مشكلة مع الناشرين العرب على خلاف الناشرين العالميين. كتبي الآن توزّع في عواصم كثيرة وفي لغات كثيرة إلا بالعربية. أما تخوّف الناشرين العرب فيكمن في ما يمكن أن أسمّيه مثلثاً: نقد السلطة، المسألة الجسدية ولن أقول الجنس أو "البورنوغرافيا" ومسألة الدين. هذه محرّمات في العالم العربي على ما أرى وهنا ليست بالمحرّمات. علماً أنني لا أكتب نصوصاً جنسية في المعنى المباشر والغرائزي كما أنني لا أكتب عن الدين. اليوم نعاني من هجمة بربرية علينا نحن العرب. وكنت خلال الحرب على العراق ضدّ أميركا وحلفائها، وكتبت مقالات عنيفة ضد جورج بوش وسياسته. أميركا والدول الغربية تريد السيطرة على البترول. هذا واضح جداً وكلّ كلام غير هذا كذب في كذب". وأسأله: تصرّ في رواياتك على استعادة عالمك الأول، عالم الطفولة وخصوصاً دمشق التي تسيطر على أدبك. يقول: "إنني على علاقة قويّة بدمشق على رغم أنني ولدت في معلولة سنة 1946. كل يوم أفكر بدمشق. لديّ هذا الحنين الدائم. الموت والمنفى لا يستطيع المرء أن يعتاد عليهما. المانيا هي بلدي الثاني ومنفاي في الحين عينه. وأنا أرفض أن أعدّ كاتباً المانياً، أنا كاتب عربي يكتب بالألمانية". أقول له: ألا تؤيد قول هيدغر أن الإنسان يسكن لغته: "صحيح اللغة هي مسكني، انني أسكن فيها مثلما هي تسكن فيّ. وأودّ أن أشير الى أن اللغة الألمانية تختلف كثيراً عن العربية. أو لأقل ان الكتابة بالألمانية تختلف عنها بالعربية. الألمانية تعلّمك الاختصار وعدم التطويل وقول الأمور مباشرة لا مداورة. وعندما جئت الى المانيا انكببت على تعلّم الألمانية لأتابع دروسي والمحاضرات الجامعية. ثم أمضيت عشر سنوات أتمرّن على الكتابة. رحت أنقل بخط اليد روايات كثيرة لكبار الكتّاب الألمان بغية أن أراقب عن كثب كيف تُبنى الجملة وكيف تتوزّع وكيف تنسج. وقسوت على نفسي حتى تمكنت من احتراف الكتابة. ولا أخفيك أنّ لديّ محرّراً يراجع أعمالي قبل النشر. وهذه عادة معروفة جداً في المانيا. حتى غونتر غراس لديه محرر ويرافقه حتى في أسفاره". لدى رفيق شامي حتى الآن عشر روايات اضافة الى احدى عشرة رواية للأطفال. يقول: "رواياتي تعتمد على عناصر الحكاية العربية القديمة، وجذورها تضرب هناك، في تراثنا الشعبي والحكائي. وأقول جهاراً ان شهرزاد معلّمتي. لقد تعلّمت عليها الكثير. واعتقد بأن الاعتماد على هذا التراث يمنحنا أفقاً جديداً. انني قرأت وأقرأ الروايات العالمية باستمرار ولكنني أرفض أن أقلّدها. انها تحفل بالتقنيات والمغامرات وتقوم أحياناً على التحليل النفسي الذي يجذب الكثير من الروائيين. الرواية التي أكتبها هي أشبه بسجادة محبوكة الخيوط يرى القارئ ألوانها وأشكالها كما لو أنه يرى منمنمة يتطلب صنعها الكثير من الجهد. هذه هي طريقتي في الكتابة. أحياناً أستخدم الراوي مباشرة وأحياناً ينهض الراوي في وسط الحكاية وهو أقرب الى الحكواتي الذي يفاجئ القارئ ويدلّه الى طريق أخرى. وفي أحيان كثيرة أدمج بين تقنية السرد وتقنية الحكواتي". وأسأله: ألا تخاف الوقوع في شرك "الأكزوتيكية" كما وقع سواك كالطاهر بن جلون مثلاً! يقول: "لا أخشى "الأكزوتيكية" ما دمت واعياً ما أكتب. إنني أستوحي لعبة شهرزاد القريبة منا وأبحث مثلها عن قصص متعددة وأساليب وأشكال. كل رواية لها أسلوبها والرواية هي التي تفرض أسلوبها عليّ. أما إذا كتبت عن التطرّف الساديّ الذي يمارسه مثلاً رجل دين مسيحي على الأطفال فهو ليس بالموضوع الأكزوتيكي. وبالتالي هذا الفضح لا يسيء الى الدين المسيحي. وإذا تطرّقت الى العلاقة بين الرجل والمرأة وان شابها الجنس فهذا ليس موضوعاً إكزوتيكياً أيضاً. وأقول مجدّداً إنني أمقت "البورنوغرافيا" الخالية من العمق والشعرية. وفي رواية "رحلة بين الصبح والمساء" أتخيّل بلداً رمزياً يمنع فيه الديكتاتور الحاكم الناس من الضحك. هذه الرواية تمثل واقع الديكتاتورية العربية ولكن بطرافة وسخرية مرّة. والديكتاتور هذا لا يشبه "ديكتاتور" الرواية الأميركية - اللاتينية لأن له طابعاً شرقياً. وتتبدّى تقنية "ألف ليلة وليلة" في روايتي "الوجه المظلم للحب" وهي مجموعة قصص يربط بينها خيط رفيع. فكلّما انتهت قصة تبدأ من نهايتها قصة أخرى. انها تقنية شهرزاد في السرد ولكن في أسلوب حديث. ولا أخفيك أن كل شخصياتي عربية ما عدا روايتين، واحدة عن الشاعر الألماني غوته وعنوانها "تقرير سرّي عن الشاعر غوته" وتطلّبت مني ثلاث سنوات توثيقاً وكتابة، وأخرى عن حياة الأجانب في المانيا وعنوانها "السفر من دون بطاقة". وأسأله: هل تعتقد بأن رواياتك ان ترجمت الى العربية ستعجب القارئ العربي؟ يجيب: "اعتقد ان القارئ العربي سيحبّها أكثر من الألماني لأنه سيتذكر طفولته في صورة حديثة. القارئ الأجنبي لا يعرف الأمور والأشياء التي اتحدث عنها ولا يعرف كذلك الحارات والأحياء الداخلية في المدينة، لا يعرف من هو بائع الفول أو الاسكافي وسواهما... أسأل في ختام لقائنا رفيق شامي عن موعد عودته الى سورية فيقول: "غادرت دمشق سنة 1971 وكنت حينذاك شيوعياً. عدت مرّة واحدة سنة 1985 ولن أعود ما دام النظام قائماً. اعتبر نفسي منفياً. وهنا أستطيع أن أنتقد النظام السوري بحريّة. وانني آخذ عليه الكثير من المساوئ: التدخل في لبنان، سجن السياسيين واعتقال الكتاب والفساد... يكفي أن نرى ما فعل "البعث" في العراق حتى نتعظ. العراق لم يخرّبه سوى البعث. واعتقد ان الحياة الثقافية في سورية تمرّ في مرحلة من الخراب. لم يتقدم شيء في سورية بل هي تراجعت عما كانت عليه في الخمسينات. أين الحياة البرلمانية؟ أين الصحافة؟ أين حريّة الإنسان؟ لن أعود الى سورية ما دام النظام قائماً، هذا ما أقوله علانية وليس في السرّ". نخرج من الغرفة الصغيرة الى جناح الناشر الألماني. هناك كان في انتظاره صحافيون أجانب يزورون فرانكفورت لتغطية المعرض.