كما هو متوقع جاء الخطاب الأخير للرئيس الأميركي جورج بوش عن "حال الاتحاد" وسط موسيقى تصويرية إعلامية زاعقة وسابقة برعت فيها هذه الإدارة من البداية. خطاب "حال الاتحاد" تقليد سنوي يطرح فيه الرئيس على مجلسي الكونغرس مجتمعين وضع الاتحاد الفيديرالي الأميركي داخلياً وخارجياً، بما يجعله حساباً عن سنة مضت ومرشداً لسياسات سنة قادمة. في خطاب الرئيس جورج بوش عن حال الاتحاد في كانون الثاني يناير سنة 2002 مثلاً أطلق شعاره الجامع المانع عن "محور الشر" في المسرح الدولي محدداً بالاسم العراق وإيران وكوريا الشمالية ما جعل الحلفاء في أوروبا واليابان - قبل الخصوم - يتوجسون شراً من العودة إلى قاموس حرب باردة هم بالكاد يلتقطون أنفاسهم منذ انتهائها. في خطاب الرئيس جورج بوش في المناسبة نفسها العام الماضي، أخطر الكونغرس رسمياً بمعلومات تعبئ لغزو عسكري للعراق من تحت عباءة حربه ضد الارهاب كرد فعل لأحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 وحالة الطوارئ الدائمة التي فرضتها الادارة، بما في ذلك تشريع باسم "القانون الوطني" يزيد مضمونه على ثلاثمئة صفحة. قانون جرى تمريره بسرعة مذهلة على رغم حقيقة أنه "يخصم" الكثير من الحريات المدنية التي اعتز بها المواطن الأميركي طويلاً وتاريخياً. إنما في خطاب العام الماضي تحديداً جعل الرئيس جورج بوش العراق محوراً أساسياً لشرح سياسة ادارته في مواجهة الارهاب الدولي. وهو عنوان جرى غزو أفغانستان تحت غطائه وأصبح "تحرير" العراق وشيكاً هو الخطوة التالية. العراق محاصر فعلياً طوال 13 سنة سابقة ومحبوس داخل صندوق محكم بالتعبير الأميركي وكل حدوده مغلقة ولا تخرج منه صادرات أو تدخل اليه واردات إلا بموافقة مسبقة من الأممالمتحدة. مع ذلك جعل الرئيس جورج بوش من ذلك العراق البائس المقموع داخلياً وخارجياً خطراً يهدد الأمن الدولي بمجموعه والولاياتالمتحدة خصوصاً. هكذا أخطر الرئيس بوش الكونغرس رسمياً وعلناً بأن صدام حسين لديه مركّبات كيماوية محظورة بما يكفي "لقتل آلاف من الناس لا حصر لها"، ولديه كميات من الأنثراكس تكفي "لقتل ملايين عدة من الناس"، ولديه من مركب البوتيوليوم المحظور ما يكفي "لتعريض ملايين من الناس للموت نتيجة فشل أجهزتهم التنفسية"... الخ. تلك كانت معلومات محددة يخطر بها الرئيس الأميركي سلطته التشريعية ومن خلالها الشعب الأميركي والعالم كله. في خطاب الرئيس جورج بوش عن "حال الاتحاد" لم يعتذر عن أي من هذا كله، ولا اعترف بتضليله للذهاب الى حرب تأكد بأثر رجعي أن كل أسبابها المعلنة غير صحيحة وملفقة. الآن لا ذكر لأسلحة دمار شامل ولا غازات وكيماويات ولا... ولا... ولا. البديل الآن هو أمر واقع فرضته الادارة الأميركية على شعبها وعلى العالم في مواجهة احتجاجات هادرة سابقة من العالم كله. لقد أصبح غزو العراق أول تطبيق فعلي لما يسمى "عقيدة بوش" المعلنة رسمياً منذ أيلول 2002. عقيدة جوهرها أمران: ان الولاياتالمتحدة لن تسمح حاضراً أو مستقبلاً بوجود منافس لها سواء كان دولة أو مجموعة دول... كما أن للولايات المتحدة الحق والسلطة في شن أي حرب استباقية وقائية ضد أي طرف دولي تقرر هي أنه خطر على مصالحها. من اللحظة فصاعداً، أميركا هي القوة المنفردة عالمياً لها القدرة وعلى الآخرين السمع والطاعة. فإذا لم تقنعهم انذارات الرئيس بوش فستقنعهم صواريخ "كروز" ومشاة البحرية الأميركية. كانت عقيدة بوش هذه امبراطورية بامتياز توجس منها الحلفاء قبل الخصوم شراً مستطيراً لأنها تقلب الحياة الدولية رأساً على عقب وتفرض على الجميع قانوناً أميركياً جديداً خلاصته "البقاء للأقوى". والقوة هنا هي أساساً قوة العضلات والسلاح قبل أي شيء آخر. لقد أصبحت المفارقة حتى أضخم من إمكان تجاهلها أو التكيف معها. فالعالم الذي تعاطف وتضامن بكامله مع الشعب الأميركي في 11 أيلول 2001 ضد الارهاب تحول الى عالم يخشى أميركا قبل أن يخشى الارهاب... ويبدو أن هذا كان بالضبط ما تسعى اليه هذه الادارة الأميركية في سلوكها الامبراطوري. لكن عالماً يحكمه الخوف لا يمكن أن يستسلم هكذا للابتزاز والترويع. في نهاية المطاف أميركا ذاتها تقترض من هذا العالم ألف مليون دولار كل صباح لنمو اقتصادها. فإذا جرى الاحتكام الى الحقائق المجردة لن تنفتح خزائن الآخرين بصواريخ "كروز" ومشاة البحرية. هذا يعيدنا الى الخطاب الأخير للرئيس بوش عن "حال الاتحاد". هناك أولاً المزيد من الشيء نفسه. لا الإدارة تعلمت من أخطائها، ولا العالم غفر لها. هناك ثانياً استمرار في المكابرة، اذ ان أميركا لن تحصل على اذن مسبق لشن أي حرب تراها هي ضرورية مستقبلاً. هناك ثالثاً تحويل المناسبة الى مدخل دعائي لحملة الرئيس الانتخابية سعياً الى فترة ثانية في البيت الأبيض. أما الأكثر أهمية في خطاب بوش الأخير فلم يكن ما ورد فيه، وانما ما لم يتضمنه. وما لم يتضمنه هو حقائق الحياة الدولية كما هي فعلاً وليس كما يصوغها محررو الخطابات الرئاسية الأميركية. فلنترك العراق موقتاً ولنتأمل الواقع الدولي الأكثر شمولاً. في الهند مثلاً حشد من مئة ألف مواطن عالمي ذهبوا الى هناك تعبيراً عن احتجاجهم المستمر ضد الهيمنة الأميركية، تكراراً لحشود سنوية سابقة جرت في البرازيل. هؤلاء لا ذكر لهم في الخطاب الأميركي بالمرة وكأنهم حشرات لا وجود لها. ربما. فبمنطق الادارة الأميركية، من ليس معي فهو مع الارهاب، اذن هم مع الارهاب، وكارهون لأميركا وحاسدون لها ورافضون لرسالتها التبشيرية. هناك أيضاً تطور جرى تغييبه بالكامل عن الشعب الأميركي. تطور من العراق الذي هو تحت الاحتلال؟ من أوروبا التي تعاملها الادارة باستهزاء؟ من روسيا التي تراقبها الادارة بعجرفة؟ أبداً. إنه من كوريا الجنوبية التي هي تقليدياً إحدى توابع أميركا منذ خمسين سنة على الأقل. وطوال تلك المدة موجود هناك قواعد عسكرية أميركية ثابتة وأربعين ألف جندي أميركي مقيم تدفع كوريا الجنوبية لأميركا ستين ألف دولار سنوياً عن كل جندي حتى يصبح العنوان اللطيف لهم هو الضيوف بدلاً من المحتلين - تماماً كما في حالات أخرى من اليابان الى الخليج العربي وما يستجد. قبل أيام من خطاب الرئيس بوش الأخير أمام الكونغرس قررت أميركا بهدوء وبعيداً عن الكاميرات إبعاد وحداتها العسكرية المقيمة في عاصمة كوريا الجنوبية الى خارج العاصمة بسبعين كيلومتراً تهدئة لمشاعر الغضب المتكررة من الشباب الكوري وتظاهراته الاحتجاجية ضد الوجود العسكري الأميركي جيل الشباب نفسه الذي ترعرع في ظل النفوذ الأميركي الطاغي هناك، مع أنه ليس عربياً ولا مسلماً. فقط هو الرفض الطبيعي للوجود الامبراطوري الأميركي. في الأساس تلك القوات الأميركية موجودة منذ خمسين سنة تحت عنوان حماية كوريا الجنوبية من شمالها الشيوعي القمعي المغلق الساعي الى التسلح النووي. الشمال الكوري هو كل هذا انما الامبراطورية الأميركية جعلت تكيف هؤلاء الشباب مع الشمال أهون من التكيف مع الوجود العسكري الأميركي. الأهم من هذا هو أن الادارة الأميركية صنّفت كوريا الشمالية ضمن "محور الشر" المستهدف رسمياً سعياً الى تطبيق عقيدة بوش الاستباقية. مع ذلك فإن الصينوروسياواليابان وجميع الجيران المباشرين رفضوا المعلومات الاستخبارات التي قدمتها لهم أميركا عن وجود خطر وشيك من الشمال. من تلك الزاوية فقط تراجع "محور الشر" من خطاب بوش الأخير. في أوروبا الغربية، وهي أيضاً منطقة نفوذ تقليدية منذ الحرب العالمية الثانية، حاولت الادارة الأميركية الحالية أن تضرب أوروبا بأوروبا. هناك أوروبا "قديمة" راحت عليها، وأوروبا "جديدة" هي التي تشملها الامبراطورية الجديدة ببركاتها. بولندا، مثلاً، رضيت عنها أميركا بمجرد أن اشترت منها أكبر صفقة سلاح في تاريخها ولا تحتاج اليها أصلاً فكافأتها أميركا باستقبال رئيسها ضيفاً على جورج بوش والسماح ببضعة جنود بولنديين في العراق مع وعد مراوغ بحصة غير محددة من عقود إعمار العراق. وفي الاجتماع المقبل لحلف شمال الأطلسي ستكرر الادارة الأميركية من جديد إلحاحها على الدول الأعضاء بزيادة موازناتها العسكرية مساهمة في انعاش الصناعات العسكرية الأميركية. أما الأكثر أهمية هنا - وحسب دراسات أميركية - فإن عداء الشارع الأوروبي للسياسات الأميركية الجديدة وصل الى مستوى غير مسبوق بالمرة منذ نصف قرن. ولنأخذ منظمة الأممالمتحدة مثلاً التي تلقت انذارات متتالية من هذه الادارة بتهميشها، وتجاهلتها فعلاً بغزوها للعراق وبدأت بعدها برفض أي دور لها هناك، متبجحة بالقول إن لأميركا شرعية في العراق أكثر من الأممالمتحدة كلها. الآن تقوم أميركا بملاحقة كوفي أنان الامين العام لأنه - من فضلك ولو سمحت - أميركا مزنوقة فيك سعياً لتجميل احتلالها للعراق وتسميته بعنوان آخر لطيف. الرجل معذور، ومزنوق، انما هو في النهاية موظف عند مجلس الأمن الدولي. المجلس نفسه الذي احتقرته أميركا الامبراطورية في شباط فبراير الماضي ولم تعفُ حتى دوله الصغيرة من التجسس على اتصالاتهم البريدية والتليفونية، بغير جدوى. و... اختصاراً لهذا كله، فلنذهب الى أميركا اللاتينية. القارة نفسها التي اعتبرتها الولاياتالمتحدة دائماً منطقة نفوذ مغلقة عليها وأعلنت في سبيل ذلك "مبدأ مونرو" قبل عقود انذاراً لكل القوى الدولية الأخرى بالابتعاد تماماً عن تلك القارة لحساب المصالح الأميركية. قبيل أيام من خطاب جورج بوش الأخير ذهب هو نفسه الى المكسيك لحضور اجتماع دوري لأربع وثلاثين دولة في الأميركيتين على مستوى القمة. ذهب مستبقاً الأحداث - كما كل امبراطورية - بإنذارات ووعود: على دول الأميركيتين التضامن مع الولاياتالمتحدة لتغيير النظام الحاكم في كوبا، وعليها أن تذعن لكل ما تطلبه اميركا من اجراءات تحت عنوان مكافحة الفساد، وعليها ثالثاً الدخول قبل سنة 2005 في اتفاق تجارة حرة مع الولاياتالمتحدة... الخ. في كل القضايا المطروحة واجه الرئيس الأميركي الامبراطوري رفضاً صريحاً وقاطعاً. بالنسبة الى كوبا قال رئيس فنزويلا: "اننا في فنزويلا استطعنا أن نقدم العناية الطبية لعشرة ملايين شخص من أصل 23 مليوناً. وتمكنّا هذه السنة من محو أمية مليون شخص بفعل المساعدة التي قدمتها لنا كوبا من دون مقابل. ونحن هنا نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله". بالنسبة لمكافحة الفساد رد الجميع بأن الشعار جميل ومرغوب لكن الدافع الأميركي الحقيقي هنا هو الانتقام من النظم السياسية والمسؤولين الحكوميين الذين لا يقدمون للشركات الأميركية ما تريده من تنازلات وامتيازات واحتكارات. تبقى التجارة الحرة. هنا فاض الكيل. رئيس الأرجنتين مثلاً: "انكم كأميركيين أمطرتمونا ليلاً نهاراً بالمواعظ والمحاضرات، واستخدمتم ضدنا سوط صندوق النقد الدولي بحجة الاصلاح الاقتصادي. سايرناكم في هذا كله وبعنا مصانعنا ومرافقنا برخص التراب وجعلنا الدولار الأميركي ذاته عملتنا الرسمية، فكانت النتيجة اننا كدولة أصبحنا الأكثر فقراً مما كنا عليه قبل مئة سنة. انتهت الحصة". أما رئيس البرازيل، في تعامله بتلك القمة مع أميركا الامبراطورية، فقد جاء مباشراً وعملياً. قبيل القمة بأيام كانت الولاياتالمتحدة أعلنت اتخاذ اجراءات أمنية مهينة لجميع من يذهبون لزيارتها من جميع الدول باستثناء 26 دولة معظمها أوروبية. اجراءات من بينها البصمات والتصوير الالكتروني وخلافه. البرازيل من جانبها قررت معاملة جميع الرعايا الأميركيين الزائرين لها بالمثل. وحينما استهزأ طيار أميركي بتلك الاجراءات اعتقلته الشرطة البرازيلية في المطار فوراً. لكن رئيس البرازيل واجه الرئيس الأميركي بالمزيد الجارح: "ان سياسات السوق الحرة التي توجهها الولاياتالمتحدة جعلت سنوات التسعينات بالنسبة لجميع شعوبنا حقبة من اليأس لا يزال على شعوبنا الآن أن تتعافى من بلاويها. لقد أصرت الولاياتالمتحدة على نموذج من الرأسمالية متحلل تماماً من المسؤولية الاجتماعية، وهو نموذج ضال وفاسد ومنحرف". ولأن الكلام كان على الوجيعة فقد أضاف اليه رئيس فنزويلا تعبيراً أكثر عنفاً بقوله: "ان هذا النظام الاقتصادي الدولي الذي تلح علينا به الولاياتالمتحدة هو آلة شيطانية جهنمية تنتج المزيد من الفقراء كل دقيقة". لم يكن ما جرى بأقل من تمرد وثورة على الولاياتالمتحدة في فنائها الخلفي، من دول اعتادت اميركا سابقاً أن تقلب حكوماتها بالتليفون. الآن انتهى كل هذا. لكننا لم نجد أثراً لشيء من هذا في خطاب جورج بوش الأخير. وجدنا فقط منطقة واحدة من العالم يصول فيها ويجول. منطقة اسمها الشرق الأوسط. وحتى من دون ما قاله فإن ما لم يذكره أهم. من بين الأهم، مثلاً، انه مع سماح الولاياتالمتحدة بهبوط قيمة عملتها بنسبة عشرين في المئة، أصبحت دول البترول - ومعظمها عربية - أفقر بنسبة عشرين في المئة. دول أخرى اتخذت اجراءات مضادة من بينها مثلاً ربط عملاتها باليورو الأوروبي بدلاً من الدولار. هذا لم يحدث بترولياً، والحجة جاهزة: صواريخ "كروز" خلفنا ومشاة البحرية في شوارعنا. ولم يكن هذا هو فقط الجزء الناقص من خطاب جورج بوش الأخير عن حال الامبراطورية. * كاتب مصري.