حتى من قبل أن تشن الولاياتالمتحدة حربها في العراق لم يكن هناك عاقل يشك في نتيجتها على المستوى العسكري. بل إن اطلاق صفة الحرب على ما جرى لم يكن سوى تزيّد وانتحال لعنوان على غير مسمى. فحينما تحشد قوة عظمى عالمية ووحيدة بحجم الولاياتالمتحدة ثلثمئة ألف من قواتها زائد أقمار اصطناعية وصواريخ كروز وقنابل عنقودية وأخرى من اليورانيوم المخضب ضد دولة من العالم الثالث محاصرة براً وبحراً وجواً منذ 13 سنة فإن التسمية الصحيحة لما جرى هو "مجزرة" بأكثر مما هو حرب. واذا كانت الساحة الاقليمية هي نقطة الانطلاق في الغزوة الاميركية فإن الساحة الدولية كانت مستهدفة ايضاً في اللحظة نفسها. إنه استعراض اميركي للقوة موجه الى من يعنيهم الأمر حالياً ومستقبلاً. والرسالة هي أن عقيدة الحروب الاستباقية اصبحت سياسة اميركية ثابتة ومقررة وان الاستراتيجية المعلنة اميركيا منذ شهر ايلول سبتمبر الماضي بعدم سماح الولاياتالمتحدة لأي دولة أخرى - أو مجموعة من الدول - بمضاهاتها عسكرياً أو حتى السعي الى ذلك هو أمر مرفوض اميركيا.. حيث احتكار القوة هنا هو السلاح الأبتر لصياغة الواقع الدولي الجديد. وفي ذهاب اميركا الى غزوتها العراقية لم تجهز مسبقا الموسيقى التصويرية فقط ولكن الاخراج التلفزيوني ايضا، بدءاً من مركز صحافي في قطر تكلف مليون دولار الى ستمئة صحافي واعلامي صحبتهم القوات الاميركية معها ضمن وحداتها ودربتهم على نقل الصور المختارة التي تريدها الى الشعب الاميركي والى العالم فيما لم تعرفه الحروب من قبل مطلقا، واذا كان عنوان الحملة العسكرية هو "الصدمة والترويع"، فإن الصدمة بدت موجهة الى المنطقة والترويع موجه الى العالم باتساعه - الحلفاء قبل الخصوم. وبعد سقوط بغداد كان كولن باول وزير الخارجية الاميركي هو الذي خرج ليعلن صراحة أن على جميع دول المنطقة أن تعيد النظر في مواقفها، ثم يعلن ايضا أن على فرنسا ان تتحمل عواقب معارضتها للحرب. أما جيمس شليزنغز الذي شغل سابقا مناصب وزير الدفاع ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ووزيرالطاقة فقد كتب يقول إن ما جرى سيغير من الخريطة الاستراتيجية والسيكولوجية للشرق الاوسط. و"لقد كسبنا الحرب وقمنا بتلقين الشرق الاوسط درساً. أما أرييل شارون رئيس وزراء اسرائيل ووزير دفاعه فقد خرجا بالدعوة الى أن تكون سورية هي الهدف التالي في جدول الاعمال الاميركي. في اليوم نفسه كانت الأصوات الرسمية للإدارة الاميركية توجه الانذارات ضد سورية وتحرك ضدها مشروعَ قانون في الكونغرس معداً منذ الصيف الماضي. لكن ريتشارد بيرل مستشار وزارة الدفاع الاميركية كان أكثر استطرادا حينما قال: "اذا كان السؤال المطروح هو من الذي يشكل تهديدا على الولاياتالمتحدة التعامل معه، فحينئذ تصبح القائمة معروفة، إنها ايران، إنها كوريا الشمالية، إنها سورية، إنها ليبيا، واستطع أن استمر، وبالطبع قبل هذا كله يجيء دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الاميركي الذي شبه سقوط بغداد بسقوط حائط برلين في سنة 1989 وما تبعه من تداعيات باتساع أوروبا والاتحاد السوفياتي وقتها. هنأت الادارة الاميركية نفسها اذن وكذلك انصارها بغير أن يتوقف أحد عند السؤال الجوهري وهو: هل العراق هو بداية، أو نهاية، الامبراطورية الجديدة؟ هل العالم - واميركا نفسها - اكثر أمنا بعد غزو العراق وترويع المنطقة؟ وهل احتلال العراق وتهديد الحلفاء في أوروبا وتضليل الرأي العام الاميركي بحرب معقمة تستعرض قوة الاسلحة ومفعولها ولكنها تحجب الضحايا من البشر سيجعل المواطن الاميركي ينسى اقتصاده المتراجع الذي فقد في الشهرين الاولين فقط من هذه السنة 465 ألف وظيفة؟ بالطبع هناك رابحون مؤكدون في هذه الحرب، منهم مثلا شركة "بكتل" العملاقة التي فازت بعقد في العراق المحتل قيمته 680 مليون دولار كدفعة أولى، شركة أبرز ممثليها جورج شولتز وزير الخارجية الاسبق الذي هو نفسه رئيس للمجلس الاستشاري للجنة تحرير العراق، وهي جماعة وثيقة الصلة بالبيت الابيض ونشأت في العام الماضي للدعوة الى "تحرير العراق" وبعدها الى "اعادة إعمار العراق" بعد احتلاله. واعضاء المجلس الاستشاري لوزارة الدفاع - وكان ريتشارد بيرل رئيسه حتى اسابيع مضت - هم في معظمهم ممثلون لمجموعة من الشركات الاميركية التي فازت بعقود من وزارة الدفاع قيمتها أكثر من 76 بليون دولار خلال سنتي 2001 و2002 فقط. الرابحون اذن مؤكدون ويعبرون اساساً عن الارتباط الوثيق بين المجمعين الصناعي والعسكري الذي كان الرئيس الراحل دوايت ايزنهاور حذر منه في سنة 1961. وزاد عليهم الان شركات البترول الاميركية التي تتلمظ شوقاً الى بترول العراق ثم خصخصته كمقدمة لخصخصة كل البترول العربي اميركيا، حتى لا نقول: مصادرة البترول. واذا عدت الان مرة اخرى الى جيمس شليزنغر فلأنه هو نفسه تلخيص للمثلث الجديد من المؤسسات العسكرية والصناعية والبترولية، شليزنغر يهنئ نفسه اخيراً بأن الذين تبجحوا سابقا بمعارضة الحرب في العراق لم تتحقق تنبؤاتهم "الكارثية"، فلم يقع "انفجار" في الشرق الاوسط ولا قلاقل فورية واسعة تهدد الحكومات في المنطقة ولا كانت الحرب بلا نهاية ولا جرى استخدام اسلحة بيولوجية او كيماوية، بدلا من ذلك فإن ما جرى - في رأيه - هو: "إدراك مفاجئ لاستعراض مرعب للقوة الاميركية"، بدلا من معارضة الحرب أصبح العرب مشغولين بمسائل اخرى من نوع: كم سيطول بقاء الاميركيين في العراق، وهل سيقيمون في العراق نظاما ديموقراطيا يصبح معدياً للآخرين، وهل سيمارسون الضغوط على الدول المجاورة، ومَن تكون الدولة التالية.. الى آخره. اهتم الاميركيون كثيرا بإسقاط تماثيل صدام حسين والتمتع بحفل للحوم المشوية في قصوره، وبدا الإلحاح بتلك المشاهد على المواطن الاميركي وعلى العالم كله مقصودا بحد ذاته بهدف اختصار "المجزرة" التي جرت والاحتلال الذي بدأ في تماثيل صدام حسين وصوره. قليلون توقفوا عند المغزى الحقيقي لما جرى والثمن الفادح الذي دفعته اميركا سياسيا واخلاقيا في العالم كله والنتيجة المروعة التي دفعت اليها الادارة الحالية الشعب الاميركي كله. وعلى حد تعبير كاتبة اميركية متميزة فإن "كل ما نجحت فيه هذه الإدارة حتى الان هو أنها جعلتنا كأميركيين نخاف من العالم كله وجعلت العالم كله يخاف من أميركا". لكن المسألة اصبحت أبعد - حتى - من إشاعة الخوف بحلول بوليسية داخليا وحلول عسكرية خارجيا. إنها القوة العظمى المنفردة التي اصبحت في سلوكها الامبراطوري مستعدة لقلب النظام الدولي كله الذي عاش به العالم منذ سنة 1945 وكانت اميركا ذاتها في طليعة صائغيه. رئيس وزراء كندا مثلا، الذي عارض الحرب مبكرا، تساءل: اذا كان اسقاط نظام صدام حسين هو الهدف الحقيقي المقرر منذ البداية فعلى الرئيس جورج بوش أن يخطرنا الان بمن هم التاليون في قائمته لإسقاط النظم حول العالم. أما الرأي الآخر الملفت، من طوكيو في هذه المرة تلخيصا لمشاعر صديقة، فقد عبر عنه ما كتبه راميش ثاكور نائب رئيس جامعة الأممالمتحدة هناك حينما قال: "صدام حسين كان قاطع طريق ليس هناك من يذرف الدموع على سقوطه، لكن هذه منفعة تكميلية وسط المذبحة التي تعرضت لهامؤسسات وركائز النظام الدولي. من الصعب الشعور بالبهجة من السقوط من أعلى بعالم يقوم على حكم القانون الى عالم يسوده قانون الغابة، رغم أن أسد الغابة سيرحب بهذا التغيير. إن الانتصار في العراق يتحقق بثمن فادح هو اعادة الشرعية الى الحروب الاستباقية كأداة لسياسة الدولة، وهو ما كافحنا ضده طوال قرون. إنه سيؤدي الى جهود أكثر تصميما لحيازة أسلحة دمار شامل بواسطة دول، وربما منظمات ارهابية، طالما أنه لا يوجد شيء آخر قادر على ردع القوة الماحقة للولايات المتحدة. هل العالم مستعد لقبول عقيدة أساسها أن الولاياتالمتحدة تقرر من هو رئيس الدولة الذي ترى هي اسقاطه؟ هكذا يرى أن تكاليف الذهاب الاميركي الي الحرب في العراق تضمنت حدوث تشققات وتصدعات في ثلاث من المؤسسات الكبرى للسلام والنظام منذ سنة 1945: الأممالمتحدة ومنظمة حلف شمال الاطلنطي والاتحاد الاوروبي. كيف سيتم اصلاح الضرر وما الذي سيحل محلها؟ التساول مهم وجوهري ولن يغطي عليه احتلال اميركا للعراق ووضع ايديها على بتروله والتحرك من هناك لإسقاط منظمة الدول المصدرة للبترول. التساؤل مهم وجوهري ايضا لأن إسقاط النظم السياسية وثمن الحرب الاستباقية كانت دائماً اسلحة في أيدي الأقوياء ضد الضعفاء وليس العكس. وبعض الذين هنأوا انفسهم - حتى على المستوى الاقليمي - لا يدركون انهم سيصبحون ضحايا، بغير حرب، وبأسرع مما يعتقدون. لقد استنتج البعض مما جرى الدرس الخطأ وفي المقدمة.. أنه طالما عجز العالم كله عن منع الحرب فالانبطاح امام اميركا هو الحل. لكن هذا يفترض في اميركا وضعا آخر غير ما هي عليه فعلاً. فباستثناء القوة العسكرية فإن كل شيء آخر في الحالة الاميركية يحتاج الى العالم بأكثر من العكس، اميركا نفسها لم تكن ستولد كدولة لو أنها استسلمت لقانون الغابة الذي حاولت أن تفرضه عليها الامبراطورية البريطانية في عز قوتها، واميركا القوة العظمى لم تكن ستنتصر في الحرب الباردة لو لم يكن لها حلفاء أقوياء واثرياء. والاقتصاد الاميركي ذاته مستمر الان في تحمل عجزه المتزايد لسببين محددين: رضاء العالم بالتعامل مع الدولارالاميركي كعملة احتياط. وحصول اميركا على اربعمئة بليون دولار سنويا كاستثمارات تتدفق اليها من اوروبا الغربية واليابان وآخرين. في الحالتين لم تعد لأميركا الكلمة الاخيرة ولا حتى بصواريخ كروز وقاموس وزيرالدفاع الاميركي الساعي الى استخدام أوروبا الاميركية الجديدة ضد اوروبا الاوروبية القديمة. لم تكن القضية إذن هي قوة اميركا عسكرياً وقدرتها على غزو العراق واحتلاله. القضية كانت من البداية هي: ماذا بعد ذلك؟ وبأي ثمن؟ لقد شعر صقور الادارة الاميركية الحالية بالبهجة حينما أشاعوا في المنطقة جواً من الترويع. لكن الترويع شمل العالم كله. وقديما سألوا والدة نابليون بونابرت: ما شعورك وقد أصبح ابنك امبراطورا؟ يومها ردت الأم بعيدة النظر: إنني سأفرح له طبعاً، اذا كان لديه ضمان باستمراره كامبراطور. * كاتب مصري.