لا أتذكر بدقة أيهما - فرنساوالولاياتالمتحدة - الأطول باعاً في لكز الآخر بكلمات خشنة كلما جاءت المناسبة. أتذكر فقط أنه في أعقاب الغزوة الإسرائيلية الكبرى للأرض العربية في حزيران يونيو 1967 كان شارل ديغول - رئيس فرنسا حينئذ - هو الذي قال إن التسوية وإعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط يتطلب مشاورات جادة بين الدول الأربع الكبرى، وحينما نقل هذا الرأي إلى ليندون جونسون، الرئيس الأميركي وقتها وشريك إسرائيل في غزوتها، كان تعليقه الساخر هو: أعرف فقط أن في هذا العالم دولتين اثنتين كبريين هما الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وبعدهما لا توجد أي دولة كبرى... أخرى. مع ذلك لم تمضِ سوى أسابيع قليلة على تولي رئيس جديد السلطة في الولاياتالمتحدة هو ريتشارد نيكسون، حتى أخذ بالضبط برأي ديغول فبدأ ما سُميّ وقتها بپ"المشاورات الرباعية" على مستوى سفراء الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وفرنساوبريطانيا لدى الأممالمتحدة. نيكسون أخذ أيضاً بمشورة ديغول في البحث عن تسوية تفاوضية مع فيتنام الشمالية تختصر الهزيمة الاميركية هناك. وأخذ ثالثاً بفكرة ديغول من التعامل مع الصين، بدلاً من العبث الاميركي القائم على أن الجزيرة الصغيرة فورموزا تايوان فيما بعد هي الصين. بينما ظلت الصين الفعلية في السياسة الاميركية حتى ذلك الوقت مجرد وهم كبير لا وجود له ولا اعتراف به لأن مصيرها إلى زوال. والآن في سنة 2002 فإن الصين ليست موجودة فقط، بل تسمح لها أميركا بتحقيق فائض سنوي في تجارتها معها يتجاوز الأربعين بليون دولار، والمدافع الأول عن هذه العلاقة هو الشركات الاميركية الكبرى التي رأت مبكراً أن السوق الصيني من الضخامة بما لا يسمح بالابتعاد عنها، أو مقاطعتها. أما فرنسا فلا تزال هي الحليف المستمر لأميركا وإن يكن - بين وقت وآخر - حليفاً طويل اللسان. من بين طول اللسان - وهذا توصيف أميركي لا أكثر - تلك التعليقات التي أدلى بها أخيرآً هوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا الذي اعتبر أن الولاياتالمتحدة أصبحت الآن تعمل على تبسيط كل مشاكل العالم في الحرب ضد الإرهاب متجاهلة جذور الإرهاب. كما أنه يرى "ميل الاميركيين إلى معالجة شؤون العالم بطريقة أحادية من دون التشاور مع الآخرين انطلاقاً من تفسيرهم ومصالحهم وبطريقة تعود بالفائدة عليهم" وأن على أوروبا أن "تتخذ قراراتها" في وجه النفوذ الاميركي لأنه: "إذا لم نكن في بعض الحالات متفقين مع السياسة الاميركية فعلينا أن نقول ذلك". بالطبع لم تسكت أميركا فتولى كولن باول وزير خارجيتها الرد ثم صادق الرئيس جورج بوش على رده مكرراً قوله إن الوزير الفرنسي يعاني من "تشوش في الرؤية" مضيفاً بابتسام: "وجدت أن وزير الخارجية - كولن باول - قدم جواباً ملائماً للوزير الفرنسي وتستطيعون أن تسألوه بعد ذلك، ما الذي يقصده بالتشوش في الرؤية". المشكلة الاميركية هذه المرة تتجاوز فيدرين وفرنسا واتهامهما أميركياً بالتشوش في الرؤية. فعلى رغم الحرص تاريخياًََ على إبقاء الخلافات بين جانبي المحيط الاطلنطي داخل الغرف المغلقة، إلا أن الحالة الاميركية الجديدة القائمة والمعلنة أخيراً تجاوزت كل الحدود لكي تستأسد على العالم كله، وفي المقدمة حلفاؤها. لدى أميركا مصاب أليم في 11 أيلول سبتمبر الماضي. لم يتردد العالم كله، حلفاء وغير حلفاء، في المشاركة والتعاطف مع اميركا، حتى يسترد المواطن الاميركي حقه الطبيعي في الشعور بالأمن داخل بيته ومدينته. كثيرون في المجتمع الدولي ألغوا حتى عقولهم وقبلوا بالتشخيص السياسي الأميركي للفاعل والمخطط والمنفذ لما جرى سعياً إلى لحظة تعقّل ومراجعة. لم يجيء التعقل ولم تحدث المراجعة، وبدلاً منهما اعتبرت الادارة الاميركية الحالية أن الفرصة سانحة للخروج إلى العالم بجدول أعمال مطاط ومريب باتساع العالم كله. في البداية رفع الرئيس جورج بوش شعار: من الآن فصاعداً.. مَن ليس مع اميركا فهو ضدها ومع الإرهاب. لكن - بخلاف إرهاب 11 أيلول سبتمبر - ما هو تعريف الإرهاب في هذا القاموس الاميركي الجديد؟ لا إجابة ولا رغبة - حتى في الإجابة. أميركا ستخطر العالم كلما ناسبها ذلك بما هو الإرهاب وأين يوجد الإرهابيون. وعلى العالم أن يتوقف عن طلب الأدلة في كل حالة. أميركا تقرر وعلى الآخرين الطاعة. أميركا من الآن فصاعداً هي المدعي ورجل الشرطة والقاضي. وهي سيف العدالة ومقصلتها. في خطاب جورج بوش الأخير عن "حال الاتحاد" كان واضحاًَ ومحدداً في أمرين. أولاً: أميركا تعلن لتوها أنها تخوض حرباً شاملة باتساع العالم ضد أعداء الحرية. ثانياً: هناك ثلاث دول كبداية هي "محور الشر" في هذا العالم ويجب البدء في مواجهته والتعبئة ضده. في الأمر الأول، وإذا أخذنا بالكتاب السنوي للكونغرس الاميركي عن حالة الحرية في العالم، فإن 47 دولة تمثل 2200 مليون نسمة مصنفة على أنها دول غير حرة. بعضها أصبح في هذا التصنيف لأنه رفض الإذعان لنصائح صندوق النقد الدولي، أو لأنه يرى أن الرز الذي يزرعه بتكاليف أعلى يظل أفضل من استيراد الرز الاميركي، أو لأنه يسمح بتشغيل الصبية في أعمال يدوية بدلاً من تركهم ضائعين في سوق المخدرات، أو لأنه يرفض الاعتراف قانونياً بالعلاقات المثلية بين الجنس الواحد، أو حتى لمجرد أنه يعتبر مشاة البحرية ممثلين لوزارة الدفاع الاميركية وليسوا ممثلين للعناية الإلهية. في الأمر الثاني فإن الدول الثلاث المقصودة أميركياً - وهي العراقوإيرانوكوريا الشمالية - كلها من دول العالم الثالث بسكان مئة مليون وكسور ومتاعب اقتصادية فادحة. فلنترك العراق جانباً لأن حكايته مع اميركا لها جذور وحواشي وتاريخ يختلط فيه البترول مع العمالة مع الاستغناء عن العمالة مع حصار صارم منذ سنة 1990 لا يدفع ثمنه سوى شعب العراق الذي لم يكن له رأي. لا في صدام حسين ولا في من يخلفه، وكلاهما تعرف عنه وكالة الاستخبارات الاميركية أكثر من شعب العراق ذاته. سابقاً ولاحقاً. عن كوريا الشمالية اعتبرها جورج بوش ضلعاً في مثلث الشر لأنها: "نظام يتسلح بالصواريخ واسلحة الدمار الشامل بينما يقوم بتجويع مواطنيه". أما عن إيران فهي ضلع آخر في مثلث الشر لأنها "تحكمها أقلية تقوم بقمع أمل الشعب الايراني في الحرية". من اللافت هنا أن أميركا، من مسافة عشرة آلاف كيلومتر، تعتبر كوريا الشمالية خطراً يهدد البشرية بأسلحة الدمار الشامل، بينما جيرانها المباشرون كاليابان والصين، بل وكوريا الجنوبية أيضاً، لا يعتبرونها كذلك. عراق صدام حسين أيضاً... وإيران التي كانت من أكبر ضحاياه... لا تخشى من قدرته التسليحية الحالية. بل إن تركيا، وهي عضو في حلف شمال الاطلسي بقيادة الولاياتالمتحدة، ترفض أي توجه أميركي لضرب العراق عسكرياً. إذن... تبقى إيران؟ التشخيص الاميركي الحالي هو أن شعب إيران يريد الحرية من أقلية تحكمه قمعاً وتسلطاً. مشكلة اميركا الحقيقية منذ سقوط شاه ايران عميلها الثابت، هي البحث عن ميخائيل غورباتشوف آخر في إيران. وطالما ان الرئيس محمد خاتمي لم يستوف مواصفات غورباتشوف، ستظل أميركا بالغة الشوق والحنين إلى استعادة شاه ايران أو من يشبهه. في القصة أيضاً: بترول. في حسابات البترول يبدأ الكلام المهم. وفي كل ما جرى من سخونة خلال السنوات العشر الأخيرة هناك دائماً: بترول. من تيمور الشرقية إلى نيجيريا إلى جنوب السودان إلى اليمن إلى العراقوإيران إلى ليبيا والكويت إلى الشيشان وأفغانستان... المسألة أساساً: بترول. في المسألة أيضاً جانب آخر: المجمع العسكري الصناعي داخل الولاياتالمتحدة ذاتها. هذا التحالف الداخلي الاميركي هو بالضبط ما حذر منه الرئيس الاميركي السابق دوايت ايزنهاور في خطابه الرئاسي الأخير منبهاً - وهو نفسه جنرال سابق، تاريخه العسكري معروف وإخلاصه لمصالح الشعب الاميركي مؤكد - بأن على أي إدارة اميركية لاحقة أن تحصن نفسها ضد نفوذ هذا التحالف الداخلي. هذا يعيدنا أيضاً إلى التلاسن الأخير بين الولاياتالمتحدةوفرنسا. لم تكن المشكلة في هذه المرة من فرنسا بمفردها. فمن ألمانيا إلى إيطاليا إلى بريطانيا إلى كندا، وكلها مناطق نفوذ تقليدية لأميركا، انطلقت الأصوات معترضة على هذه السياسة الاميركية الجديدة بافتراس العالم كله سعياً لتحقيق مصالح اميركية محددة، دول الاتحاد الأوروبي مثلاً اكتشفت بأن أميركا تطلب منها الشيء ونقيضه. تطلب السمع والطاعة وزيادة إنفاقها العسكري. وفي الوقت نفسه تمنع تلك الدول تحديداً من تطوير قدراتها العسكرية الذاتية. مثلاً... مثلاً... لماذا تفكر أوروبا في صناعة نموذجها الخاص من طائرة النقل العسكرية الضخمة وتحجز ألمانيا لنفسها أول 73 طائرة من ذلك النموذج بتكلفة ثمانية بلايين دولار، بينما الواجب - اميركياً - هو التراجع عن المشروع واستبداله بالشراء من اميركا... على الجاهز؟ في الوضع الحالي قد يريح الإدارة الاميركية الراهنة أن تختصر مشكلتها في فرنسا أو حتى في أوروبا بالضبط كما اختصرتها سابقاً في قضية بن لادن وغض العالم النظر عن طيب خاطر. لكن مشكلة أميركا هي ببساطة: انها بقوة النموذج أكثر نجاحاً مع شعبها ومع العالم من نموذج القوة. أميركا مهمة للعالم ويحتاج إليها العالم. في المقابل يجب على أميركا إثبات أن العالم أيضاً مهم لها... ومن غير باب الفتوَنة والبلطجة. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.