رغم أن كوريا الشمالية قفزت إلى بؤرة الأحداث اخيراً في أزمتها الجديدة مع الولاياتالمتحدة، إلا أن جريدة أميركية مهمة اختارت عنوانها الرئيسي في الصفحة الأولى على النحو التالي: "قلق بوش في كوريا: انه الجنوب وليس الشمال". أما السطر التالي في العنوان فهو عن وصول الاستياء المتراكم ضد أميركا في كوريا الجنوبية الي "درجة الغليان" بتعبير الجريدة الأميركية. الأزمة الأميركية في كوريا هي مع الشمال، لكن الأميركي الذكي عينه على ما يجري في الجنوب. فأميركا على الأقل، ذهبت بقواتها لتحارب في سنة 1950 منعاً لغزو شيوعي من الشمال. ذهبت وقتها تحت علم الأممالمتحدة. مع الوقت خلعت الأممالمتحدة نفسها وبقيت أميركا. فالحرب انتهت في سنة 1953 بأمر واقع مستمر حتى اليوم. في كوريا الشمالية نظام شيوعي حاكم وفي كوريا الجنوبية نظام رأسمالي موال استمر، في البداية على الأقل، بحماية ثماني قواعد عسكرية أميركية و27 ألف جندي. تلك كانت سنوات الحرب الباردة. لكن الحرب الباردة انتهت والاعتراف الديبلوماسي من دول "المعسكر الشرقي" السابق توالى على كوريا الجنوبية. لكن أميركا استمرت حتى الآن غير معترفة ديبلوماسياً بكوريا الشمالية، كما استمرت محتفظة بقواتها في كوريا الجنوبية. في أزمة كالجارية أخيراً بين الولاياتالمتحدةوكوريا الشمالية توقع أصحاب الرؤوس الساخنة في واشنطن أن تكون المشاعر الشعبية في كوريا الجنوبية معهم، امتناناً وعرفاناً بالحماية المستمرة لهم ضد النيات العدوانية من الشمال. المشكلة هي أن العكس هو ما يجري. وفي الصيف الماضي سقطت صبيتان كوريتان في الجنوب قتيلتين تحت عجلات سيارة مدرعة أميركية فخرجت التظاهرات الغاضبة. ثم اصبحت التظاهرات اكثر غضباً مع قيام الجيش الأميركي المرابط بتبرئة العسكريين الأميركيين مرتكبي الحادث. إذ لا تخضع القوات الأميركية للقانون الكوري المحلي كما هو العادة مع كل قوات أميركية حول العالم. ومع انتخابات الرئاسة الوشيكة في كوريا الجنوبية اختار الناخبون المرشح الاكثر انتقاداً للوجود العسكري الأميركي. وجاء نجاحه مفاجأة غير سارة للأميركيين ودليلاً جديداً على أن مشاعر الغضب من الأميركيين ورفض وجودهم وصلت الى "درجة الغليان" على حد صياغة الجريدة الأميركية اخيراً بعنوانها الرئيسي في الصفحة الأولى. قبلها تابعنا أيضاً ما جرى في الانتخابات الألمانية، فأمام شبح السقوط في الانتخابات اختار غيرهارد شرودر وحزبه تصعيد الخطاب السياسي الرافض للتوجهات الأميركي خصوصاً بشأن غزو العراق. بهذا فقط تحول حظ شرودر الانتخابي في اللحظة الاخيرة وعاد الى السلطة بالتصويت الشعبي مع حزب الخضر المعروف أصلاً بمواقفه المستقلة غالبا عن السياسة الأميركية. في حينها توترت العلاقات الأميركية مع المانيا وبلغ غضب الرئيس جورج بوش من شرودر الى درجة أنه رفض توجيه التهنئة الشكلية اليه على نجاحه الانتخابي، وهي بحد ذاتها تهنئة بروتوكولية لا تقدم ولا تؤخر لكن الدول الصديقة اعتادت تبادلها في مثل تلك المناسبات. مرة أخرى: قد يرى أصحاب الرؤوس الساخنة في واشنطن - خصوصاً الرسمية الحالية - أن هذا العداء المتصاعد شعبياً ضد أميركا في المانيا هو منتهى الجحود. فبغير أن نعود الى الحرب العالمية الثانية وملابساتها لم تكن وحدة المانيا ممكنة اصلاً إلا بدعم أميركي. والآن تتجه الأجيال الجديدة في المانيا الى الضغط على أحزابهم السياسية لاتخاذ مواقف اكثر استقلالية عن السياسة الأميركية بدءًا من منع الولاياتالمتحدة من استخدام قواعدها العسكرية في المانيا في غير ما اقيمت له أصلاً: الدفاع عن المانيا ضد خطر شيوعي من الشرق الذي كان. هناك أمر يعنينا هنا بين قوسين موقتاً، فمع تسليم الساسة الأميركيين بتصاعد العداء الشعبي ضدهم في كوريا الجنوبية وفي المانيا - وهما حليفان رسميان لأميركا في آسيا وأوروبا - إلا أن أحدا منهم لم يشهر فورا سيفه الاتهامي متسائلا: لماذا يكرهوننا؟ هذا السؤال الاتهامي محجوز فقط للاستخدام ضد العرب والمسلمين. وبرفض مطلق لمناقشة الظروف والملابسات والأسباب. في الحالة الالمانية يعرف الشاب الالماني ان أميركا ساندت وحدة المانيا. لكنه يعرف أيضاً أن ألمانيا هي بذاتها التي تحملت الثمن. ليس فقط ثمن رشوة ميخائيل غورباتشوف وموسكو ببلايين الماركات، ولكن أيضاً بثمانية بلايين دولار سددتها المانيا لأميركا وقتها مساهمة محكوم عليها بها أميركيا في حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي. في الحالة الكورية يعرف الجيل الحالي من الشباب في الجنوب أن الوجود العسكري الأميركي الدائم في بلاده بدأ تحت عنوان الحماية من غزو شيوعي متجددة من الشمال في ذروة الحرب الباردة. لكن الحرب الباردة انتهت، وحلفاء كوريا الشمالية أنفسهم توقفوا عن مقاطعة كوريا الجنوبية واعترفوا بها كدولة، بدءًا بروسيا في طبعتها الجديدة. وحينما فرح العالم بتوحيد المانيا لم يكن الساسة في كوريا الجنوبية استثناء من ذلك، لأنهم تصوروا الطريق أصبح مفتوحا لإعادة توحيد شمال وجنوب كوريا في دولة واحدة بالأسلوب الالماني، وقتها كان الرئيس جورج بوش الأب يقوم برحلته الاخيرة في منطقة الباسيفيكي فأزعجه كثيرا على مائدة عشاء رسمية حماس رئيس كوريا الجنوبية للوحدة مع الشمال. يومها قال له الرئيس بحزم: ما جرى في أوروبا لا يمتد إليكم هنا. فالحرب الباردة انتهت في أوروبا. لكن الوقت مبكر جداً قبل التفكير في انهائها عندكم هنا. مع ذلك للرأي العام وسائله المتنكرة في الضغط على السياسيين حتي في كوريا الجنوبية التي دعمت أميركا فيها نظام حكم قمعي ومتسلط حتى عشر سنوات سابقة. وهكذا بدأ الحوار حثيثا بين الجنوب والشمال ونشأت الدعوة المتزايدة الى ممارسة سياسة "الشمس المشرقة" سعياً الى علاقات طبيعية مع الشمال كخطوة أولى، ولو ببطء. لكن الولاياتالمتحدة في أزمتها الكبيرة السابقة مع كوريا الشمالية سنة 1994 اعترضا على مضي كوريا الشمالية في برنامجها النووي رفضت أي تشاور مسبق مع كوريا الجنوبية. لقد جرت تسوية الأزمة وقتها بوصول جيمي كارتر الرئيس الأميركي الاسبق الى كوريا الشمالية مبعوثا من الادارة الأميركية وقتها. وتم التوصل الى اتفاق محدد تقوم فيه كوريا الشمالية بتجميد برنامجها النووي مقابل مدها ببترول وبمفاعلين نووين لتوليد الكهرباء. بذلك الاتفاق - الذي لم تكن كوريا الجنوبية طرفا فيه - أصبحت كوريا الجنوبية ملتزمة بتحمل سبعمئة مليون دولار ضمن تكاليف الصفقة الأميركية مع كوريا الشمالية. مع الأشهر الأخيرة برئاسة بيل كلينتون كانت وزيرة خارجيته مادلين اولبرايت تزور كوريا الشمالية تجهيزاً لزيارة مرتقبة من الرئيس كلينتون، دلالة على انفراج العلاقات وربما مقدمة لاعتراف ديبلوماسي أميركي كامل بكوريا الشمالية. فجأة جرى العدول عن ذلك بطلب من جورج بوش الابن المرشح الناجح لتوه في انتخابات الرئاسة، وبمجرد وجود جورج بوش في مقعد الرئيس قطع المفاوضات نهائيا مع كوريا الشمالية وتعطيل تنفيذ اتفاق سنة 1994. وفي خطابه الرئاسي عن "حالة الاتحاد" في كانون الثاني يناير الماضي فاجأ الرئيس جورج بوش العالم كله بالإعلان عن "محور شر" ستواجهه أميركا ويتشكل من العراق وايران وكوريا الشمالية كدفعة اولى. وفي ايلول سبتمبر الماضي اعلنت الولاياتالمتحدة رسميا عقيدتها الجديدة للأمن الدولي القائمة - ضمن أشياء أخرى - على حق منفرد تعطيه أميركا لنفسها بتوجيه ضربات عسكرية ماحقة الى الدول التي تعتبرها مارقة او معادية أو راعية للإرهاب، بالتعريف الهلامي الذي تقرره أميركا نفسها. وبغير انتظار وجود أدلة أو مجرد قرائن تشبه الأدلة. وبعد فراغ أميركا من حملتها العسكرية في افغانستان أصبح العراق هدفها التالي مباشرة، مع انه دولة تحت الحصار الصارم منذ سنة 1991 ومنزوع منها السيطرة على ثلثها الشمالي وثلثها الجنوبي وموضوعة مواردها المالية تحت الوصاية الأميركية عبر لجنة العقوبات في مجلس الأمن وكل مداخلها ومخارجها تحت السيطرة براً وبحراً وجواً ولم تكن في أي وقت منتج للسلاح. إذاً البرنامج الأميركي بدا ماضياً في أرض الواقع تحت عناوين مختلفة. مواجهة الارهاب احيانا، أو التصدي للشر أحياناً، أو نزع أسلحة الدمار الشامل حتى ولو ثبت في أرض الواقع عدم وجودها أصلاً. في التطبيق اختلف التعامل الأميركي مع حالتي العراقوكوريا الشمالية، في حالة كوريا الشمالية هناك فعلا دولة منتجة للسلاح وبرنامج صاروخي معروف وبرنامج نووي مجمد قابل للاحياء فورا، وهو ما أعلنته كوريا الشمالية فعلا بعد أن تأكد لديها أن الدور عليها أميركياً بمجرد الفراغ من العراق. لكن الرد الأميركي هنا كان وقف امدادات البترول حسب اتفاق 1994 والاستنجاد بالدول المجاورة من أجل تسوية ديبلوماسية. أما في حالة العراق فالمعطيات عكسية على طول الخط، تجاهل أميركي كامل لمصالح ومواقف الدول المجاورة، وضغوط أميركية عليها على مدار الساعة. بالاغراءات احيانا وبالعصا الغليظة والتهديدات دائما، ثم حشد عسكري متزايد وتهديد صريح بالغزو العسكري وشيكاً. الغزو العسكري للعراق بسبب ضعفه، والديبلوماسية والحوار مع كوريا الشمالية بسبب قوتها. أما السبب الآخر فهو البترول. في البداية كان الساسة الأميركيون يتأففون من أي اتهام لهم بأنهم يريدون وضع ايديهم على بترول العراق. وأخيراً بدأ بعضهم يقول: نعم هو البترول... وأسباب أخرى. في الخلاصة... غزو العراق يحركه البترول. والمواجهة مع كوريا الشمالية هي "لأسباب أخرى". * كاتب وصحافي مصري.