لماذا يصر المرجع الشيعي الأعلى أية الله علي السيستاني على ضرورة الانتقال الى مرحلة الحكومة الوطنية العراقية وإنهاء الاحتلال الاميركي وحصول العراقيين على سيادة بلدهم عبر بوابة انتخابات مبكرة؟ لماذا يصر وهو يدرك أن القسم الأعظم من العراقيين، إضافة الى المحتلين الأميركيين، يؤيدون بشكل عام فكرة إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن ويعرفون أن الانتخابات هي المِعلم الأبرز للعراق الجديد، لكنهم يتحفظون عن إجرائها في الظرف الراهن لأسباب فنية وأمنية وقانونية؟ ثم لماذا يصر وهو يعلم تمام العلم بأن المسوّغات الأساسية لدعوته تتعلق بالوضع الداخلي الشيعي وليس بالوضع العراقي العام؟ ليس من السهل الإجابة عن الاسئلة التي تثيرها دعوة المرجع الأعلى. فالحركة السياسية الشيعية في العراق لم تُعرف لا في الماضي ولا في الحاضر، بوضوح برامجها وخطابها أو مطالبها السياسية. والمؤكد ان السبب الرئيسي في الغموض ظل دائماً حالة القمع والعزلة التي فُرضت على هذه الشريحة الأساسية من شرائح المجتمع العراقي في ظل الحكومات والانظمة السابقة. فالقمع والعزلة أنتجا التقيّة في الدين، لكنهما أنتجا أيضاً "لطائف الحيل" في السياسة. كما أنتجا خطاباً عاماً متخماً بروح ثورية غامضة يحسب للوقائع على الأرض حساباً دقيقاً. وهنا، يشار الى محاولة المجلس الأعلى للثورة الاسلامية إخفاء مطالباته الأساسية تحت عمامة السيد السيستاني رغم ان المجلس، ومعه حزب الدعوة والجماعات الشيعية الأخرى، أكد طوال السنوات الماضية تخليه عن مبدأ ولاية الفقيه ونبذه فكرة تغليف السياسة بأوراق الفتاوى والتعليمات الدينية. لكن بعيداً عن هذا كلّه، يمكن للمراقب السياسي أن يلحظ بعضاً مما يمكن وصفه بالأسباب الخفية الكامنة وراء الإصرار الشيعي على التمهيد للمرحلة الانتقالية بانتخابات عامة: بادىء ذي بدء يعتقد الشيعة أن العراق في وضعه الراهن يعاني ضعفاً ملحوظاً، ما يسمح باستثماره في فرض الحقيقة المتمثلة ب"الأغلبية الشيعية" على بقية الأطراف، ومن ثم ضمان الحصة السياسية الأكبر في حكم العراق تاسيساً على ذلك. وما يغري على المضي في الدعوة الإنتخابية أن السكان الشيعة في المدن والمناطق الجنوبية مستعدون، على الأقل نفسياً، لخوض الانتخابات التي انتظروها طويلاً بغية تحقيق أحقّيتهم في الحكم. واللافت ان هذا الاستعداد يترافق في الظرف الراهن مع انشغال بقية الأطراف، خصوصاً في الوسط والشمال، بهموم غير انتخابية: الأكراد في الشمال بالموضوع الفيدرالي وضم كركوك، والسنّة في الوسط والغرب بالهجمات المسلحة والتظاهرات الإحتجاجية ضد الإحتلال الأميركي. وكإغراء إضافي، يعتقد الزعماء الشيعة، ربما بدفع إيراني، أن الأميركيين غير جادين في إعادة التوازن الى الموازين الطائفية المختلة. بل أن ما يجري في الخفاء، بحسب بعض الأوساط الشيعية، قد يتمخض في مستقبل غير بعيد عن تهميش دور الشيعة ومنعهم من لعب دور أساسي في شؤون الحكم في بغداد. وفي هذا الإطار، تعتقد هذه الأوساط أن الأميركيين مرروا اتفاق 15 تشرين الثاني نوفمبر الماضي مع مجلس الحكم لا بهدف الخروج من العراق، بل بهدف إضاعة الفرصة المثالية أمام الشيعة للفوز بقيادة العراق. في المنحى ذاته، تعتقد تلك الأوساط أن الأميركيين منخرطون في مفاوضات سرية مع الطرف السني في الغرب، بما فيه بعض بقايا النظام الحاكم، وأن هذه المفاوضات التي أسفرت حتى الآن عن استسلام عدد كبير من قادة الصفين الثاني والثالث من البعثيين، قد تنتهي الى اتفاق سري يقضي بحصول مذهبيات أخرى على حصص أكبر من حجمها في العراق المستقبلي. ولا تستبعد أوساط شيعية محددة ان تكون لصفة أسير حرب التي أطلقها الأميركيون على الرئيس العراقي المعتقل صدام حسين علاقة بهذا الموضوع. لكل هذا، يعتقد السيستاني ومن ورائه المجلس الأعلى وحزب الدعوة أن الخيار الأفضل للخروج من احتمالات التهميش المستقبلي هو اللجوء الى الانتخابات. ويرجح البعض أن الشيعة العراقيين يرون ان الواجب أصبح يفرض عليهم خلق متاعب غير عنفية أمام الادارة المدنية الأميركية في العراق، بغية التلويح لها بإمكان انتقال المناطق الشيعية الى مرحلة المقاومة غير السلمية في حال تجاهل دورهم، أو الذهاب بعيداً في الاتفاق مع السنة. ولا يستبعد هؤلاء وجود علاقة قوية بين التظاهرات المتكررة المنتظمة التي شهدتها المدن الجنوبية في بحر الأسابيع القليلة الماضية وبين السياق العام لمثل تلك التهديدات الخفية. لكن هل هذا كل شيء؟ الأرجح لا. فمعرفة الدوافع الحقيقية للتحرك السياسي الشيعي، كما الحال مع أي تحرك سياسي كردي، تتطلب تمحيصاً دقيقاً للوضع الداخلي الشيعي. فحدة الصراعات الخفية ضمنه، خصوصاً بين المؤسسة الدينية والعلمانيين، وبين أكبر منظمتين سياسيتين للشيعة: المجلس الأعلى وحزب الدعوة، ثم بين السيستاني والمجلس والدعوة من جهة، وحركة الحوزة الناطقة التي يقودها الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر من جهة ثانية، تلعب على الدوام دوراً غير ضئيل في صياغة المواقف الكبرى. ويعتقد زعماء المجلس الأعلى ان الإحتماء بجبّة السيستاني يقوّي المجلس مقابل حزب الدعوة الذي تغلب عليه الأيديولوجية القومية الدينية. أو مقابل العلمانيين الشيعة كأحمد الجلبي وأياد علاوي اللذين لا يتمتعان بنفوذ داخلي عراقي كبير، لكنهما يحظيان برعاية أميركية خاصة. لهذا فاللجوء الى انتخابات عاجلة بمباركة سيستانية، تضمن للمجلس الكلمة الفصل في القول الشيعي. فالعلمانيون يضطرون الى التمسك به بغية الفوز في الانتخابات. فيما يضطر حزب الدعوة وحركة الصدر للدخول في ائتلاف يقوده المجلس والسيستاني. وقد أدركت واشنطن، منذ أول دعوة سيستانية الى الإنتخابات في تشرين الثاني الماضي، أن المسالة قد تشهد تعقيدات هي في غنى عنها. لذلك أقنعت الأمين العام للأمم المتحدة بالإتصال بالسيستاني وابلاغه بعدم ملاءمة الوضع الحالي للإنتخابات. كما أن عدداً من العلمانيين الشيعة في مجلس الحكم، في مقدمهم موفق الربيعي، حاول جهده لإقناع المرجعية السيستانية بصعوبة اجراء الانتخابات في الأحوال الراهنة. وإلى ذلك ألمحت أوساط أخرى للمرجع الديني بأن الاصرار على هذه النقطة قد تؤدي بالأميركيين الى إدخال تعديلات طفيفة على نص الإتفاق المبرم مع مجلس الحكم للفترة الانتقالية. لكنه قد يفضي أيضاً الى التفات أميركي جدي للتصالح مع الحركة السياسية السنية والتجاوب مع الدعوات الفيدرالية القومية للأكراد. لقد تصور البعض في الأسابيع الماضية أن السياسة غلبت المنطق الديني في مرجعية النجف. لكن على حين غرة جاءت دعوة السيستاني الجديدة لتضرب بكل تلك التصورات والوساطات عرض الحائط. لماذا؟ لأن ما يدفع المجلس الأعلى وحزب الدعوة الى تشجيعه على التمسك بخياره الانتخابي، لا يتصل بالمضمون الديموقراطي لمبدأ الانتخابات أو إشراك العراقيين في تقرير مصير بلدهم، بل يتصل جوهرياً بحسابات ومعايير وانقسامات داخلية شيعية محضة.