المملكة رئيساً للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة «الأرابوساي»    "التجارة" تكشف مستودعًا يزور بلد المنشأ للبطانيات ويغش في أوزانها وتضبط 33 ألف قطعة مغشوشة    وفد عراقي في دمشق.. وعملية عسكرية في طرطوس لملاحقة فلول الأسد    مجلس التعاون الخليجي يدعو لاحترام سيادة سوريا واستقرار لبنان    الجمعية العمومية لاتحاد كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية لخليجي27    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استشهاد خمسة صحفيين في غارة إسرائيلية وسط قطاع غزة    السعودية وكأس العالم    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    المملكة ترحب بالعالم    رينارد: مواجهة اليمن صعبة وغريبة    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أميركا لن ترحل من المنطقة من دون "حل" المسألة الإيرانية
نشر في الحياة يوم 18 - 09 - 2003

كانت إيران ولا تزال تمثل عقدة للسياسة الخارجية الأميركية. بلد انتقل بين ليلة وضحاها من قصة نجاح لتلك السياسة إلى قصة فشل ذريع. النجاح بدأ بعد الحرب العالمية الثانية في أولى أزمات الحرب الباردة، حين أجبر الرئيس الأميركي هاري ترومان نظيره السوفياتي جوزيف ستالين عام 1946 على سحب قواته من أذربيجان وكردستان الإيرانيتين، وفي عام 1953 حين نجحت الاستخبارات الاميركية والبريطانية في إسقاط نظام محمد مصدق، ومن ثم أحرزت الولايات المتحدة نصراً مزدوجاً: منعت تغلغل النفوذ السوفياتي، وزاحمت بريطانيا في موقعها كقوة متفردة في منطقة الخليج. وتحول النجاح إلى نموذج حين اعتمدت سياسة ريتشارد نيكسون على شاه إيران في تنفيذ السياسة الاميركية في المنطقة، مع استعداد لتعميم هذه السياسة في مناطق أخرى كأميركا اللاتينية وجنوب آسيا.
وجاءت الثورة الإسلامية في إيران لتقلب كل شيء رأساً على عقب. فالقوة الجديدة التي ورثت العتاد الأميركي الذي أتخم به الشاه تحولت إلى كابوس يطارد رؤساء أميركا المتعاقبين: دمرت رئاسة جيمي كارتر للولايات المتحدة حين احتجزت رهائن أميركيين، ولوّثت رئاسة رونالد ريغان بفضيحة "إيران-غيت" وأفقدت جورج بوش الأب قدراً كبيراً من الصدقية حين تخلى بسببها عن شيعة العراق بعدما أوحى لهم بالتمرد.
ولا شك في أن عوامل عدة تضافرت لتكريس الخوف الأميركي من إيران الثورة. فالعام 1979 لم يكن بعيداً من الانسحاب الأميركي من فيتنام، وما أورثه ذلك من إحجام عن التدخل المباشر في صراع شبيه. وطبيعة الثورة التي جاءت برجال الدين على رأس النظام كانت غريبة على الفهم الأميركي الذي بدأ يشعر أن عدواً آخر، مخالفاً تماماً للعدو الموجود حينئذ، بدأ يدخل في المواجهة، في وقت بدأت مظاهر الضعف تتضح في الكتلة الشيوعية. "وكان هناك خوف حقيقي من الإسلام في واشنطن كقوة كانت غريبة تماماً عن التفكير الأميركي" بحسب ما يقول غراهام فوللر، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في الاستخبارات المركزية الأميركية في الثمانينات، مشيراً الى ان "مسؤولين كباراً في البنتاغون وغيره كانوا متخوفين من الإسلام أكثر من الشيوعية".
كان لا بد وقتها من التحرك سريعاً. من جهة لإيقاف التهديد الثوري لتلك المنطقة الحيوية والحيلولة دون تقدمه، ومن جهة أخرى لمعاقبة إيران على موضوع الرهائن. ولم يكن هناك بالنسبة الى الأميركيين أفضل من العراق للقيام بهذا الدور، وهو ما يعزوه فوللر الى أن القلق من إيران "كان تقريباً خوفاً وسواسياً، أدى إلى استنتاج بأننا يجب أن نستخدم أي عصا لتأديب ... ووقف تقدم الأصولية الإسلامية". والمقصود هنا، من دون شك، الأصولية الإسلامية في صورتها الإيرانية: دولة على رأسها رجال دين يجاهرون بأنهم في صدد تصدير الثورة الإسلامية، ويصفون الولايات المتحدة بأنها الشيطان الأكبر، وليست الأصولية الإسلامية على هيئتها الأفغانية حيث تتبنى مجموعة من "المجاهدين" الإسلام كإطار مقاومة ضد العدو السوفياتي الملحد. وكان الجهاد السنيّ حتى ذلك الوقت احد مكونات العصا الأميركية الموجهة أساساً إلى العدو الشيوعي، ولكن أيضاً إلى العدو الايراني الجديد ولو كمنطقة توازن عازلة.
التقت إذاً مصالح الأميركيين، مع رغبة العراق في الانتقام، مع المخاوف الاقليمية من ثورة راديكالية تطرق على أبواب المنطقة. وانقلبت التحالفات في المنطقة بسرعة البرق. فتحول العراق "التقدمي" إلى حامي البوابة الشرقية للدول "الرجعية". وتحولت إيران من يد أميركا الطولى في المنطقة إلى عدوها اللدود الذي يهون إلى جانبه عداء البعث التاريخي المعلن لها ولحليفتها إسرائيل.
والأرجح في تلك الفترة أن الولايات المتحدة علمت أن العراق على وشك غزو إيران مخابراتياً وليس في شكل مباشر. وأثار الصحافي كريستوفر هيتشنز موضوع الغزو العراقي لإيران مع ستانسفيلد تيرنر الذي كان رئيساً للاستخبارات المركزية الأميركية وقتها ومع غاري سيك الذي كان مسؤول منطقة الخليج في مجلس الأمن القومي الأميركي. وقال الأدميرال تيرنر إنه لا يملك أي دليل على أن العراقيين ناقشوا موضوع غزو إيران مع مسؤولين أميركيين. لكنه يستطيع أن يقول إن الاستخبارات المركزية الأميركية علمت مسبقاً بغزو وشيك وقدمت معلومات إلى الرئيس جيمي كارتر على هذا الأساس.
وأبلغ سيك الصحافي أن العلاقات الديبلوماسية كانت مقطوعة بين بغداد وواشنطن منذ حرب الأيام الستة، وأن أي اتصالات بين الاميركيين والعراقيين كانت تتم من خلال السعودية والكويت. وذكر أن من الأشخاص الذين تبنوا تلك السياسة مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر زبغينيو بريجينسكي. وبحسب تعبير سيك"بعد احتجاز الرهائن في طهران في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1979، كان ثمة اتجاه قوي، ولا سيما من بريجينسكي، بأن إيران يجب أن تعاقب من جميع الجهات. وأدلى بتصريحات علنية في هذا الشأن عبر فيها عن عدم ممانعته بأن يتحرك العراق ضد إيران".
لكن تقريراً لصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية في خريف 1980 أفاد بأن معلومات استخباراتية أميركية وأخرى مستقاة من صور الأقمار الاصطناعية توحي بأن القوات الإيرانية ستنهار سريعاً، قدمت إلى صدام من خلال طرف عربي ثالث.
من الأخطر؟
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تعتبران العراق الذي يجمع بين العداء الأيديولوجي لهما والقدرات الاقتصادية الكبيرة خطراً كبيراً على مصالحهما في المنطقة. وقبل سنوات من الحرب العراقية - الإيرانية، وبالتحديد في كانون الثاني يناير 1976 اكتمل تقرير لجنة برلمانية أميركية ترأسها أوتيس باي، كانت شكلت للنظر في النشاطات الاستخباراتية الأميركية، وتسرب جزء منه قبل أن يحجبه البيت الأبيض والاستخبارات المركزية الأميركية. ووجدت اللجنة أن هنري كيسنجر التقى عام 1972 شاه إيران الذي عرض عليه المساعدة في زعزعة استقرار النظام العراقي الذي ترأسه في ذلك الوقت أحمد حسن البكر، وكان العراق يؤوي حينئذ الزعيم الايراني آية الله الخميني.
عرض كيسنجر الفكرة على ريتشارد نيكسون فأعجبته وقرر من ثم التوجه نحو إيران لتكون القوة الصديقة في المنطقة. وأعطى نيكسون الضوء الأخضر لموازنة عملية استخباراتية يرسل بمقتضاها جون كومالي وزير خزانته السابق إلى طهران لوضع أسس الاتفاق. وأضافت اللجنة في تقريرها ان "الوثائق التي في حوزة اللجنة تظهر بوضوح أن الرئيس وكيسنجر ورئيس الدولة الأجنبية شاه إيران سعوا إلى ألا يسيطر عملاؤنا الأكراد على الوضع. وفضلوا بدلاً من ذلك أن يواصل المتمردون ببساطة شن عمليات في درجة تكفي لاستنزاف مقدرات الدولة المجاورة العراق لحليفنا".
وبعد بدء الحرب العراقية - الإيرانية اختلفت أميركا وإسرائيل حول أي من الطرفين المتحاربين يمثل الخطر الأكبر. ففيما رأت الأولى أن التهديد الأكبر إيراني أساساً، اختارت الثانية أن تعقد صفقات أسلحة سرية مع إيران باعتبار أن العراق هو مصدر التهديد الأساسي لها. واحتاجت الولايات المتحدة في تلك الآونة إلى فترة مراقبة التزمت فيها السياسة المعلنة بعدم بيع أسلحة إلى أي من طرفي الصراع. لكن الوضوع اختلف في آذار مارس 1982، إذ توافدت تقارير على الخارجية الأميركية من السفارة في عمان بأن الملك حسين يحض الولايات المتحدة على تسليح إيران. وفي لقاء جمع بين الرئيس المصري حسني مبارك في نيسان أبريل من العام نفسه مع نائب وزير الخارجية ووتر ستوسل وهوارد تيشر أحد أعضاء مجلس الأمن القومي تحت حكم رونالد ريغان، حض الرئيس المصري الأميركيين على تقديم العون للعراق. وبحسب تيشر "بعد الاجتماع، أمسك مبارك بيدي ولم يكن ليدعها. تحدث إليّ عن الوضع اليائس الذي يمر فيه صدام حسين، والضرورة الملحة بالنسبة الى أميركا لأن تجد طرقاً لمساعدته. وطلب مني أن أنقل هذه الرسالة إلى الرئيس ريغان".
في تلك الفترة كان العراق يتكبد خسائر كبيرة في الحرب إذ حاصر الإيرانيون البصرة. وحض ويليام إيغلتون الذي كان يشغل منصب مسؤول المصالح الأميركية في بغداد إدارة ريغان على تغيير سياستها تجاه العراق والسماح بنقل أسلحة إليه من خلال طرف ثالث. وكان أمام الإدارة الأميركية خياران: إما أن ترفع الحظر المفروض على العراق وهو ما لم يكن الكونغرس ليوافق عليه بسبب سجل العراق في حقوق الإنسان والارهاب، أو أن تصل تلك الأسلحة الى العراق من خلال طرف ثالث وهو ما يخالف قانون مراقبة تصدير الأسلحة الذي يمنع إيصال أسلحة أميركية من خلال طرف ثالث إلى دولة مفروض عليها حظر سلاح، والذي يلزم الدول التي تستورد أسلحة أميركية التعهد بذلك رسمياً وكتابياً. كما يحظر القانون على المواطنين الأميركيين، بما في ذلك المسؤولون، ترتيب اتفاقات سلاح مع طرف ثالث يكون الغرض منها أن تصل تلك الأسلحة إلى دولة خاضعة للحظر.
وفي تشرين الأول أكتوبر 1983، أرسل إيغلتون برقية إلى رؤسائه يقترح فيها "رفض الحظر في صورة انتقائية على قيام طرف ثالث بنقل معدات أميركية مرخصة إلى العراق ... ونستطيع أن نمضي قدماً ونفعل ذلك من خلال مصر". وقالت مصادر أميركية رفيعة المستوى إن إدارة ريغان تبنت بعد وقت وجيز السيناريو الذي وضعه إيغلتون.
ويبدو أن الادارة الأميركية اقتنعت آنذاك بأن عداءها لإيران أكبر بمراحل من عدائها للعراق، أو بالأحرى أن الخطر الإيراني على مصالحها أكبر بمراحل من الخطر الذي قد يمثله العراق. وبدأت بالفعل الخطوات التمهيدية لعقد صفقات مع العراق، فرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعدما أعلن صورياً عام 1982 طرد "أبو نضال". وقام دونالد رامسفيلد، كمبعوث خاص للرئيس ريغان إلى الشرق الأوسط، بأول زيارة لمسؤول أميركي رفيع إلى العراق في كانون الأول ديسمبر عام 1983، والتقى الرئيس صدام حسين ووزير الخارجية طارق عزيز.
جاءت الزيارة في وقت كان العراق يواجه ما عرف ب"الموجات البشرية" في حربه مع إيران. ورداً على ذلك التقدم الإيراني لجأ العراق إلى استخدام أسلحة كيماوية. وبالطبع عرف الأميركيون بهذا قبل زيارة رامسفيلد بشهرين على الأقل، وطالب مسؤولون في الخارجية بالتدخل لمنع العراق من الاستمرار في هذه السياسة، لكن أصواتهم أهملت في إطار السياسة المتبناة أميركياً بتأييد العراق.
وتظهر محاضر المحادثات أنها تناولت استكشاف إمكان مد أنبوب نفط من العراق إلى ميناء العقبة الأردني، وتحذير العراق من تصعيد الحرب في الخليج من خلال تنفيذ ضربات جوية ضد المصالح النفطية الإيرانية هناك. ولم تكن هناك إشارة الى موضوع استخدام العراق أسلحة كيماوية في محادثات رامسفيلد مع صدام حسين. لكنه في جلسة خاصة مع طارق عزيز أشار إلى أن هناك "أموراً معينة" تجعل من الصعب على الولايات المتحدة تقديم مزيد من العون للعراق، ومن هذه الأمور "الأسلحة الكيماوية واحتمال التصعيد في الخليج وحقوق الإنسان".
ولا شك في أن العراق شعر بأن الإدارة الأميركية ليست مصرة كثيراً على مطالبها تلك، ففي رد على أول هجوم لإيران بعد زيارة رامسفيلد، في شباط فبراير1984، لم يكتف العراق باستخدام كميات كبيرة من غاز الخردل، بل استخدم غاز الأعصاب أيضاً. وبعد فترة وجيزة من إعادة انتخاب ريغان لولاية ثانية في تشرين الثاني استؤنفت العلاقات الديبلوماسية بين البلدين.
حلبجة التي زارها كولن باول
وصارت السياسة المتبعة في أوساط الإدارة الأميركية هي "التوجه نحو العراق". واعتمدت تلك السياسة على أربعة محاور أساسية:
أولاً: التغاضي عن بيع أسلحة أميركية الى العراق من خلال طرف ثالث، ومن أمثل الصفقات التي عقدت في هذا الإطار واحدة توسط فيها تاجر أسلحة لبناني المولد مقيم في ميامي هو سركيس سوغاناليان، بقيمة 1.4 بليون دولار بين الحكومة الفرنسية والعراق.
ثانياً: التدخل لتسهيل حصول العراق على مساعدات مالية. ففي عام 1984 بدأ بنك التصدير والاستيراد الأميركي في تمديد ضمانات القروض العراقية القصيرة الأمد لشراء بضائع مصنعة أميركياً، مما كان يعني إلغاء حظر سابق. ولم تكن تحفظات البنك تتعلق فقط بعلاقة العراق بالارهاب، وإنما أيضاً بضمانات تقديم قرض للعراق في ضوء الدين الحربي الضخم الذي ناء تحته. ولم يوافق البنك على تقديم ضمانات قروض إلى العراق إلا بعدما وصفه مسؤول بأنه "ضغط سياسي مكثف" من قبل إدارة ريغان. وفي 1984-1985 قدم البنك للعراق 35 مليون دولار كضمانات قروض قصيرة الأجل، لكنه توقف عن الاستمرار في تلك السياسة بعدما عجز العراق عن السداد. وعلى رغم ذلك ضغطت إدارة ريغان على البنك مرة ثانية ليقدم عام 1987 مبلغ 135 مليون دولار ضمانات قصيرة الأجل لشراء بضائع أميركية.
ثالثاً: تبنت الولايات المتحدة في الوقت نفسه سياسة إقناع حلفائها بعدم بيع أسلحة لإيران. وأطلقت الإدارة الأميركية على هذه السياسة اسم "عملية ستونش"، وكان المسؤول عنها ريتشارد فيربانكس الذي عمل من قبل مساعداً لوزير الخارجية، ومبعوثاً خاصاً للرئيس ريغان إلى الشرق الأوسط. ومن ضمن الدول التي استجابت لتلك الضغوط إيطاليا وإسبانيا والبرتغال والأرجنتين وكوريا الجنوبية. واعتبر فيربانكس العملية ناجحة إذ "حين عدت إلى ممارسة المحاماة في أيلول سبتمبر من عام 1985، كانت معظم واردات إيران الكبرى من دول الكتلة السوفياتية".
رابعاً: التغطية الإعلامية على انتهاكات العراق للمواثيق الدولية في حربه مع إيران. فمنذ عام 1984 استخدم العراق أسلحة كيماوية مرات عدة حتى ضد مدنيين. لكن العداء الغربي لإيران دفع الحكومات إلى إغماض عيونها عن تلك التجاوزات. وحين استخدم العراق الأسلحة الكيماوية ضد مدنيين في حلبجة تمكن صحافيون من الوصول إلى الأماكن المنكوبة وتصوير مشاهد مروعة أفزعت الرأي العام في تلك الدول. وفي هذا الإطار، توصلت وزارة الدفاع الأميركية إلى اعتماد سياسة "إيران أيضاً"، والمقصود أن العراق استخدم أسلحة كيماوية في حلبجة لكن إيران فعلت ذلك أيضاً. وطلبت من ديبلوماسييها التأكيد على هذا لدى الحلفاء الغربيين مع رفض الدخول في التفاصيل.
وظهرت آثار "نجاح" تلك السياسة جلية في قرار مجلس الأمن الخاص بحلبجة، والذي صدر بعد سبعة أسابيع من المناقشات ثم خرج هزيلاً غير واضح، إذ دان "استمرار استخدام الأسلحة الكيماوية في الصراع بين جمهورية إيران الإسلامية والعراق"، ودعا "كلا الطرفين إلى الامتناع في المستقبل عن استخدام الأسلحة الكيماوية".
وفي حوار هاتفي أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" مع النائب الأميركي سام غيدنسون الذي ترأس لجنة الشؤون الخارجية الفرعية في الكونغرس للتحقيق في سياسة الإدارة الأميركية نحو العراق في الفترة التي سبقت حرب الخليج الأولى، قال تعليقاً على الوثائق التي اطلع عليها إنها "تظهر أن الحكومة الاميركية لم تتخذ أي تصرف يمكن أن يبعث إشارة لصدام بأن غضبنا كان كبيراً حين قصف الأكراد بالغاز".
وأظهر تحليل آلاف من وثائق الشرطة العراقية ووثائق أميركية أزيحت عنها سريتها، اضافة إلى مقابلات مع عشرات من الناجين الأكراد وضباط الاستخبارات الأميركيين الذين تركوا الخدمة أن العراق هو الذي شن الهجوم على حلبجة، وان الولايات المتحدة على رغم علمها الكامل بأن العراق هو الذي شن الهجوم اتهمت إيران بالمسؤولية الجزئية عن الهجوم، وان الخارجية الأميركية أصدرت تعليمات لديبلوماسييها بالترويج لفكرة أن إيران شريكة في الجريمة.
ولم يتوقف الدعم الإعلامي الأميركي لعدو العدو حتى بعد انتهاء الحرب. ففي نيسان 1989، أفردت منظمة العفو الدولية أمنستي إنترناشيونال تقريراً كاملاً عن تعذيب الأطفال في العراق، أبرزت فيه أن أطفالاً عراقيين يتعرضون في شكل منتظم للتعذيب "بنزع الأظافر والضرب والجلد والانتهاكات الجنسية والصعق الكهربائي"، وكذلك تعليق بنات من أقدامهن أثناء فترة الحيض، وإدخال عصي في أعضائهن الجنسية. وأشار التقرير إلى إعدام 29 طفلاً من قرية واحدة، وتسلم الأهالي "بعض الضحايا وقد نزعت أعينهم".
ولم يعلق جورج بوش على ذلك التقرير علناً ولو بكلمة إدانة واحدة، ومضت ستة أشهر قبل أن يلقي مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا، جون كيلي، خطاباً عن السياسة الخارجية نحو العراق قال فيه إن "العراق دولة مهمة ذات أمكانات ضخمة. نريد أن نعمق علاقتنا ونوسعها".
ومن وجهة النظر الأميركية كانت هذه السياسية مبررة: فتح سوق للسلاح، وخلق نقاط نفوذ، وتحويل اعتماد العراق على الولايات المتحدة كدولة عظمى، وخلق عناصر عميلة داخل أجهزة الأمن القومي لدول أخرى، والأهم من ذلك كله ضمان عدم بروز قوى إقليمية كبرى.
وماذا عن إيران؟
والآن، بعد الغزو الأميركي - البريطاني للعراق وما تبعه من قرارات كان أبرزها حل الجيش العراقي، هل يمكن لأي مراقب تخيل سيناريو يتضمن انسحاباً أميركياً من العراق قبل "حل" المسألة الإيرانية؟ بمعنى آخر: هل تنقض أميركا غزلها في المنطقة وتتركها في وضع أقل توازناً حتى مما كانت عليه حين قررت تقديم كل هذا الدعم للعراق؟ بالطبع لا. و"لا" هنا يؤيدها إعلان الرئيس جورج بوش قبل أكثر من عام على غزو العراق "محور الشر" الذي ضم إلى جانب الدولة المحتلة حالياً كلاً من إيران وكوريا الشمالية. كما يؤيدها وضع البرنامج النووي الإيراني في دائرة الضوء، في صورة أبرز حتى من نظيره الكوري الشمالي المعترف به. وتؤيدها أيضاً التحذيرات المتكررة من جانب المسؤولين الأميركيين لطهران من التدخل في الشأن العراقي، وتخوفها من التقارب الواضح بين القوى الجماهيرية في العراق وبين إيران إلى درجة حدت بالبعض إلى وضع الولايات المتحدة في قائمة المستفيدين من اغتيال آية الله محمد باقر الحكيم، الزعيم السابق للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وذي الصلة الوثيقة بجارتها الشيعية.
ولعل السؤال الأهم الآن ليس احتمال تدخل أميركا في إيران من عدمه، وإنما طريقة هذا التدخل وخياراته. وهو قصة أخرى ليس هذا موضعها.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.