هزّت الفضيحتان الماليتان اللتان ضربتا اثنين من اكبر المصارف الجزائرية الخاصة، "الخليفة بنك" و"مصر - الجزائر للتجارة والصناعة" صدقية القطاع المصرفي الذي يحاول منذ اعوام اثبات قدرته على التطور، والخروج من دائرة الاحتكار التي تحكمت به لعقود خلت ذهنية الاقتصاد الموجه وأدت الى تخلفه، ما يؤكد اليوم الحاجة الماسة الى رفع مستوياته، واعتماد مبدأ الشفافية، الغائبة حتى الآن، بحيث يتماشى مع المعايير الدولية. لكن أية نقلة نوعية في هذا الاتجاه، يجب أن تمر حكماً بالمساعدة الخارجية، علماً بأن عامل الوقت لم يعد يصب في قناة الاصلاح المالي المنشود. ويخشى المسؤولون عن القطاع المصرفي الجزائري الأسوأ حيال المستقبل، معتبرين الخطابات المنمقة في المجال المالي غير ذات فائدة كونها لم تغير من واقع الأمر شيئاً. ويشهد النظام المصرفي الجزائري اليوم حالاً من التهاوي نتيجة اعادة النظر في كيفية تسييره، سواء من قبل المصرف المركزي أم من جانب الجناح الارثوذكسي المسيطر منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، الذي يعرف كيف يصطاد أخطاء المصارف الخاصة، في حين يغطي المصرف المركزي عجوزات وكبوات المصارف العامة. ويقول خبراء مصارف الأعمال الأوروبيون المهتمون بالسوق المالية الجزائرية، مؤكدين حقيقة هذا التشخيص المؤسف أن المؤسسات المالية، المصرفية منها على وجه التحديد، تدفع حالياً ثمن السياسات المتأرجحة التي تعتمدها منذ اعوام والمتعارف على تسميتها ب"العابرة" التي تركزت على اعادة هيكلة القطاع الصناعي. واذ وضعت المصارف العامة طوال السنوات الأربع الأخيرة نفسها بتصرف مؤسسات القطاع العام التي تشكو من نقص حاد في السيولة ومن سوء الإدارة، ما يتناقض مع المقاييس الاقتصادية الدولية، لم تستعد لهذه العملية الانقاذية كما يفترض بها. ولا يتردد المصرفيون الجزائريون عن انتقاد دور المؤسسات المالية المحلية، من دون تسميتها بالاسم، التي توزع بسخاء ملفت القروض على شركات القطاع العام حيث حجم الاجور يفوق بكثير معدلات المقاربة مع المردود. وفي ظل بيئة يسيطر عليها في الغالب الجانب الاجتماعي لاعتبارات سياسية داخلية محضة، لا تجد المؤسسات المالية المقرضة صعوبة بتجاهل المعايير الاقتصادية الواجب اتباعها. وتأتي النتيجة في تراكم الديون المشكوك بتحصيلها، التي لن تلبث ان تتحول تدرجاً الى هالكة. وبالتالي يتحتم على الخزينة أن تقوم بدور الاطفائي عبر سدادها لهذه الديون بشكل متكرر. وتفيد المعلومات أن هذه الأخيرة خصصت ما يقارب ال14 بليون يورو لتصحيح مالية المصارف العامة المتورطة في اعطاء قروض غير مضمونة. وينبغي التذكير هنا بتصريحات وزير المال، عبداللطيف بن أشنهو، عام 2001، الذي أوضح من خلالها بأن 12 مؤسسة عامة لا تزال تلقي بثقلها على المصارف. ويجب بالتالي على هذا الوضع النافر أن ينتهي، على رغم محاولات هذا الأخير إقامة علاقات جديدة بين المصارف والبنك المركزي، لناحية حصول الاولى على مزيد من الاستقلالية عبر تعديل قانون النقد والتسليف، إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل حتى هذا التاريخ. على أية حال، وبغض النظر عن صحة تقويمه أو عدمه، أثبت هذا المستشار السابق لدى الرئاسة، الذي يعتبر من وزراء المال القلائل ممن قالوا بصراحة وعلناً ما يقوله الآخرون همساً عن القطاع المصرفي: "ان المصارف الجزائرية تشكل خطراً على أمن الدولة". بمعنى انه إذا لم تصحح المؤسسة المالية أوضاعها بسرعة لتتماشى مع التحولات التي يشهدها الاقتصاد الوطني، فانها قد تخسر صدقيتها تجاه العالم الخارجي بحيث يمكن أن تخسر احترام تواقيعها، عدا قبوليتها على مستوى دخول الأسواق المالية العالمية. اصلاحات ومعوقات وحدت الفضائح الأخيرة لمصرفي "الخليفة" و"التجارة والصناعة" بالسلطات الجزائرية المختصة الى التحرك والعودة للتذكير بالاصلاحات الجارية على قدم وساق، التي تعتبر وحدها الكفيلة بطمأنة المستثمرين. ويأتي في طليعة الاجراءات المتخذة، تأسيس شركة لضمان الودائع المصرفية. والتوجه الجديد لتنظيم عمليات الصرف، والتشدد في تحويل العملات الاجنبية بكميات كبيرة الى الخارج، الأمر الذي يصفه حاكم المصرف المركزي ب"الخطوات المهمة" التي انجزت خلال شهور على صعيد الاصلاح المصرفي. وتفيد المصادر المسؤولة بأن سبب تسريع الخطوات الاصلاحية هذه يعود لافلاس "الخليفة بنك"، المتورط بتهريب رؤوس اموال الى الخارج كما يُقال في الجزائر. وسمح تطبيق هذه الاجراءات التي صوت عليها البرلمان أخيراً، لحاكم مصرف الجزائر برفع دعاوى في حال الإخلال بالقانون ذي الصلة. ويلحظ النص ادراج عقوبات تراوح بين سنتين وسبعة في حين تتجاوز الغرامة ضعفي المبلغ المهرب. ويحاول مستشارو الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الايحاء بأن هذا التشدد المعتمد من قبل هذا الأخير يستهدف "بارونات النظام" الذين يقفون في معظم الأحيان خلف عمليات تهريب رؤوس الاموال. في هذا السياق، يشير عبداللطيف بن أشنهو، أحد رجالات الرئيس الموثوق بهم، أن "عصر المختلسين ولّى، وأن سمعة الجزائر تأتي في الدرجة الأولى"، مطالباً المصارف الخاصة بزيادة رأس مالها المحدد قانونياً بنحو 5 بلايين يورو، وهي قيمة يعتبرها الخبراء الماليون متواضعة جداً مع حجم السوق المالية، ولا تفي بالغرض. على هذا يعلق أحد كبار المصرفيين الجزائريين بالقول: "إذا ما طبق القانون، فإن غالبية المصارف الخاصة ستجد نفسها مضطرة لزيادة رأس مالها أو أن تعلن إفلاسها!". على أية حال، فإن الأوساط المالية الجزائرية رحبت بالاجراءات الوقائية التي اتخذتها السلطات النقدية. ذلك لأن الفضائح الأخيرة شوهت صورة القطاع المصرفي المحلي، الذي يمر أصلاً بأزمة لا سابق لها منذ فترة، خصوصاً أن احتياطات البلاد من العملات الاجنبية ناهزت 23 بليون يورو في نهاية 2002. لذا، لا يمكن تبرير ما يحصل في ظل وجود سيولة فائضة، يعني قسم منها لتغطية العجوزات واستباق الفضائح ومنعها من أن تطفو على السطح وتسيء للسمعة. ولا يتردد المحللون الاقتصاديون، وغالبيتهم من الأوروبيين، في التذكير بأنه لم يعُد لديهم أدنى ثقة بعد الآن بالمصارف العامة والخاصة الجزائرية. ويرون بأن الاسابيع المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة للفئة الثانية، التي يتوجب عليها توضيح الأمور من دون أي لبس. مع ذلك فإن النقص في الشفافية لناحية ادارة المصارف العامة لا يزال لغزاً، ليس فقط بعد الصعود الخارق للعادة "للخليفة بنك" ومن ثم انهياره السريع. لكن أيضاً بالنسبة للتسهيلات الضخمة التي استفاد منها عدد من "الحيتان" من رجال الاعمال من خلال حصولهم على قروض مصرفية من دون ضمان كاف، التي ترافقت مع الإغفال المقصود لمراقبة نقاط الحدود في أنحاء البلاد، التي تشكل، حسب الخبراء، معوقات جدية أمام إنجاح محاولات اصلاح القطاع المصرفي. ومن الصعوبات الأخرى، امساك شخص واحد في مجلس ادارة المصارف الخاصة بأكثرية الأسهم. لذا، فمن أولويات الاصلاحات المتوقعة توسيع رقعة المساهمين وتنويعها. ويعتبر هذا التحول من الوسائل الناجعة لحماية زبائن هذه المصارف، بالتحديد عندما يتعلق الأمر بالمخاطر الناجمة عن الخلط بين المصالح الشخصية للمساهم الرئيسي وحسن إدارة المصرف. يُضاف الى ذلك، كون القطاع المالي مليء بالشوائب، يكتنفه غموض، ناهيك عن العمليات المصرفية الملتوية التي أصبحت قاعدة في التعامل وليست استثناء. في هذا السياق، تلعب السوق التحتية أو السوداء دوراً أساسياً في تشويه سمعة القطاع المصرفي في الجزائر. لكن يبدو أنه ليس في اليد حيلة عندما نعلم ان هذه السوق تشكل نسبة تتجاوز ال36 في المئة من ناتج الدخل القومي، وبالتالي تساهم في خفض معدلات البطالة فعلياً وليس على الورق، أي عبر الاحصاءات التي تنشرها السلطات المختصة. تبريرات واستقلالية واهية يبرر المسؤولون الأكثر تفاؤلاً، وهن القطاع المصرفي الجزائري بشكل عام، والفضائح التي يمر بها بشكل خاص، بالتحولات التي يشهدها منذ اعوام، ذلك، من خلال تشبيه الوضع بالتجارب التي مرت وتمر بها أية عملية انتقالية من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق، التي، حسب هؤلاء، لا بد وأن تمر بعثرات من النوع الذي يشهده القطاع المصرفي الجزائري. فالمصارف المحلية، وفق تحليلاتهم، تجد صعوبة آنية لناحية أقلمة بنياتها مع الاصلاحات الاقتصادية المطروحة. كذلك مع التحولات القانونية التي بدأت مع التعديلات التي أقرها قانون النقد والتسليف في بداية العقد الحالي. من جهتها، تعتبر فتحية منتوري، الوزيرة المنتدبة، المكلفة بالاصلاح المالي، "أن الدولة جازمة في توجهاتها لناحية رفع مستوى المصارف العامة والخاصة، وتحسين اداءاتها أياً يكن الثمن". وترى أن هذه الورشة الأولى تتطلب مساعدة خارجية من خبراء عالميين في هذا المجال المصرفي. اما في ما يتعلق بالورشة الثانية، اي اعادة صياغة نظام الدفع وتحديث الأدوات المصرفية، فإن التغيير المنشود يتطلب فترة أطول، مذكرة بأن الجارتين، المغرب وتونس، لم تصلا الى نتائج حسية في هذا الميدان قبل مرور خمس سنوات. فالواضح من العودة للحديث بكثافة عن اصلاح القطاع المصرفي واتخاذ اجراءات احترازية تمنع تشويه صورته، انها مقدمة لاستعادة بعض الثقة المفقودة بفعل الفضائح المالية الأخيرة التي لم يتم تدارك أبعادها بعد على رغم خطورتها على القطاع بأكمله. كذلك، نتيجة سوء ادارة المصارف العامة على الرغم من تدخل البنك المركزي والدولة لتعويم خزائنها في الوقت المناسب منعاً لتدارك فضائح أخرى. ولم يعد التداول، كما في الشهور والسنوات القليلة الماضية في مسألة تخصيص القطاع المصرفي الجزائري بالقابلية ذاتها، بغض النظر عن التراخيص التي أعطيت لإنشاء مصارف خاصة جديدة في الساحة. ولم تتردد السيدة منتوري، المعروفة بجرأتها، بتكرار ما قالته منذ فترة خلال الندوة التي نظمها "المركز الفرنسي للتجارة الخارجية" بباريس لمناسبة اطلاق "عام الجزائر بفرنسا"، من أن فتح رأس مال أي مصرف جزائري عام بحدود 49 في المئة لا يعني مطلقاً تخصيصه، مضيفة ان الدولة لا تنوي فتح رؤوس اموال مصارف عامة أخرى في المرحلة الحالية، ما يعني ان الاصلاحات ستكون محدودة وليست شاملة، بحيث ستتناول اعادة النظر في القوانين، بما فيها قانون النقد والتسليف، الذي وضعت أسسه حكومة "الاصلاحيين" بقيادة رئيس الوزراء السابق مولود حمروش، في بداية العقد الماضي والذي استهدف اجراء تحرير جزئي للقطاع. ويعكس ضعف القطاع المصرفي وضبابيته نفسه على السوق المالية، بحيث ان بورصة الجزائر للأوراق المالية لا تزال تراوح مكانها وتواجه صعوبات جدية على رغم التشجيع المستمر من الدولة لناحية تنشيط الادخار ودفع الشركات الكبرى لطرح اسهمها للتداول في الردهة. مع ذلك، بقي عدد الشركات المدرجة في هذه البورصة لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. باختصار يمكن القول بأنه طالما بقي الاقتصاد الجزائري رهينة لتجاذبات مراكز القوى وتدخلاتها في الشاردة والواردة المالية والتجارية، فإن القطاع المصرفي سيبقى يعاني من هذا الواقع. ناهيك عن أن عدم القضاء على الارهاب يفرمل كل المبادرات الخاصة بالاصلاحات المالية، في حين ينتظر المستثمرون قدوم "الجيل الثاني" من الاصلاحات التي من المفترض أن ترسخ نهائياً اعتماد اقتصاد السوق كنموذج للنمو. واعادت الفضائح المالية الأخيرة كل شيء الى المربع الأول، خصوصاً بعد استعادة المصرف المركزي لصلاحيات كان فقدها في السابق مع قانون النقد والتسليف، ما يعني فقدان المصارف الخاصة لاستقلاليتها أو بعضها. * اقتصادي لبناني.