يواجه الرئيس السابع للجزائر عبدالعزيز بو تفليقة تحديين بعدما خلف الجنرال اليمين زروال، اذ يتوجّب عليه ان يعالج الجروح العميقة التي تسبب بها عقد من النزاع الاهلي الذي أودى بحياة مئة الف شخص ودفع مئتي ألف من ألمع أبناء البلاد الى مغادرتها، كما ينبغي ان يُعطي دفعاً جديداً للإصلاحات الاقتصادية التي بدأت قبل عقد من الزمن وكانت تهدف الى تحرير الإدارة من النظام الاقتصادي على النمط السوفياتي. وتعاني الجزائر حالياً من الابتزاز الاقتصادي الذي حلّ في حالات مختلفة، مكان الحركة الاقتصادية العادية، من خلال ارتفاع مستوى البطالة خصوصاً بين الشباب، والتراجع المستمر للإنتاج الصناعي وانهيار مستوى المعيشة. ويبلغ مستوى الدخل الفردي في الجزائر 2500 دولار، أي أقل بقليل من ذاك في المغرب الذي يبلغ 3000 دولار، وهو وضع معاكس تماماً لما كان سائداً قبل عقد من الزمن. ولكن ليست الانباء الاقتصادية كلها سيئة، بل ثمة قاعدة متينة يمكن الشروع بإحياء الوضع الاقتصادي على أساسها. ففي دراسة اقتصادية حديثة، رأى مصرف "الشركة المصرفية العامة" الفرنسي ان الجزائر تبدو وكأنها تنزلق الى النمط السياسي التركي حيث يدعم الجيش حكومة علمانية ويمنح الدوائر الاقتصادية حرية حقيقية لانتاج وتصدير السلع والخدمات، وهذا السيناريو الايجابي يرتبط بشكل وثيق باقتناع المسؤولين الجزائريين بأن تعزيز الشفافية والمساءلة سيعود في المدى المتوسط، بمستوى أكبر من البحبوحة والاستقرار الاجتماعي السائدين حالياً. وبعضهم مقتنع بأنه، من دون اجراء تغييرات مماثلة، لا أمل في تحقيق الاصلاحات الدستورية الموجعة التي وحدها تسمح باعادة إحياء مسيرة الانتاج، فيما يبدو الآخرون مرتاحين الى مواصلة الانزلاق الذي يمنح المافيا المحلية وزناً إضافياً في القطاع المصرفي". فتلك الاحتكارات الخاصة في طريقها لتحلّ ببطء ولكن بشكل ثابت مكان الاحتكارات الرسمية الفاسدة التي كانت سائدة في الاعوام الاخيرة، وحيث شكّل استيراد الزيت والسكّر تأكيداً على سذاجة صندوق النقد الدولي حين يقول ان الجزائر قد حررت فعلاً التجارة الخارجية. ولن تستفيد البلاد، اذا لم تعتمد مستوى أكبر من الشفافية في القطاع المصرفي، وبخاصة في التحقق من مصادر الودائع ومن كيفية ادارة المصارف الخاصة التي أنشئت حديثاً في الجزائر السياسات الاقتصادية الكبرى التي اعتمدتها بدعم من صندوق النقد الدولي، منذ العام 1994، والتي اعادت بشكل كبير التوازن الى الموارد العامة وساهمت في إعادة تشكيل احتياطي العملات الصعبة. الى ذلك، لن تتمكّن الجزائر من الاستفادة من الاستثمارات الأجنبية الكبيرة في القطاعات الصناعية سوى في قطاع الهيدروكربونات الذي أدى استثمار عشرات شركات النفط والغاز الدولية فيه الى زيادة الاحتياطي وتعزيز القدرة الانتاجية واستخراج النفط والغاز. ولا زالت العائدات الخارجية من ذلك تشكّل نسبة 98 في المئة من الفاتورة الأجنبية، كما كان الامر منذ 30 عاماً، وليس ثمة أمل في إعادة إحياء القطاع الصناعي ووقف الخسائر الضخمة التي يتكبدونها وفي خلق وظائف جديدة، من دون اجراء عملية تخصيص واسعة النطاق وبقيام المتعهدين الجزائريين والمؤسسات الاجنبية بمشاريع مشتركة. كذلك سيستمر مستوى المعيشة في الانهيار وستتراجع الجزائر أكثر فأكثر خلف جيرانها. والقطاع المصرفي هو الأكثر اثارة للقلق حالياً، والذي لا تزال تهيمن عليه مصارف قليلة مملوكة للدولة. وقد افتتحت ثلاثة مصارف أجنبية فروعاً لها في الجزائر، وهي "سيتي بنك"، "أراب بنكينغ كوربورايشن"، و"الشركة المصرفية العامة"، ومن المتوقّع ان يفتتح مصرف "ناتيكسيس" الفرنسي فرعه السنة الجارية. وتحتفظ "الشركة المالية الدولية"، وهي فرع خاص من البنك الدولي، بأسهم قليلة في مصرفيّ "أراب بنكينغ كوربوريشن" و"الشركة المصرفية العامة"، مما يشكل ضماناً قوياً في مواجهة تسرّب ودائع الى الدوائر المالية يحوم الشك حول مصدرها. هذه الشفافية لا تسري في المصارف الخاصة القليلة التي قامت حديثاً، فقبل عامين، وضع المصرف المركزي الجزائري يده موقتاً على ادارة مصرف "يونيون بنك"، وهو المصرف الخاص الاول الذي فتح ابوابه، بعدما اكتشف أن المافيا المحلية وضعت بعض الودائع فيه، لكن المركزي أعاد المصرف الى اصحابه من دون ان يرغمهم على تصحيح عملهم. ويشكّل انزلاق المصارف الروسية التي حُوّلت للقطاع الخاص حديثاً، الى سيطرة المافيا المحلية النافذة، دليلاً ساطعاً الى الكارثة التي قد يسبّب تطور الاحداث وقوعها في الجزائر. وسيؤدي استمرار الانزلاق هذا الى هرب المستثمرين الأجانب الذين دخلوا بحذر قطاع الصيدلة الذي يدرّ أرباحاً طائلة في سوق يُقدّر حجمها سنوياً ب60 مليون دولار أميركي. والقرار الذي اتخذه العام الماضي وزير المال الجزائري، السيد عبدالكريم الحرشاوي، لمحاولة اجراء تصنيف للدين للأوراق المالية الجزائرية من خلال مؤسسات تصنيف أميركية رائدة، لن يكون ذا تأثير عملي كبير. فالجزائر قد تُصنّف بدرجة "ب" على الأكثر، وهي ليست بحاجة ماسة الى رساميل جديدة من الأسواق المالية الدولية. ومن جهته، يميل حاكم المصرف المركزي، السيد عبدالوهاب الكرمان، الى تبني سياسة خفض الدين الخارجي الذي يبلغ حوالى 30 بليون دولار، والتي يُمكن إنجازها على أفضل وجه من خلال برنامج تحويل الدين الجاري الى استثمار في الأسهم العادية. فالمغرب ومصر يقدّمان دليلاً ساطعاً على الفوائد التي يمكن ان تجنيها الدول الدائنة التي تعتمد سياسة مماثلة. ولفرنسا دور حيوي هنا، بصفتها الأمينة العامة لنادي باريس للدول المانحة والشريك التجاري والدائن الاول للجزائر على حدّ سواء. ويساعد احتمال النجاح في اقتناع الفرنسيين بأن يشملوا الجزائر بالسياسة التي يتبعونها حالياً مع المغرب في دعم المرحلة الثانية من الاصلاحات في الجزائر وتعزيز مكانة البلاد في المحافل المصرفية الدولية. وهنا ايضاً، فان المصادر المريبة للودائع التي أدخلها أولئك الذين سمح لهم بانشاء مصارف خاصة، لا تُنبىء بمستقبل زاهر. والرساميل الجاهزة للاستثمار كبيرة. فالجزائريون يملكون حوالى 30 بليون دولار في حسابات أوفشور، اضافة الى الرساميل التي قد توفّرها المؤسسات الدولية الكبرى حين تقرّر توسيع نشاطاتها في الجزائر، بقيام قاعدة صلبة لإحياء القطاع الصناعي. ولن يجرؤ أي جزائري، مهما كان نافذاً في دوائر السلطة، على إيداع أمواله في مصارف لا تلتزم ادارتها القواعد الدولية في المساءلة والشفافية. وفي هذا الاطار، يرى بعض الخبراء ضرورة استعادة المصرف المركزي استقلاليته، والتي تمتّع بها فترة قصيرة بين عامي 1989 و1992، ذلك ان تلك الاستقلالية وافقت جيداً الاصلاحات الجريئة التي هدفت الى تحرير اقتصاد البلاد، وفي السياسة التي اعتمدها رئيس الوزراء آنذاك، السيد مولود حمروش، المرشّح المعارض حالياً. ففي خلال 18 شهراً أعقبت قراره بتحرير الاستثمارات في الجزائر في حزيران يونيو من العام 1990، وقّعت الشركات الدولية 134 مشروعاً مشتركاً مع البنك المركزي في قطاعات تعدّت قطاع الهيدروكربون، وتعهّدت تأمين بليوني دولار من الاستثمارات الأولية، تلك المرحلة المشجعة يبدو انها غدت نسْياً منْسياً لدى القادة الجزائريين. فأولئك الذين أطاحوا السيد حمروش يومها لخشيتهم ان تهدد الاصلاحات الليبرالية التي رفع لواءها بقوة، مصالحهم المكتسبة، قد لا يرغبون في خوض التجربة نفسها مجدداً. والموقف هذا سيؤكد المخاوف الأكثر تشاؤماً في المحافل الدولية، وهو ما يُقلق المسؤولين الجزائريين، وسيؤكد أنهم يواصلون الظهور بمظهر المصمّم على اعادة عقارب الساعة الى الوراء، بخلاف ما يحدث في الدول المجاورة. وقد كسب حاكم البنك المركزي احترام الاوساط المالية الدولية وكبرى الدول الدائنة للجزائر، بسبب أسلوبه الرصين في قيادة مفاوضات بلاده لاعادة جدولة الديون مع نادي باريس مرّتين ومع نادي لندن مرة واحدة بين عامي 1994 و1996. كما حرص على ان ينفّذ بدقة برنامج صندوق النقد الدولي الذي وقّعه الجزائر. وسيذهب هذا العمل الجيد هباءً إن لم يقم أو لم يستطع المصرف المركزي وقف إنزلاق القطاع المصرفي الجزائري الخاص الحديث النشأة في قبضة المافيا المحلية، وإحياء الاحتكارات الخاصة في عملية استيراد السلع الغذائية الأساسية.