بيّنت الانفجارات التي هزت مدينة الدار البيضاء ان المملكة المغربية لم تعد في منأى عن التطرف الديني في أقسى درجات عنفه، كما كان يعتقد كثيرون من أهلها ومفكريها والمختصين في شؤونها. كما ان هذا التطرف، الذي جسدته جماعة تكفيرية اطلقت على نفسها اسم "الصراط المستقيم"، لا يهدد فقط مواطنين مدنيين ابرياء قد يسوقهم القدر الى هذا الفندق او ذاك المقهى، وإنما يهدد ايضاً الاقتصاد المغربي الهش والديموقراطية اليانعة ومكونات الحالة الاسلامية التي تتوافر لها للمرة الأولى فرصة النمو والحركة والنشاط المؤسساتي، بأقل ما يمكن من الرفض والملاحقة. فالغلو والتعصب والجهل بفقه الدعوة وبمقاصد الاسلام يُحول اصحابه الى ألغام حقيقية مرشحة كي تفجر مصالح المسلمين قبل غيرهم، وتلحق أضراراً فادحة بالدين وأهله ودعاته. وما حدث في الدار البيضاء مثال نموذجي على كل الأصعدة. فالذين خططوا للعمليات الارهابية ونفذوها انتحروا من دون ان يكون لفعلتهم معنى أو منطق. اغاظهم ما فعله الاميركيون في العراق فقتلوا فرنسيين ومواطنين مغاربة. اقنعوا انفسهم بأنهم مجاهدون في سبيل الله، فوضعوا كل فصائل الحركة الاسلامية في قفص الاتهام. يتحدر بعضهم او جميعهم من مناطق بائسة وفقيرة، فألحقوا ضرراً شديداً بالفقراء من اهل بلادهم الذين يستفيدون ولو قليلاً من حركة يخلقها النشاط السياحي. كانوا يظنون ان بلادهم في مأمن المغاربة الذين كانوا يتصورون ان بلادهم ملقحة ضد التطرف، استندوا إلى عوامل ثقافية وسوسيولوجية وسياسية. فالمجتمع المغربي معروف بانفتاحه الداخلي، وتسامح أفراده تجاه بعضهم بعضاً، وتعايش أنماط متعددة من السلوكيات، على رغم هيمنة الطابع المحافظ على الثقافة الشعبية وبرامج التعليم. فالاسلام الشعبي هناك هو خليط بين التصوف الطرقي والشعوذة والتعاطي المفتوح والمرن مع الحياة. كما ان نظام الحكم يستمد شرعيته من الطابع الديني والتاريخي الذي يحرص على الاحتفاظ به ودعمه. بالتالي لم يسبق ان دخل النظام في مواجهة او تعارض مع المرجعية الاسلامية للمجتمع. هذا الإطار العام جعل النخبة من احزاب ومثقفين وجمعيات، على رغم الميول العلمانية لكثيرين منهم، يحافظون على نزعة اصلاحية بقيت مهيمنة على توجهاتهم الفكرية والايديولوجية. الحركة الاسلامية المغربية غير عنيفة في هذا الاطار ولدت الحركة الاسلامية المغربية خلال السبعينات، لكنها بدلاً من أن تكون امتداداً فكرياً للسلفية الوطنية الاصلاحية الاجتهادية التي كان زعيم حزب الاستقلال علي الفاسي رمزاً لها، تأثرت من خلال "الشبيبة الاسلامية" بالاخوان المسلمين، خصوصاً فكر الراحل سيد قطب. وهذا جعلها تصطدم منذ البداية مع النخبة والسلطة، وتتورط بشكل من الاشكال بحادثة اغتيال بن جلون. وتطلب اصلاح الأمر سنوات طويلة من المراجعات داخل السجون وخارجها، حتى تم التوصل الى تأسيس منهج يعمل اصحابه على الاندماج التدريجي في المجتمع والحياة السياسية بعيداً من العنف والارتباط بالخارج. وهو مسار تبنته تيارات، بعضها توحد وبعضها الآخر حافظ على تميزه واستقلاليته التنظيمية. أما الخط الثاني الذي شق طريقه داخل الحركة الاسلامية المغربية ممثلاً بجماعة "العدل والاحسان"، فتأثر بالطابع الصوفي لمؤسسه الشيخ ياسين الذي تفاعل مع مدرسة "الاخوان" في بعض الجوانب، ومع تداعيات الثورة الايرانية في جوانب اخرى من دون ان يتخلى عن مرجعيته السنية. وعلى رغم رفضه اضفاء الطابع الديني على الحكم الملكي، وبلورته خطاباً وصف بالثورية او الراديكالية، بقيت هذه الجماعة حريصة على الطابع السلمي لعملها، ورفضت أي شكل من الارتباط بجهات غير مغربية. لذلك فوجئت فصائل الحركة الاسلامية المغربية بصعود تيار تكفيري عنيف، بلغ به الأمر تنفيذ عمليات انتحارية في قلب العاصمة الاقتصادية للبلاد، ما يتطلب البحث عن الأسباب العميقة التي أدت الى ذلك. وعلى رغم ان هذا المقال لا ينوي الخوض في هذا الجانب، فالاكتفاء بحصر الموضوع في العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لن يساعد في معالجة مثل هذه الظاهرة التي أرهقت كل مجتمع عرفها. فلا شك في أن مدن الصفيح التي أخرجت هؤلاء الانتحاريين ساهمت في نحت شخصيتهم الناقمة على أوضاع غير عادلة. ولكن للبعد الفكري أهميته المركزية في ولادة الظاهرة التكفيرية، بالتالي أي تهاون في التصدي لجذورها الدينية من شأنه ان يجعلها قابلة للتوسع وقادرة على قلب المعطيات السياسية على كل الأطراف. الحركة الديموقراطية المغربية والخطأ المحتمل في هذا السياق، تخطئ التيارات السياسية والفكرية ذات الخلفية العلمانية والحداثية اذا اعتبرت أن حوادث الدار البيضاء تشكل فرصة لتصفية حساباتها السياسية والفكرية مع الحركة الاسلامية، بمختلف فصائلها. كما انها ترتكب هفوة تاريخية عندما تندفع في اتجاه وضع الدولة في حال تقابل ومواجهة مع الاسلاميين، جميع الاسلاميين. وسبق للنخبة المغربية ان أبدت نضجاً ووعياً عميقين في أزمات سابقة، كما دافع معظم مكوناتها عن حق الاسلاميين في الوجود، وساهمت بفعالية في إنضاج قرار دمجهم في اللعبة السياسية… بالتالي على الحركة التقدمية المغربية ان تتجنب إلقاء مسؤولية تراجعها السياسي والفكري على خصومها العقائديين، وان تبحث عن الأسباب الذاتية لأزمتها. توالت المؤشرات قبل الانتخابات البرلمانية وبعدها إلى وجود تباينات عميقة، خصوصاً بين مكونات اليسار المغربي وفصائل الحركة الاسلامية. وهذا أمر طبيعي له مبرراته الذاتية والموضوعية، ولكن مع النتائج التي أسفرت عنها تلك الانتخابات، اصبح الاسلاميون يشعرون بقوتهم وأصبح اليسار المغربي يشعر للمرة الأولى بأنه مهدد في زعامته، بل حتى في مستقبله. وما يخشاه بعض العارفين بالشأن المحلي ان تتسارع الأحداث في اتجاه القطيعة بين الطرفين، والتورط بالتحريض السياسي والأمني على جميع الاسلاميين، وربما تشجيع حل "حزب العدالة والتنمية". فلو حصل ذلك سيشكل ضربة قاسية للديموقراطية المغربية الناشئة والواعدة، وسيدخل البلاد في حال من عدم الاستقرار، وسيدعم في النهاية التيارات الأكثر تعصباً وانغلاقاً وعنفاً في الساحة الاسلامية المحلية والدولية. الإسلاميون أمام مفترق خطير أما الاسلاميون فإن مسؤوليتهم تبدو رئيسية في امتصاص الوضع المتوتر الذي خلّفته التفجيرات الأخيرة. فعلى رغم ان جميع المغاربة معنيون بما حدث، إلا أن توظيف الثقافة الدينية لتبرير القتل والتخريب يفرض على فقهاء المغرب ودعاته وجميع الذين لهم علاقة بالفضاء الديني، مواجهة الترعات التكفيرية وتسليح المواطنين ورواد المساجد وأنصار "الاسلام السياسي" بالوعي والمنهج العقلاني والنقدي. فالتكفير نار تحرق الجميع وتغرق سفينة الوطن. كما ان الاسلاميين مدعوون الى تجنب ردود الفعل المتشنجة والاقصائية، وان يدركوا أنهم يعيشون مع غيرهم في وطن هو للجميع، وان التعايش يقتضي الكثير من المرونة والتسامح وطمأنة الخصوم قبل الاصدقاء… والكثير من الحرية وبذل جهود ضخمة لدعم التعددية وحمايتها من الانتكاس والمشاحنات العقائدية. ولعل التفكير في مراجعة استراتيجية المشاركة الواسعة في الانتخابات البلدية أو البرلمانية، يعتبر توجهاً حكيماً، لأن استسهال لعبة الحكم فخ له عواقبه الخطيرة. فالعلاقة بين الديني والسياسي لا تزال تثير الكثير من المخاوف المشروعة. وما تصاعد التيارات التي تخلط بين المشروع ضد المستعمر وبين الإرهاب وقتل المدنيين، وتروّج لأنماط مرعبة من الحكم تصفها ظلماً بأنها إسلامية، إلا دليل على وجود مشكلة معقدة. ومن ينكر ذلك او يقلل حجم الأخطار يكون أشبه بالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل. وما لم يجتهد الاسلاميون بجدية ومسؤولية في البحث عن انموذج يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والدين، سيبقون يلعبون بنار قد تحرقهم وتحرق غيرهم. ضرورة وطنية واقليمية إن حماية المشروع الديموقراطي في المغرب تحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى وفاق أدنى بين كل مكونات الطبقة السياسية والمجتمع المدني… وفاقٍ لا يلغي التنوع والاختلاف والصراع السلمي والديموقراطي، لكنه يضمن تمسك الجميع بثوابت تخص نمط المجتمع وطبيعة الدولة ومرتكزات النظام الديموقراطي واحترام حقوق الانسان. فالديموقراطية في كل مجتمع لا بد ان ترتكز إلى عقد اجتماعي يرسخها ويجعلها قادرة على تجاوز الأزمات. كما أن أي انتكاسة للمسار الديموقراطي في المغرب، ستكون لها تداعيات سلبية على مجتمعات المغرب العربي ونخبه الباحثة عن مقدار أدنى من الاصلاحات السياسية التي تخرجها من قمقم الحزب الواحد واستبداد الدولة. وما حدث في الجزائر مطلع التسعينات شملت تداعياته كل المنطقة، بالتالي أي انتكاسة للتجربة الديموقراطية المغربية سيكون لها وقع سيئ على نضالات القوى الديموقراطية في دول الجوار. * كاتب وصحافي تونسي.