"لا ريب في ان النهوض بالحرية والاستقلال، او الحرية والوحدة الوطنية، معاً وفي آن، امر ثقيل جداً على أمة من الأمم". من يخلص الى الرأي الصارم هذا، ويميز الحرية ويعني بها المساواة السياسية بين المواطنين وتمتعهم بالحقوق المدنية والحريات الأساسية والعدالة الاجتماعية من الاستقلال ويعني به قيام الدولة بسياستها الوطنية بمنأى من مصالح امبراطورية او كنسية "جامعة" - لا ينظر في تاريخ التيارات الفكرية السياسية العربية، ولا في البرامج الحزبية والقومية، لا في القرن التاسع عشر ولا في القرن العشرين. لم يحصل تأمّل في التجاذب الحاد الذي قسم المجتمعات العربية عشية الأزمة العراقية الأخيرة، وفي اثنائها وغداتها، حزبين ورأيين: واحداً يقدم حرية المواطنين العراقيين وأمنهم ومساواتهم مع "الأنغلو - اميركيين" على استقلال العراق مع صدام حسين، وآخر يرى في الأوائل عملاء وعبيداً ولا يشك في ان الانتصار للثاني جهاد تحلو الشهادة فيه وتُرجى. ويرقى هذا التجاذب، في صيغ لا تختلف كثيراً عن صيغته اليوم، الى منازعة "العثمانيين"، من حزب السلطنة فالخلافة المتماسكة والواحدة، و"الإصلاحيين"، من انصار الحريات السياسية والمدنية، في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر. وخلفت منازعةَ "العثمانيين" و"الإصلاحيين" منازعةُ "الاتحاديين" الوحدويين و"الائتلافيين" الفيديراليين في اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن التالي. فمن خلص الى ثقل النهوض بالحرية والاستقلال معاً هو ايطالي كتب بعض اعماله بالفرنسية، وهاجر الى فرنسا في ثلاثينات القرن التاسع عشر طوعاً، اسمه جوزيف فيراري. فكتب "ماكيافيلي قاضياً في ثورات عصرنا"، بعد ثمانية اشهر على ثورة 1848 الديموقراطية، في فرنسا وسائر بلدان أوروبا، غرباً ووسطاً وشرقاً، اي في شباط فبراير 1849. العلم... بالتخلف ويذهب فيراري الى ان ماكيافيلي ينطوي على "علم ايطالي خالص" الإيطالية. ومرد ايطالية العلم الماكيافيلي انما هو الى تخلف ايطاليا عن ركب اوروبا السياسي. وهذا الركب تتقدمه فرنسا منذ استتمامها و"إنجازها انجازاً قاطعاً عمل وطنيتها، فمذذاك انصرفت بكليتها الى عمل نهضتها"، على قول صاحبنا. و"عمل الوطنية" هو ما سماه انصار ماركس، ومريدوه من بعده، حل "المسألة الوطنية" او القومية، بحسب بعضهم. و"عمل النهضة" مداره على "المسألة الديموقراطية" و"المسألة الاجتماعية" او العدالة، بحسب فيراري. وهو لا يفصل العدالة الاجتماعية من الديموقراطية، ويجمع الاثنتين في ما يسميه "الثورة" او "اصل الثورة ومبدأها" تيمناً بالثورة الفرنسية التي يراها حركة تاريخية عريضة ومتصلة الحلقات منذ 1789 الى يومه. وينسب الكاتب الإيطالي الفرنسي الثورة الى "أنوار" القرن الثامن عشر الفرنسي والأوروبي، وإلى الإصلاح البروتستانتي اللوثري والألماني الذي عاصره ماكيافيلي، والى نهضة المدن الإيطالية في القرون الثلاثة الكبيرة التي سبقت الحقبة "الكلاسيكية" الأوروبية. فالنهضة رفعت من قدر الطبائع الإنسانية التي بخستها الكنيسة حقها من التقدير. وجعلت منها، ومن الأعمال الصادرة عنها، مناط التقويم ايجاباً أو سلباً، وأرست على "طبيعة" البشر الدنيوية والزمنية حوادثهم وأفعالهم. وخلصت "الأنوار" من الطبيعة هذه الى المساواة الطبيعية والاجتماعية، وإلى إنكار حقوق المراتب ومزاعم ركز المراتب في طبيعة ملازمة للتاريخ، أو هي والتاريخ توأمان. فأكملت عمل النهضة الإيطالية، وتوجته برفع "الشعب"، على مراتبه وطبقاته، الى مرتبة السيادة الحقوقية والسياسية. وعلى هذا، فكل مواطن هو جزء من "السيد"، على قول روسو، اي من سيادة الشعب على نفسه وتشريعه وتمثيله وتفويضه. وكان الإصلاح البروتستانتي اللوثري اوجب مساواة الكهنة والرهبان، او "رجال الدين"، بالمؤمنين عموماً ورعيتهم. فرفع كل مؤمن الى مرتبة "رجل دين" او كاهن أو "بابا". وأوكل الى المؤمن العامي النظر في الدين من غير قيد الكنيسة او الجسم الكنسي. فتولت الحرية إلغاء "البابوات". وقامت المساواة بتمهيد المراتب والامتيازات الموقوفة على اهلها وأصحابها. وتعهدت المؤاخاة "مراقبة ثروات الأناني" والأنانيين، على قول فيراري مازجاً الوصف التاريخي بمعيارية صريحة. وشعار الثورة الفرنسية المثلث إنما يوجز عمل "الثورة" المديد و"القاسي"، ويقوم من الثورات الوطنية الأخرى مقام المثال والمنارة. ويعود هذا المقام، على ما تقدم، الى انجاز "عمل الوطنية" والتوحيد الداخلي والاستقلال عن يد الملكية المطلقة. فاضطلعت هذه بتحطيم العصبيات المحلية، وأضعفت المراتب واستقلالها، وألحقت الكنيسة بالدولة وحالت بينها وبين اتباع البابوية "الجامعة". ونصبت الملك، وعرشه وبلاطه وإرادته، قطباً أوحد، ومعقدَ السلطات "العروش" والنخب "البلاطات" والإرادات "المواطنون". فلما اعلنت "الجمعية الوطنية" الفرنسية سيادة الشعب والأمة وهو "شعب - امة"، على معنى سياسي ومواطني وحقوقي غير منازَعة، "نقلت"، على قول مؤرخ معاصر، سيادة الرأس السياسي والحقوقي السابق الى الشعب - الأمة، وأحلت الأولى في الثاني. فانتقل الى الشعب - الأمة، الواحد والمجتمع، "التقديس" الذي حاط به الرأس السياسي و"الصوفي" نفسه، وأرسى عليه عمل الدمج الذي اضطلع به من طريق إدارة صارمة. وأدى بالوطنية الفرنسية الى شبه التدين، والى الغلو فيه. وإنجاز "عمل الوطنية" لم يتح لإيطاليا. وهو لم يتح كذلك لألمانيا المعاصرة منتصف القرن التاسع عشر فيما يعني صاحبنا. "فتقاطع النازعان اي الحرية والوحدة وشل واحدهما الآخر، وخدعت الامبراطورية الأمة الألمانية مرة اخيرة"، على قوله ورجائه فالمرة الأخيرة المرجوة تلتها مرتان كانتا كارثتين عالميتين. فتعثرت ايطاليا وألمانيا - والأمتان هما المثال الذي تدبرت النزعات القومية العربية على هديه معظم حوادث التواريخ العربية وأهومته منذ نحو القرن - بنظامٍِ أركانُه اربعة: الامبراطورية الأوروبية الجرمانية والكاثوليكية المقدسة والبابوية الكنسية، والمنازعة العصبية بين الغيلف والجيبلان في المدن الإيطالية، وإمارات المدن المستقلة. وتضافرت الأركان الأربعة على مراوحة التواريخ الإيطالية المحلية بين منازعات لا مخرج منها. فوسع العصبية المحلية، غالبة او مغلوبة، قوية او ضعيفة، التحالف بوجه غريمتها إما مع قوة من المرتزقة وهي تعلم علم اليقين انها قلما تحارب دفاعاً عنها، او مع عصبية اخرى نظيرها في مدينة اخرى، او مع حلف مدن على حلف آخر، او مع الامبراطور بواسطة واليه على إحدى ولاياته المحلية، او مع البابا المتربع على رأس قوة عسكرية الى تربعه في سدة حبريته المعنوية والكهنوتية. وعلى رغم نجاح بعض المدن الكبيرة، وأولها فلورنسا موطن ماكيافيلي، في بناء مدن - دول مستقلة ومزدهرة، وفي جمع هذه المدن حريات عامية "شعبية"، رعتها عصبية الغيلف غالباً الى بعض الحصانة، مدداً متفاوتة، انتهى "النظام" الإيطالي المعقد والمتشابك الى تقويض النهضة، بعدما كان ربما الباعث عليها. فهو، اي "النظام" الإيطالي وشبهه ب"النظام" العربي اليوم، والعثماني والمملوكي قبله، ظاهر، حمل المنازعات والحوادث على ترجح وانقلابات ومراوحات لا مخرج منها. فلا تكاد تبرز مدينة - دولة، وتحسم منازعتها الداخلية، ويستقر حكمها لحزب من الحزبين، وذلك في اعقاب ما لا يحصى من الاغتيالات والكمائن والرشاوى والإقصاءات والمصادرات والخيانات والمصاهرات، حتى تتوجس المدن القريبة خوفاً من بروزها. فتتحالف عليها، وتؤلب تارة الملك الإسباني، وتارة ثانية الامبراطور الجرماني او النمسوي، وتارة ثالثة ملك فرنسا. ولا تتورع عن زج الحلف العثماني في المنازعة المتسعة والمتعاظمة. وتميل روما، وهي مدينة من وجه والكرسي الرسولي من وجه آخر ملازم للأول، مع هذا الحلف او مع ذاك، او مع الاثنين معاً. فنشأ عن هذه الحال تشابك وتعقيد صبغا الحوادث أو "الكوارث" الإيطالية والثقافة الإيطالية معها، بصبغتهما. وتَرِد على قلم الكاتب مقارنة بين تشابك الحوادث الإيطالية وانعطافاتها وانقلاباتها وبين كتاب الملاحم "الوطني" أورلاندو غاضباً" او "غضب اورلاندو" لأريوستو، وهو يشبه من بعض الوجوه "سيرة عنترة" و"ألف ليلة وليلة". فعلى مثال القَصَص العربي والهندي، تيمم الحوادث والحكايات كل وجه وصوب، وتمزج الأرض بالسماء، وجوف الأرض بالبحر، والسم بالخنجر. وتتنقل بين الغلمان والجواري، وتنقلب من الأسواق والقصور الى القوافل والخزائن على غير هدى او رسم. وهذا اشبه ما يكون بالترنح. دواء الترنح ويعزو فيراري شطراً عظيماً من سياسة "امين السر" الفلورنسي او نظره السياسي - وكان نيقولو ماكيافيلي، مهنة او وظيفة، نوعاً من وكيل علاقات خارجية - الى حال شبه الجزيرة الإيطالية هذه. فهو داوى الترنح ب"الفضيلة" السياسية وهي مركب من الحزم والدهاء والإقدام. وحمل "الفضيلة" على اقتناص الفرص والمصادفات حين تسنح، ولازم بينها وبين البخت والحظ و"النجوم". ونسبها الى الأفراد، ولم ينسبها إلا إليهم. ف"أميره"، الرجل الفرد، يباشر وحده السياسة، إيجاباً لقوانين عامة وتشبيهاً لمعتقدات وتجنيداً للوطنيين وحرباً وحلفاً وولاء وخيانة وقتلاً وزواجاً ورشوة وتوريثاً وخلعاً. أما العامة فتقتصر "رغبتها على ألا تقهر"، على ما يردد الفلورنسي الذائع الصيت. وحين حمل أنطونيو غرامشي، أحد آباء الحزب الشيوعي الإيطالي في 1920، أميره "الحديث" على الطليعة "اللينينية" نسب إليه "فضيلة" الأمير المكيافيلي الفردية، وأحلَّها فيه، وجمع اليها ما لا يأتلف معها من إيمان وأهواء يتصدرها هوى الحرية وهوى المساواة والعدالة وعلى خلاف غرامشي يزعم مواطنه، صاحبنا، أن الأمير الحديث هو حركة الثورة الآتية من روافد التاريخ الأوروبي التحتية العميقة والمتصلة، على ما مر، وهو يذهب على خلاف ماكيافيلي، الى أن حركة الثورة مبناها على ما يسميه "الأصول" أو "المبادئ" أي الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. ويدعو ماكيافيلي أميره الى تخليص إيطاليا من لعنة "نظامها" العصبي المحلي والامبراطوري الكنسي، وتوحيدها في أمة على المثال الفرنسي. وعلى رغم غلطه الفادح في تشخيص عدو الوحدة الإيطالية في القرن السادس عشر في سويسرا، وقتال السويسريين الى جنب النمساويين وامبراطورهم والكنيسة، لم يغفل عن أن حليف الإيطاليين الأول هو فرنسا، على قول فيراري. فمن غير قوة أجنبية ليس لإيطاليا ومدنها ومناطقها حظ في الوحدة. ولا يُتوقع أن تتمخض المنازعات "الداخلية"، وشأنها ما تقدم وصفه، عن قطب قادر على توحيدها وجمعها في دولة وأمة. ويدعو فيراري، عشية انتصاف القرن التاسع عشر، الى تجديد هذا الحلف يومها. وهو يعزو اليه وحده، على مذهب ماكيافيلي، القوة على توحيد "النظام" الإيطالي والتغلب على الحواجز التي ينصبها بوجه الوحدة. ولكنه يسوغ دعوته، على خلاف تسويغ ماكيافيلي قبله، في ضوء "ثورات عصره"، غداة 1848. ففرنسا الملكية، المطلقة الملكية، مهدت الطريق لمبدأ الحرية منذ خروجها على الوحدة الامبراطورية، وإنشائها كنيسة وطنية "غاليكانية" قطعت العلائق بالكنيسة "الجامعة" والأم بروما ما خلا علائق الاعتقاد والشعائر. فالخروج على الوحدة الامبراطورية صرف الملوك الفرنسيين عن تبديد مواردهم المادية والمعنوية في منازعات قوية الشبه بالمنازعات الإيطالية. وبعثهم على بت أواصر أصحاب الاقطاعات المحليين و"الكبراء" بالمراكز والحواضر الامبراطورية، وعلى حسم مادة عصبياتهم التي تغتذي من هذه الأواصر. فأقدرهم هذا على تحرير رعاياهم من كثرة الولاءات، ومن تضاربها وتنازعها. وأضعف الملوكُ الوسطاء والوسائط بين الأهالي وبين "الجسد الملكي"، قبل أن يتحول هذا الى "جسد الأمة" ويشاطر سابقه "القداسة، ويزيل المراتب ويلغي حقوقها المتوارثة. وأدى توطين الكنيسة الكاثوليكية و"تدييرها" شدها الى دار وديرة الى إضعاف مراقبتها الأفكار والمعتقدات، وتضييقها على تداولها ومناقشتها. فكانت حركة "الأنوار" الفرنسية في القرن الثامن عشر، من بعض وجوهها، ثمرة الضعف هذا. ولعل رفع الوسائط "الطبقية"، أو المرتبية، داخلاً، وإضعاف الوسيط الكنسي، خارجاً، هما الباعث الأول على سبق فرنسا الى بلورة دائرة علانية عامة ومشتركة، على ما نوه يورغين هابرماز. وفي ضوء اعتبارات الحلف الفرنسي هذا - واختبرته ايطاليامرات كثيرة بعد وفاة ماكيافيلي، وكان ولي استقلالها في العقد السابع من القرن الأسبق - يذهب فيراري الى تقدم الحرية على الاستقلال والوحدة تقدماً يجزم فيه ولا يساوم. والوحدة والاستقلال إذا جاءا من طريق "الاستعباد"، والطبقات التي توحد الحكم به، كان من اليسير أن يتبددا تبدد "إمارة فلورنسية أو بندقية"، على قول الكاتب. وتبدد عرش إيطاليا الذي أنشأه نابليون، على هذا النحو، في 1814. وكان نابليون "ارتجل" فرنسا جديدة وراء جبال الألب على مثالٍ ماكيافيلي: فجعل من كل إيطالي جندياً، وألغى روما البابوية، وأوجب قوانين واحدة. ولكنه، على خلاف فرائض السياسة الماكيافيلية، لم يستأصل العصبيات والولاءات، وحسب أن في وسعه الرحيل والجلاء قبل القضاء على "رؤوس الفتن". فلم يكد يدير ظهره حتى استيقظ الرأسان: الامبراطورية والباوية. ورجعت "الكوارث" الإيطالية سيرتها الفلورنسية التي أرخ لها ماكيافيلي. فإذا لم يسبق استئصالُ جذور الاستبداد والاستعباد الداخليين التحررَ من الأجنبي والتوحيد الوطني، وسع أهل الاستبداد والاستعباد على الدوام تصدر حروب التحرر والتوحيد وحركاتهما. فالكبراء الذين تتهددهم الديموقراطية، وهي الاسم الآخر للثورة، بالإقصاء والخلع ينتسبون كلهم الى "النظام الامبراطوري - البابوي". وعلى مثال هوراس في الخبرالروماني المدرسي، على الحركة الديموقراطية أن تقسم الأعداء وتشتتهم. فإذا "قتلت" نظام الاستبداد الداخلي، وتحررت منه، كان في مستطاعها التحرر من الاستبداد الأجنبي، وتوحيد أجزائها طوعاً. وما دام البابوات والكبراء هم سادة الجيوش وأصحاب الأموال، وعدوا بمقاومة الامبراطورية شريطة أن يُطمأنوا الى استتباب الأمر لهم، وأن ترجئ الحرية مطاليبها واشتراطاتها، أي سيادة الشعب وحرية الضمير والاعتقاد، الى ما بعد الانتصار على الأجنبي والتجزئة. ويستبعد الكبراء والأساقفة، على ما يسمي الكاتب الإيطالي الفرنسي ركني الاستبداد، تدخل القوى "الليبرالية" الإقليمية، بذريعة أن "إيطاليا تقوم بنفسها"، ولا تحتاج الى غيرها في تحررها. ولكن القيام بالنفس، والاستغناء عن الصداقة الليبرالية، قدمت الحرب الخارجية الاستقلالية على الديموقراطية الداخلية. وترأس الألوية والجيوش أهل الاستبداد والاستعباد. وحُملت "الثورة" على الحرب تحت لواء أفكار نقيضها وقادة هذا النقيض. فتجدد ما أثار استهجان ماكيافيلي: الجمهوريون المتعثرون، والكبراء المخادعون، ومراوغة القادة، والانتصارات غير المتوقعة، والهزائم العجيبة. ويخلص فيراري، حاكياً بلسان ماكيافيلي تارة وبلسان شاهد الثورات في عصره تارة ثانية، الى أن الحرية "معتقد جديد" لا يجتمع والمعتقد الامبراطوري البابوي. وهو لا يتوسل بالمكائد والمراوغة، ولا يدين بالأنانية. وعليه أن يحذر نفيه الى حدود الدولة، دفاعاً عنها وعن استقلالها بينما تُكاد المكائد له في الأقاليم، وتعد العدة لقتله غيلة. فالدعوة الى الإقدام والشجاعة من غير إيمان هي دعوة الى الانتحار. والإيمان مصدره المعتقد الجديد أو "إعلان الحقوق"، قول الكاتب. فإذا لم يكن كل إيطالي كبيراً من الكبراء، وبابا، وامبراطوراً - أي مواطناً حراً يتمتع بحقوق المواطنية - امتنع عليه الإيمان والإقدام والشجاعة. وتعلقت به شبهة "إىطاليا القديمة" وشبهة "نظامها". وتزداد الشبهة اشتباهاً والتباساً على قدر تأخير "الثورة الديموقراطية" عن حروب الاستقلال والوحدة. والحق أن نتائج هذا التأخير لا تنفك تفعل فعلاً مديداً في التاريخ اللاحق. ففي ضوء "ثورات عصرنا" نحن، أي ثورات القرن العشرين، وأبرزها الثورات الشيوعية والفاشية والنازية، بدا على نحو ظاهر وجلي أن تقدم الوحدة الوطنية، أو القومية، على الديموقراطية، وتأخر هذه، سبب راجح في حضانة بعض المجتمعات مثل إيطاليا وألمانيا هذا الضرب الجديد من السياسة. فالمجتمعات التي تسبق فيها الدولة، وسلطاتها العظيمة، قدرات المواطنين على المراقبة والحسبة والتقييد، لا يحميها حامٍ من ارتداد سلطات الدولة عليها، وتوحيدها قسراً وعنوة، على ما اختبرنا طويلاً ونختبر. * كاتب لبناني.