يتجسَّد التكامل العضوي بين الريادة الفردية، والاستجابة الإيجابية أكمل تجسيد في الثورة اللوثرية، كما يتجسَّد الرفض التلقائي العنيف لهذه الريادة في ردود الفعل السلبية المقاومة لها والحروب الدامية الطويلة التي استعرت بين المؤيدين والمعارضين.. إن المقاومة الشديدة والعنيدة المستمرة لدعوة لوثر تؤكد بشكل قاطع ومطرد صلابة الواقع وصعوبة زحزحته عن مواقعه فوقائع التاريخ تؤكد بصورة قاطعة بأن تغيير التصورات المستحكمة واستبدال الأفكار الراسخة يكاد يعادل تغيير الذات نفسها واستبدالها بذات أخرى لذلك فإن ريادة مارتن لوثر رغم أنه استُجيب لها بقوة من قطاع كبير من الشمال الأوروبي لكنها لم تحقق أهدافها إلا بعد صراع طويل ومذابح فظيعة وخراب شامل فانتهى ذلك كله إلى تسويات تضمن تقاسم المواقع... إن كل أحداث التاريخ تؤكد أن العقل البشري يحتله الأسبق إليه فيتبرمج بهذا الأسبق ويجري منه جريان الدم، ويسري فيه سريان الحياة وهذا من أهم أسباب محدودية تأثير الأفكار الجديدة والعلوم الممحَّصة على الكيانات الثقافية العريقة فالأسبق أيًّاً كان محتواه لا يتخلى عن مواقعه أبداً إلا بحصول قوة كاسحة تتفوق عليه تفوقاً حاسماً غير قابل للمقاومة.. ومن النادر أن يتحقق ذلك لأن الأسبق هو المهيمن على البيئة فهو في الغالب الذي يملك كل شيء كما أن تلقائية التشرب له والتشبُّع به والذوبان فيه تجعله راسخاً رسوخاً قويًّاً بل يكون مخالطاً للنفوس فيحول ذلك دون اقتلاعه أما الفكر الطارئ فلا يملك سوى المحاولة الصادقة لإيقاظ العقول وإبراز الخلل وتحريك الوعي، وكسْر الغبطة التلقائية بما هو سائد ومواجهة المسلَّمات لذلك فحتى حين ينهزم الأسبق ظاهريًّا فإنه يبقى مهيمناً داخليًّا فتعيد التصوراتُ السابقةُ ترتيب ذاتها بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة لكنها لاتنمحي أبداً بل يتجدد تدفقها وفاعليتها بأشكال جديدة ولكن بنفس المضمون السابق.. إن قبول الريادة مشروطٌ بوجود رغبات مسبقة في البيئة تجد في هذا الطارئ مايَعِدُ بتحقيقها فتستجيب له فمارتن لوثر حين انشق على الكنيسة الكاثوليكية كانت بعض المجتمعات الأوربية قد انتشرتْ فيها أفكار النهضة فكانت متهيئة فكريًّا لقبوله، ومستعدة نفسيا بأن تستجيب له ليس فقط على مستوى شعوب الشمال وإنما على مستوى الأمراء والدويلات الألمانية وغيرها التي كانت تتطلع إلى مزيد من الاستقلال في أمورها الدينية والدنيوية عن الكنيسة الكاثوليكية المتسلطة، وعن الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة التي كانت تحارب الأفكار الطارئة وتأتمر بأمر البابا.. إن التحولات الكبرى التي طرأت على العقل الأوروبي وعلى الأوضاع الأوروبية لم تتحقق إلا بعد سلسلة من الريادات المؤثرة التي انتشرتْ بذورها ببطء شديد وقوبلتْ بمقاومة تلقائية عنيفة فقبل انشقاق مارتن لوثر سبقته عدة انشقاقات قوية مهَّدَتْ له وهيأت النفوس للقبول ولفتت الأنظار وكشفت عن الزيف، وأيقظت الغافلين وحشَدَتْ السخط لأن المنشقين الذين سبقوه عوملوا بقسوة ورعونة ووحشية وصلت إلى حد الحرق لبعضهم وهم أحياء فتعرَّتْ بذلك فظاعة التسلط وامتعض الناس من تلك الغطرسة المتوحشة فلوثر لم يكن أوَّل منشق فقد سبقه كثيرون مثل بيتر والدو وجون ويكليف وجون هاس ولكن لم تتحقق لهم استجابة كافية فالتقمهم حوتُ الاستبداد وخَنَقهم الانغلاق لكنهم هيأوا الناس لقبول من يأتي بعدهم فكانت الاستجابة العارمة من نصيب مارتن لوثر.. ليس هذا فحسب بل إنه قبل انشقاق مارتن لوثر كان قد تتابع ظهور رواد النهضة من أمثال دانتي وبترارك وماركو بولو وبوكاتشيو ودافنشي ورافائيل ومايكل أنجلو وغيرهم.. وكما يقول هربرت فيشر في كتابه (أصول التاريخ الأوربي الحديث) :(خلال المائتي عام مابين 1340و1540 قَدَّمَتْ المدنُ الإيطالية نتاجاً من الفن والبحث والأدب لم يشهده العالم منذ أمجاد أثينا القديمة). إن هذا المؤرخ يؤكد أن : (ينابيع الخيال الإيطالي الفسيح المسرف كانت قد تدفَّقت بقوة هائلة) ولكن طفرة القوة الأسبانية المنغلقة بعد ثرائها المفاجئ عقب رحلة كولمبس الظافرة التي جلبتْ لها الأموال الوفيرة مكَّنت هذه القوة الكاثوليكية المتعصبة من أن تُخمد تلك الطاقات التي كانت تفيض بالفكر والأدب والأمل في إيطاليا، وأن تغلق تلك الينابيع لكن لم يحصل الإخماد والإغلاق إلا بعد أنْ امتد تأثيرها إلى هولندا وفرنسا وألمانيا والسويد وسويسرا وبقية الشمال الأوروبي فجنى مارتن لوثر ثمار تلك الينابيع... إن روافد كثيرة صبَّتْ في مصلحة الدعوة اللوثرية وأدَّتْ إلى انتصار مسيرة التغيير فحين انطفأت شعلة النهضة في إيطاليا حمل الشعلة آخرون من بلدان الشمال الأوروبي ويأتي في طليعتهم إيراسموس حامل لواء النزعة الإنسانية وقد كان له تأثير قوي وانتشار واسع، وكان معاصراً لمارتن لوثر الذي لم يكن بانشقاقه منفرداً في الساحة وإنما نُسبتْ إليه الثورة لأن آراءه كانت تصطدم مباشرة مع الاكليروس ما جعل رد الفعل موجَّهاً إليه فسهامه كانت حادة وقوية وصريحة وجريئة وموجَّهةٌ بوضوح ضد السلطة الدينية المهيمنة فاشتعلت الحرب بين مؤيديه ومعارضيه.. وقد يَسَّر اختراع المطبعة انتشار أفكاره بسرعة وسهولة لذلك كان مارتن لوثر يَعُدُّ اختراع المطبعة هبة عظيمة من الله كما أن اكتشاف أمريكا قبل انشقاقه قد هيأ أوروبا لاستقبال المفاجآت الكبرى لأن ذلك الاكتشاف المدوي قد أحدث الكثير من الإثارة والإيقاظ فحصلت تغيرات كبيرة في الاهتمامات وفي الرؤى وفي التطلعات، والأهم من ذلك أن الأمراء الألمان كانوا يتشوقون إلى التحرر من تسلُّط الكنيسة ومن تعسف الإمبراطور الذي كان يحكم باسمها فهذا الاستعداد المسبق هو الذي جعلهم يستجيبون لمارتن لوثر ويحمونه حين أصدر البابا مرسوم الحرمان بحقه، وتبع ذلك إهدار دمه من قبل الإمبراطور الروماني المقدَّس شارل الخامس وكما يقول روبرت بالمر في الجزء الأول من كتابه (تاريخ العالم الحديث) :(إن الثورة التي هزت ألمانيا كانت ثورة كبار الأمراء الألمان على الامبراطور فلقد كان شارل الخامس باعتباره الامبراطور الروماني المقدَّس ملزَماً بدعم الكثلكة إذْ ليس للامبراطورية الرومانية معنى إلا بوجودها ضمن العالم الكاثوليكي.. وقد كانت ولايات الامبراطورية تخشى دائماً فقدان ماتتمتع به من حرية محلية فرأت في مساعي شارل للضغط على لوثر وإخماد دعوته تهديداً لحريتها بالذات ولذلك فقد أصرَّ عددٌ كبير من المدن الحرة ومعظم الدويلات في شمالي ألمانيا أن تضيف إلى حقوقها وامتيازاتها القائمة الحق أو الحرية في اختيار وتعيين الدين الذي تريده وقالت هذه الدويلات بأن حق الإصلاح أو سلطته يعود للمدن وليس من حق الامبراطور نفسه). وهكذا كانت قطاعات كثيرة وكبيرة في أوروبا متهيئة فكريًّا ونفسيا وسياسيًّا بأن تستجيب لانشقاق مارتن لوثر فصار انشقاقه مزلزلاً فاستمرت أوروبا تهتز زمناً طويلاً وانتهت أكثر من مرة إلى تسويات مؤقتة غير مستقرة تعود بعدها إلى الارتجاج النازف حتى تمخَّضَتْ عن حضارتها الاستثنائية المستقرة الباذخة.. إن التأثير الإيجابي لأية ريادة مشروطٌ بمقدار التفاعل الإيجابي الذي تناله فالاستجابة الإيجابية أهم من الريادة ذاتها ففي الاستجابة يكمن كل السرّ إيجاباً أو سلباً أما بالنسبة لريادة مارتن لوثر فقد تضافرت مجموعة من العوامل القوية المتنوعة لتجعل الانشقاق ثورة عامة عارمة طالت كل شيء ولم تقتصر على المجال المحدود الذي ركَّز عليه مارتن لوثر فلم يكن انشقاقه ناتجاً عن رؤية عميقة شاملة، ولا هو لأهداف اجتماعية أو سياسية وإنما كان انشقاقاً على الكنيسة الكاثوليكية في مسائل مذهبية محدَّدة فهو لم يكن أضعفَ تديُّناً، ولا هو أكثر تسامحاً ولا أقلَّ ضيقا بالمخالفين من كبار رجالها وإنما كان بالعكس يتأجَّج حماسة وحميَّة ورفْضاً للرأي الآخر فما تحقق لأوروبا بعده من انفتاح وتقدم في كل المجالات لم يكن ضمن تصوره ولا هو من أهدافه وكما يقول إميل فاجيه في كتابه (مدخل إلى الأدب): (كانت حركة الإصلاح الديني حركة قامت على التبني العارم لمسيحية بدائية غير ممتزجة بشيء غيرها (كانت) مسيحية صارمة لاتلين ومتعارضة تعارضاً مباشراً مع التراث الإغريقي اللاتيني، وكان النثر مشبعاً كله بالإصلاح الديني ومفعماً بالوعظ الأخلاقي). إن انشقاق مارتن لوثر لم يستهدف تحرير العقل الأوروبي بل إنه كان معادياً للفكر الفلسفي الإغريقي وللديمقراطية الإغريقية، وكانت وساوسه الأخلاقية تميل به إلى التشدد وكَتْم الأنفاس أما النتائج العظيمة التي تحققت فقد جاءت بجهودٍ أخرى خلافاً لقصده هو وعلى عكس اتجاهه.. إن تأثير مارتن لوثر المزلزل لم يكن لتسامحه ولا لنضج أفكاره، ولا لنفاذ بصيرته ولا لسعة علمه وإنما مصدر تأثيره القوي والواسع يعود إلى قوة الاستجابة الإيجابية لريادته لأن البيئة كانت متهيئة له فأدى انشقاقه إلى كَسْر تلقائية الانتظام خلف الكنيسة الكاثوليكية فخَلْخَلَ أسباب الطاعة العمياء لتعاليمها، واستنفر الناس لكي يستخدموا عقولهم فرادى وأن لايبقوا إمَّعات جماعية يرددون ماتمليه الكنيسة من غير تفكير ولا تحليل ولا تحقُّق والأهم من ذلك أن لوثر لم يكن وحده ولم يظهر في بيئة معادية للتطور ورافضة للتغيير وإنما بالعكس كان المناخ الثقافي ملائماً لظهوره بل كان متجاوزاً له فكريًّا.. لقد ظهر في بيئة متحفزة للتغيير العميق الشامل فكان هو الأكثر جرأة على نقد الكنيسة عَلَناً ومجابهتها بأخطائها، وكان الأقدر على تحديها بالمناظرة حول ماتوصَّل إليه مخالفاً لها كما أنه الأكثر صراحة في تعرية ما كانت تعيشه الكنيسة من فساد وانتهازية وما كانت تضيفه إلى الدين من أعمال وطقوس وشكليات لاتتفق مع مذهبه القائم على مبدأ التبرير الذي لايَعْتدُّ بالأعمال وإنما هو يُصَرِّح بأنه :(لايمكن للإنسان اعتماداً على حُسْن أعماله وعلى حُسْن نواياه أن يُقَدِّم أمام الله تبريراً لأفعاله )وإنما عليه أن يُخْلص العمل لله ويصْدُق الإيمان وينتظر المغفرة من الله تفضُّلاً ومنَّة وكَرَماً وليس مقابل أعماله الصالحة.. وبسبب هذا الخلاف المذهبي عارض مارتن لوثر الأعمال والطقوس التي ابتدعتها الكنيسة الكاثوليكية.. لقد كان مارتن لوثر يتأجج غيظاً مما اعتمدته الكنيسة من طقوس وتراتبات وتعقيدات تخدِّر الأتباع وتربكهم فواتته الفرصةُ ليعلن اعتراضه حين أرسلتْ الكنيسةُ الكاثولوكية واعظاً يجمع التبرعات لبناء كنيسة القديس بطرس في روما ولم يكن الواعظ يكتفي بالوعد العام الشفهي بالأجر والثواب والغفران لمن يقدمون الدعم للأعمال الخيرية كما هو شأن كل الواعظين، وإنما كان يُقَدِّم براءات مكتوبة للمتبرعين وكأن الكنيسة تتحدث باسم الله وتلتزم للناس نيابة عن الخالق سبحانه.. وقد تعارف المؤرخون على تسميتها (صكوك الغفران) فثار مارتن لوثر على هذا الهراء وأعلن أن الكنيسة تخدع الناس وأنها تَعِدُهم بما لاتملك الوفاء به وهو يؤسس ذلك على المبدأ الأساسي الذي أقام عليه مذهبه وهو مبدأ التبرير فهو يرى أن الإيمان وحده هو مصدر القبول عند الله أما الأعمال الحسنة كالصلاة وأعمال الخير فهي في مذهبه نتيجة وليست سبباً لمرضاة الله أي أن ثورة لوثر ناتجةٌ عن خلاف مذهبي وليست اعتراضاً على هذا التخريف بحد ذاته وهنا تتضاءل القيمة لكن العبرة بالنتائج وقد كانت نتائج عظيمة وممتدة في الزمان والمكان... إن مارتن لوثر كان رائداً محظوظاً بالاستجابة العامة القوية التي تحققت له فقد جاء بعد حصول يقظة عامة فهو قد واصل سلسلة الانشقاقات التي سبقته فأسهم إسهاماً أساسياً في فتح أبواب النقد العلني وأعطى القدوة بإعلان السخط وقوَّض الهالات التي أقامتها الهيئات الدينية حول ذاتها فتجرأ عليها كثيرون كما أنه حاول أن يعيد للدين بساطته ونقاءه وأنكر أكثر الأعمال والطقوس التي استحدثتها الكنيسة واجتهد في أن يقضي على احتكار الفهم وأعلن للناس أن الاتصال بالله متاحٌ لكل فرد وكما يقول عالم النفس الشهير غوستاف يونغ :(إن الهجوم العارم الذي شنته حركة الإصلاح البروتستانتية على الصور المقدَّسة خَرَقَ الهالة المحيطة بتلك الرموز فتاريخ تطور البروتستانتية هو تاريخ تحطيم الصور القائمة التي هَوَتْ واحدة بعد أخرى بعد أنْ تَمَّ النيلُ من مصداقية الكنيسة ونفوذها). إن لوثر كان متشدداً في مواقفه ومتعصبًّاً لأفكاره ومتوتراً في تعامله، وكان ضيق الأُفق ومغلق التفكير فمصدر قوته وعظيم تأثيرة ناتجٌ عن أنه قد ظَهَرَ في بيئة كانت متعطشة للتنفيس عن غليان فكري كان يضطرم في النفوس ضد الاستبداد وضد احتكار الكنيسة الكاثوليكية وفسادها وما كانت تمارسه من تسلُّط وتخريف.. إن مارتن لوثر بجرأته الاستثنائية وحماسه الملتهب وبالاستجابة القوية التي تحققت له وبالحماية السياسية التي نالها من الأمراء الألمان خاصة من حاكم سكسونيا قد مكنته من أن ينزع عن رجال الكنيسة ما كانوا يحيطون به أنفسهم من هالات، ودعا الناس إلى أن يتجهوا إلى الله مباشرة من دون واسطة وأن يقرأوا الأناجيل والعهد القديم بأنفسهم وأن لايبقوا عالة على من يدَّعون العصمة ويزعمون اختصاص التحدث باسم الله فأسهم في بزوغ النزعة الفردية في أوروبا، وبادر إلى ترجمة الإنجيل والتوراة إلى اللغة الألمانية ليتيح للألمان أن يطلعوا بأنفسهم على النصوص الدينية بلغتهم وأن يتحرروا من الاحتكار الذي كان مفروضاً على القراءة والمعرفة والفهم.. لقد كانت الكنيسة تحْظُر ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغات الأوروبية، وكانت تحصُر قراءته إلا باللغة اللاتينية فقط ما أتاح لها احتكار المعرفة، وتضخيم هالات الاختصاص فحرص لوثر على إنهاء هذا الاحتكار، وسعى لتمزيق الهالات وأسهم في كَسْر الحواجز المفتعَلة بين الخلق والخالق، ونادى بتوطين المرجعية الدينية وتعزيز اللغات الوطنية وكان ذلك إيذاناً بميلاد الحركات القومية الأوروبية المختلفة وكما يقول السير جون هامرتن :(لقد كان من نتائج القوى التي أطلقتها حركة الإصلاح الديني وحركة إحياء العلوم أنْ أخَذَتْ القوانين القومية تحل بالتدرُّج محل النظم التي كانت قائمة في العصور الوسطى)، لكن الحركات القومية الأوروبية كانت من الناحية السياسية والاجتماعية والفكرية تعتمد على الفكر الفلسفي الإغريقي خصوصاً، وعلى التراث الإغريقي عموماً فلم تكن حركات منغلقة فكريًّا بخلاف حركات التحرر القومية في العالم الإسلامي فأتاتورك مثلاً قد أخذ شكليات المفهوم وأهمل مقومات التحرر الشامل فكبَّل تركيا بشوفينية قومية مغلقة فبقيت تركيا خلال القرن العشرين تراوح مكانها في خنادق التخلف وكذلك فَعَل القوميون العرب فعطلوا مسيرة التقدم وأجهضوا الحلم العربي الذي كان يتطلع إلى الانعتاق من قبضة التخلف لأنهم توهموا أن سر التقدم يكمن في الاتجاه القومي وحده وأغفلوا مقومات الازدهار لأنهم كانوا يتحركون من دون رؤية تنموية معاصرة وغاب عنهم إدراك التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية وما صارت تتطلبه التنمية الشاملة من مقومات لم تكن معروفة في الثقافات القديمة فبقوا في حدود التفكير القومي الذي لايختلف كثيراً عن التفكير العشائري، وبرمجوا الشعوب العربية بمفاهيم شوفينية ضيقة بائسة عقيمة طاردة للتفكير العقلاني، ومعادية للتجديد المثمر ومأسورة بعقلية النضال وإعلان العداوة للغرب ولكل ماجاء منه من أفكار هي شرط الازدهار.. إن ضيق تفكير مارتن لوثر قياساً بالنتائج العظيمة التي تمخَّض عنها انشقاقه تعطينا تجسيداً حيًّاً لنظرية الفيلسوف الألماني هيجل عما يسميه (مكر التاريخ) فقد انجلى هذا الانشقاق عن نتائج باهرة لم تخطر على بال مارتن لوثر نفسه وكما يقول جفري برون في كتابه (تاريخ أوروبا الحديث):(كانت الثورة ضد الكنيسة دعوة إلى انقلاب عام في طراز حياة الناس وتفكيرهم). ونقرأ في المجلد الثاني من كتاب (تاريخ أوروبا العام) الذي كتبه فريق من المختصين بإشراف جورج ليفه ورولان موسنيه تأكيد المؤلفين بأن مارتن لوثر بلائحة الاعتراض التي علقها عام 1517 على باب كنيسة قصر ويتنبرغ قد :(تمكَّن من قلب الأوضاع في أوروبا ليمزق وبصورة نهائية العالم المسيحي اللاتيني). ويواصل المؤلفون القول :(هذه القضايا ال 95 شكلت نهاية رحلة دينية طويلة ولقد كانت موجَّهة تحديداً ضد بيع الغفران فأدَّتْ إلى إحداث ردة فعل عنيفة من قبل الطبقة الكاثوليكية وإلى إثارة حماسة شديدة عند المسيحيين الألمان ثم في سائر أنحاء أوروبا.. لقد حدث كل شيء خلال فترة تقل عن عشر سنوات ليصبح مستحيلاً الرجوع عن هذه الحركة بعد عام 1525، فمارتن لوثر لم يكن يستهدف النتائج العظيمة التي انجلتْ عنها ثورته وإنما هو قد ثار ضد بيع الغفران وضد الطقوس التي ابتدعتها الكنيسة الكاثوليكية ولكن المجتمع الألماني وبعض المجتمعات الأوروبية كانت جاهزة ومتحفزة لاستثمار الانشقاق بتوسيع المطالب ورفع سقف الطموحات وتوطيد الحريات، وإعادة تكوين الثقافة بمكوِّنات جديدة وعناصر مغايرة..