يجدُر بنا تحليل هذه الشخصية التي استعمرت العالم بعملتها وجعلت كل الدول الأوروبية تحت سيادتها الاقتصادية، هذا الاستعمار ما هو إلا صورة للاستعمار غير المُستبد، إنه الانتصار الذكي الذي لم يلجأ لإراقة دماء أو تهجير شعوب.. على مر التاريخ لاقت المرأة أثناء مراحل نموها في الحياة نماذج كثيرة من الخصوم والمغفلين والضحايا، وقد أشار المفكر غرين في إحدى إستراتيجياته لتحدي ظروف الحياة قائلاً: إن أعلى شكل من فن السلطة هو القدرة على التمييز بين الذئاب والحملان والثعالب والأرانب والصقور ونسور الجيف، فإن أجدت التمييز بين هؤلاء فإنك ستنجح. إن بعض الطموحين ممن ذهبت طموحاتهم أدراج الرياح كانوا يتعاملون أمام هؤلاء الخصوم بطريقة عمياء؛ نتيجة لتراكم التجارب المأساوية لديهم لدرجة الوصول لأعلى درجات اللا مبالاة حتى يصل لمرحلة عدم الاكتراث بالعيش أساساً، ويوجد هناك طموحون على الرغم من تكالب الخصوم بطريقة بهائمية بعيدة عن الإنسانية إلا أنهم يستطيعون تمييز أنواعهم؛ حتى يتم التعامل معهم كلاً حسب مزاجه، رغم أن التمييز قد يستغرق وقتاً طويلاً والتعامل كذلك قد تكون كُلفته باهظة الثمن على حساب الشخص الطموح، فهذا لوحده لا يكفي! يتوجب عليك أن تكون محايداً تجاههم، فالحياد يقود نحو الاستقلالية والاستقلالية تقودك نحو الحرية ثم من خلال الحرية تصنع سُلطة، والتاريخ لم يترك لنا سوى النماذج التي نستقي منها الدروس كما نستقي مرارة الواقع عندما نرتطم مع أُناس أُحيطت أدمغتهم بكومة من الجهل ليمارسوا دور الوصي على حياة الآخرين سواء ذكر أو أنثى. فعلى سبيل المثال: هناك شابة متحمسة وصلت لسدة حكم إمبراطورية النمسا وهي لم تتجاوز الثالثة والعشرين عاماً، حكمت من العام 1740 - 1780م عندما ورثت العرش عن والدها لتصبح أول امرأة من آل هابسبيرغ تدير مقاليد الحكم، وقد توجت جهودها بألقاب عدة، مثل: إمبراطورة رومانية المقدسة، ملكة المجر، بوهميا، كرواتيا، أرشيدوقة النمسا، دوقة بارما وبياسنزا، دوقة عظمى لتوسكانيا، وعندما تولت زمام السُلطة عزمت على تقوية الإمبراطورية اقتصادياً وشعرت أنه لا بد من تمكين الشعب النمساوي حقه من التعليم؛ حتى ينهض اقتصاد الإمبراطورية ومن ثم ينعكس على سياستها الخارجية، وفي طريقها لذلك اكتشفت أن أولى خصومها داخل حدود الإمبراطورية هي الكنيسة. حيث وجدت أمامها شعباً غالبيته عقولهم نائمة، وكنيسة تزداد ثراءً بسرعة مذهلة عن طريق بيع صكوك الغفران على الشعب بحجة دخول الجنة وصكوك أخرى لمداواة المرضى، وأخرى لجلب الرزق، وتتعدد ميزة صكوك الغفران كلما دفعت أكثر للبابا، فضلاً على أن الكنيسة غزت الفكر فهي سيطرت على التعليم لذلك كثُر من يُدين بولائه الأعلى للكنيسة لا للدولة. ومن ناحية أخرى شعرت الملكة أن هناك تعطيلاً لمسيرة النمو والازدهار من خلال حث الكنيسة على رهبنة الشابات وهن بمقتبل العمر، الأمر الذي جعلها تشعر أيضاً أن هذه الكنيسة ما هي إلا دولة داخل دولتها! شعب مُخدّر لا ينمو ولا يزدهر، سُلطة أقوى من سُلطتها داخل الإمبراطورية، الأمر خطير إذن! ففكرت أن تستعين ببعض الإصلاحات المهمة، وبدأت بحظر وجود الكنسيين عند كتابة الوصايا وأنقصت عدد المؤسسات الدينية، وعلى الرغم أنها كانت حريصة على مذهبها الكاثوليكي، إلا أنها لم تسمح للكنيسة أن تتدخل في شؤونها السياسية والإصلاحية، وحرّمت الرهبنة للشابات قبل سن الحادية والعشرين، وأمرت بألا يعترف بأي منشور بابوي في المملكة النمساوية قبل أن يحصل على تصديق الإمبراطورة، وأُعيد تنظيم التعليم تحت إدارة عُلماء لا يؤمنون سوى بإعمار الوطن، وروجت للمناهج العلمية واهتمت بالتاريخ اهتماماً بالغاً حيث روجت لنقد التاريخ ليتقبله العامة من الشعب، فالتاريخ هو رياضيات العلوم الإنسانية بلا مُنازع فهو يُحرك العقل والفِكر، كما تُحرك المعادلات الحسابية العقل. وكون الملكة لجأت للتاريخ فهو دليل على شدة ذكائها، أما وقوفها أمام ابتداع الكنيسة، فهو بطولة وشجاعة وقوة! أما على الصعيد الخارجي من خصومها، لم تكن أمامها ببادئ الأمر سوى الإمبراطورية العثمانية لتتنافس معها، ثم برُز الاستعمار الفرنسي والبريطاني ببدايته، حيث أيقنت الملكة أنها مُحاطة بدول قد تهدد من سُلطتها ونفوذها، وفي أثناء انغماس الفرنسيين والبريطانيين بالتوغل في إفريقيا وآسيا، كثفت من جهودها الاقتصادية «بصمت» حتى بلغت الإمبراطورية النمساوية أوج اقتصادها وكانت تتداول عملتها في ثلاث قارات حتى في يد العرب الذين تحت نفوذ الدولة العثمانية، ومن الطريف أن بعض العرب تداولوا عملتها ودخلت صورتها في غالبية بيوتهم ومخابئهم دون أن يعلموا أن هذه الشابة هي التي تُسيطر على اقتصاد أوروبا والعالم العربي ردحاً من الزمن! والأهم من هذا كله أن عملتها هي أول عملة استخدمت بالولايات المتحدة الأميركية وربما ساهمت مع الدولار الإسباني لترشيح الدولار الأميركي ليكون العملة الرئيسية للولايات المتحدة. والجدير بالذكر أنه من الطبيعي حينما يموت حاكم ما يتوقف التعامل بالعملة السائدة خلال فترة حكمه بيد أن الملكة «ماريا» عندما توفيت عام 1780م، ازداد الطلب على عملتها بوتيرة متسارعة في كل من الجزيرة العربية وأثيوبيا، إلى الحد الذي جعل ابنها ووريث عرشها جوزيف يوافق على إعادة صك العملة مع الإبقاء على تاريخ إصدارها وهو عام 1780م. ويجدُر بنا تحليل هذه الشخصية التي استعمرت العالم بعملتها وجعلت كل الدول الأوروبية تحت سيادتها الاقتصادية، هذا الاستعمار ما هو إلا صورة للاستعمار غير المُستبد، إنه الانتصار الذكي الذي لم يلجأ لإراقة دماء أو تهجير شعوب، مثلما فعله الاستعمار الإسباني والفرنسي والبريطاني والإيطالي، وللتاريخ ماريا تيريزا حافظت على وجودها ورسمت لنفسها البقاء والخلود عن طريق معرفة تصنيفات خصومها من الداخل بدءاً بالكنيسة، إلى الخارج وهم الدول المستعمرة ثم اختارت الحياد والاستقلال برأيها داخل حدود الإمبراطورية وأخفت تعصبها الكاثوليكي، لتُعمر بلادها لأنها تعلم جيداً أن انتعاش الاقتصاد يبدأ حيث ينتهي الجهل لدى الشعب، فلا تبعية إلا للرب في السماء ثم لتُراب الوطن!. Your browser does not support the video tag.