Vincent Petit. Les Continentales - Lettres sur la Constitution Politique de L' Europe. الأوروبيات - رسائل حول التكوين السياسي لأوروبا. L' Harmattan, Paris. 2001. 156 Pages. ينطلق مشروع التكوين السياسي لأوروبا المتحدة من مفارقة كبيرة. فأكثر ما يميز أوروبا كقارة أنها أخذت زمام المبادرة التاريخية، دون سائر قارات العالم القديم، الى اختراع القومية والدولة القومية. وقد جاهدت أوروبا على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين لتعيد تشكيل العالم على صورتها ومثالها، أي لتحويله من عالم امبراطوريات ما فوق قومية، ومن عالم امارات ما دون قومية، الى عالم من الدول القومية. وبقدر ما ان جدلية الفكرة القومية تنطلق بمبدأين: الجمع والفرق، فلنقل ان القرن التاسع عشر هيمنت عليه اجمالاً جدلية الضم والاتحاد توحيد الامارات الالمانية والممالك الايطالية، بينما هيمنت على القرن العشرين جدلية الانفصال والتجزئة تفكيك الامبراطورية العثمانية والامبراطورية النمسوية - المجرية في النصف الأول من القرن، ثم تفكيك الامبراطورية السوفياتية والاتحاد اليوغوسلافي، وحتى الاتحاد التشيكي - السلوفاكي، في النصف الثاني من القرن. ولكن في الوقت الذي بدت فيه الفكرة القومية وكأنها تحقق انتصارها الكبير مع انهيار الامبراطورية السوفياتية في العقد الأخير من القرن العشرين وانبثاق اكثر من عشر دول قومية جديدة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، دخلت القارة الأوروبية، التي كانت بمثابة الحاضنة والقابلة معاً للفكرة القومية، في سيرورة تاريخية معاكسة، سعياً الى توحيد الدول القومية الأوروبية في كيان سياسي جديد ما فوق قومي يقترح بعضهم تسميته من الآن ب"اتحاد الولايات الأوروبية". مفارقة هذا التحول، بل هذا الانقلاب الجيوبوليتيكي الكبير، يمكن اختصارها في صيغة واحدة: فمن قبل كان المطلب المطابقة بين الدولة والأمة، ومن بعد غدا المطلب الفصل بين الدولة والأمة. والحال انه عندما تكف الدولة عن تكون متطابقة مع الأمة. وعندما تعود عدة أمم الى الاجتماع في ظل دولة واحدة، فهذا معناه حدوث انفصال بين القومية والمواطنة. فالقومية ستظل فرنسية أو المانية أو بولونية أو ايطالية، ولكن المواطنة لن تكون من الآن فصاعداً إلا أوروبية. فأوروبا أكثر تنوعاً من أن تغدو ذات يوم أمة واحدة، ولكن المواطنة الواحدة هي التي ستضمن المساواة بين أممها المتعددة. وبهذا المعنى فإن المواطنة الأوروبية لن تكون إلا سياسية خالصة من دون احالة الى أي شكل تقليدي من أشكال الانتماء في اطار الهوية القومية. فالمواطنة الأوروبية لن تحيل الى لغة أو ثقافة أو ذاكرة قومية خاصة، ولن تكرس من انتماء آخر سوى الانتماء السياسي. فجميع الأوروبيين سيتمتعون بحقوق سياسية واحدة أياً تكن هوياتهم القومية. وعليه فإن المواطنة الأوروبية ستكون بالضرورة مواطنة ديموقراطية. فهي ستضمن للأوروبيين المساواة بقدر ما ان القومية تصون لهم تعدديتهم. فالمواطنة، بهذا المضمون الديموقراطي الجذري، ستكون عامل الوحدة في التنوع. لكن هذه الوحدة - وهذا تطور ديموقراطي جذري آخر - لن تكون من الآن فصاعداً الا اتحادية، وبالتالي من طبيعة لامركزية. وبالفعل، ان المركزية - بل المركزية المشتطة - هي من نتاج الدولة القومية ومن نتاج التطابق المحكم ما بين القومية والمواطنة. فالدولة المركزية، بنموذجها اليعقوبي الذي فرزته الثورة الفرنسية، ما كانت تضمن المساواة لمواطنيها الا بقدر ما يتجردون عن انتماءاتهم الخصوصية ويتعالون على هوياتهم الجزئية التي قد تتحدد بعوامل الدين أو الاقليم أو الأصل العرقي أو اللغة المحلية. لكن المواطنة الأوروبية، المحكمة بالمنطق الاتحادي اللامركزي، لن تطالب الأوروبيين بالتخلي عن هوياتهم القومية، سواء منها الكلية أو الجزئية. فالفرنسي مثلاً سيكون أوروبياً بالمواطنة، لكنه سبقى فرنسياً بالهوية القومية. واذا كان فوق ذلك من الذين ينتمون الى مقاطعة لها خصوصيتها الاثنية أو اللغوية مثل الالزاس أو كورسيكا، فإنه سبقى فرنسياً الزاسياً أو فرنسياً كورسيكياً. ونظراً الى التعدد الذي لا يتطابق دوماً مع التوزيع العددي للدول القومية القائمة حالياً في أوروبا، فإن "اتحاد الولاياتالمتحدة الأوروبية" من شأنه ان يوجد بصورة شبه ميكانيكية حلاً لمسألة الاقليات القومية في أوروبا، أي الأقليات التي لا تتمتع بوجود قومي سياسي خاص بها، وتعيش بالتالي في اطار دول قومية غير مطابقة، وذلك يصدق بوجه خاص على الباسكيين والقطالونيين في اسبانيا، وعلى الكورسيكيين في فرنسا، وعلى الساردينيين في ايطاليا، وعلى السوديتيين الالمان في المجر، وعلى الألبانيين الكوسوفيين في صربيا، وعلى المجريين في رومانيا، وعلى الأتراك في بلغاريا، وعلى الأكراد في تركيا. فالحركات الاستقلالية أو "الانفصالية" لهذه الأقليات القومية ستفقد معناها بقدر ان المواطنة الأوروبية ستضمن لها المساواة السياسية والحفاظ على تفردها القومي في آن معاً. ولكن ذلك مشروط في التحليل الأخير بالطبيعة الاتحادية لأوروبا الغد. فالاتحاد الأوروبي ينبغي ان يكون اتحاداً بين الامم الأوروبية، لا بين الدول. وبعبارة أخرى، لا اتحاداً كونفيديرالياً. ولقد كان رائد فكرة الوحدة الأوروبية، جان مونيه، قد قال بالفعل ان "المطلوب هو جمع الشعوب، لا تحالف الدول". ولهذا أصلاً ينتصر مؤلف هذا الكتاب بقوة لفكرة "أوروبا الأمم" لا "أوروبا الدول". فالاتحاد الكونفيديرالي لن يكون إلا اتحاداً بين دول تحافظ كل منها على استقلالية قرارها. أما الاتحاد الفيديرالي فهو الشكل الأنسب للامم التي تريد ان تتحد فعلياً، لأنه في اطار البنية الفيديرالية وحدها تضطر الدولة الى ان تتنازل أمام سلطة أعلى منها، هي السلطة ما فوق القومية. وبهذا فإن الاتحاد الفيديرالي هو وحده الذي يضمن أكبر قدر ممكن من الديموقراطية واللامركزية معاً. وتبقى بعد ذلك امام الاتحاد الأوروبي اشكاليتان كبيرتان: إشكالية الدين وإشكالية اللغة. فلا مراء، من منظور الدين، ان أوروبا، كقارة، تنتمي الى الجناح المسيحي من الحضارة البشرية. لكن أوروبا المتحدة، التي ستضم نحواً من 500 مليون من البشر، ستجد نفسها موزعة بين مذاهب لاهوتية ثلاثة كبرى: الكاثوليكية والبروتستانتية والأوروثوذكسية. بالإضافة الى ذلك فإن الاتحاد الأوروبي سيضم بضعة ملايين من اليهود، وبضعة عشر مليوناً من المسلمين، سواء أمن الأوروبيين الأصليين مسلمي البلقان أم من المهاجرين مغاربة فرنسا، وأتراك المانيا، وباكستانيي انكلترا، ويضاف اليهم 64 مليوناً من الاتراك والأكراد متى ما استكملت تركيا شروط الانضمام الى الاتحاد. والحال ان السبيل الوحيد لتسيير مثل هذه "الخلطة" الدينية الكبيرة هي العلمانية. والحال ايضاً ان عدة من الدول الأوروبية لم تستكمل بعد سيرورة تحررها العلماني. ولكنها متى ما دخلت في سيرورة الاتحاد الشامل - وليس فقط الاقتصادي - فإنه لن يكون أمامها مناص من ان تأخذ جميعها بالنهج العلماني، بل حتى بذلك الشكل الموصوف من قبل بعض المترددين اليوم بأن الشكل "المتطرف" و"العدواني" من العلمانية: العلمانية الفرنسية. وفي المقابل، فإن تعددية أوروبا اللغوية تبدو اكثر استعصاء على الحل من تعدديتها الدينية. فشعوب أوروبا تنطق بنحو أربعين لغة. ولا شك ان الحفاظ على تعدد اللغات هذا سيكون "ضمانة للحرية في أوروبا" كما يقول المؤلف، ولكن أوروبا ايضاً بحاجة الى ان تتفاهم. وليس من سبيل الى التفاهم سوى وحدة اللغة. فما الحل؟ انه في نظر المؤلف واحد من اثنين: إما تعميم الثنائية اللغوية بحيث يغدو تعليم لغة ثانية الزامياً في جميع مدارس أوروبا ابتداء من المرحلة الابتدائية. وفي هذه الحال تعطى الأولوية في تعليم اللغة الثانية للغات الأمم الأوروبية الكبيرة: الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والايطالية. واما تعميم اللغة الانكليزية بوصفها اليوم، عملياً، اللغة الأكثر عالمية في العالم. لكن مؤلفنا لا يبدي تحمساً لمثل هذا الحل، لأن الانكليزية المعاصرة في نظره هي في الواقع "انكلو - اميركية"، ومن شأن تعميمها ان يخرج أوروبا عن مدارها الأوروبي ليدخلها في المدار الاطلسي، وليطعي إمرة القيادة فيها لبريطانيا التي ما زالت مترددة الى اليوم بين هويتها الأوروبية وهويتها الاطلسية. وإزاء مثل هذا المأزق اللغوي فإن المرء لا يمكن الا ان يتساءل: أليس ثمة مجال للتفكير في تطبيق نوع من "علمانية لغوية"؟ ففي نهاية القرن التاسع عشر كان الطبيب الليتواني لودفيغ زامنهوف قد شرع باختراع لغة اصطناعية دولية أسماها "لغة الأمل" الاسبرنتو. واذا كانت أوروبا لا تريد ان "تتأمرك"، وإذا كانت تحرص في الوقت نفسه على عدم الوقوع في فخ الشوفينية اللغوية من جراء فرض لغات الامم الأوروبية الكبيرة على الامم الصغيرة، أفلا يكون مبرراً اعادة التفكير بمشروع الاسبرنتو، لغة أمل وحدة البشرية، وليس وحدة أوروبا وحدها؟