Paolo Raffone. L'italie en Marche مسار ايطاليا . Le Monde, Paris. 1998. 255 Pages. لا يخلو التكوين القومي التاريخي لايطاليا من مفارقة. فإيطاليا من ناحية اولى اعرق من اعرق امة في اوروبا. فبالمقارنة مع فرنسا، التي يعود بدء تكوينها القومي الى مطلع التاريخ الميلادي، فان ايطاليا تضرب جذورها في عمق ثلاثة آلاف سنة الى الوراء. ولئن تكن الألف سنة الاولى من تاريخ فرنسا مغلفة بالهمجية، فقد عرفت ايطاليا في تاريخها القديم لحظتي مجد كبيرتين: مرة اولى في ظل الامبراطورية الرومانية التي اشتقت اسمها من اسم عاصمتها روما، ومرة ثانية عندما تنصر قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، فغدت روما العاصمة الاولى والدائمة للمسيحية الغربية. ولكن ايطاليا، وبالمقارنة دوماً مع فرنسا التي هي حسب تعبير حنة آرنت الأمة الاكثر نجازاً في العالم، هي الامة الاقل نجازاً بين سائر امم الحداثة في اوروبا. فعلى حين ان الدولة في فرنسا شرعت ببناء الامة الفرنسية منذ مطلع القرن الثالث عشر فان ايطاليا بقيت تجهل تقلب الدولة المركزية الى القرن التاسع عشر، ولم تستكمل بناء وحدتها القومية الا في السبعينات من القرن الماضي. والواقع ان ضعف الدولة في ايطاليا هو ثابتة دائمة في تاريخها الحديث، وهو ما يفسر الى حد بعيد كونها، بألف ولام التعريف، "بلد الأزمات". فالوحدة الايطالية نفسها، فضلاً عن تأخر مخاضها، ولدت مأزومة. فحركة التوحيد القومي، التي انطلقت من مقاطعة البييمونت وبدعم من البورجوازية التجارية، استطاعات بسهولة وسرعة 1859 - 1861 ان توحّد دول الشمال الايطالي، ولكن الجنوب ما مكن ضمنه الا بقوة السلاح. وقد ظلت عصابات "قطّاع الطرق" المدعومة من قبل الكنيسة والارستقراطية العقارية، تجابه السلطة المركزية الوليدة بحرب انصار حقيقية على مدى عقد بكامله. ورغم نجاح "البييمونتي" كافور في قمع المقاومة وفي اعلان قيام "مملكة ايطاليا" على عموم اراضي الجزمة الايطالية، فانه لم يفلح، لا هو ولا من جاء بعده في الحؤول دون تكوين اسطورة "الجنوب" الذي كان حراً وسعيداً قبل الهيمنة البييمونية وفي الرواج الشعبي لصورة "البطل - قاطع الطريق" المقاوم للسلطة المركزية والمتمرد على إكراهاتها، لا سيما منها ما يتصل بالضريبة والخدمة العسكرية الاجبارية. وبمعنى من المعاني يمكن القول ان كافور فشل في ما نجح فيه، فلئن يكن هو القائل: "لقد صنعنا ايطاليا، وعلينا الآن ان نصنع الايطاليين"، فلا شك ان الشق الثاني من برنامجه لم يتوّج بنفس النجاح الذي توّج به شقّه الاول. وقد حاول النظام الفاشي في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين ان يتدارك هذا النقص في الوجدان الوحدوي الايطالي من خلال التغني بفكرة الدولة القوية وعن طريق شحذ الحسّ القومي بحرب من نمط كولونيالي في الحبشة وبتدخلات من نمط امبريال في البلقان والبحر المتوسط، ولكن الفشل النهائي للفاشية ومجانية العنف الذي مارسته والشكل الكاريكاتوري الذي تلبسه الايديولوجيا القومية الايطالية منذ صعود نجم النازية وظهور علامات الخرع العقلي على ذلك الند لهتلر الذي اراد موسوليني ان يكونه، ناهيك عن ذل الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، كل ذلك أفقد فكرة الدولة القوية حظوتها في نظر "الشعوب الايطالية" - والتعبير ليس لنا بل لمؤلف هذا الكتاب عن "مسار ايطاليا" - وجعل الجمعية التأسيسية التي صاغت عام 1947 الدستور الجديد للجمهورية الايطالية تنبذ الموروث السلطوي والمركزي النزعة للحقبة الفاشية وتمنح قدراً كبيراً من السلطات للمناطق المتطابقة حدودها الادارية مع الحدود السياسية للدويلات السابقة، وتقلصت في الوقت نفسه الى ابعد ممكن سلطة رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية مقابل تعزيز مفرط لسلطات البرلمان. فلئن اختارت ايطاليا ان تكون جمهورية برلمانية في المقام الاول، فهذا معناه انها اختارت ان تكون جمهورية احزاب. وهنا نضع اصبعنا على عامل اضافي في ضعف الدولة وضمور الحس الوحدوي في ايطاليا الحديثة. فعقب الحرب العالمية الثانية انقسم الايطاليون انقساماً حاداً ما بين انصار الحزب الديموقراطي المسيحي وانصار الحزب الشيوعي. ومن ثم اخلى حسّ المواطنة مكانه للانتماء الحزبي المتفارق، مما احدث صدعاً عميقاً في الهوية القومية. ولئن تكن الديموقراطية المسيحية حكمت ايطاليا مدة نصف قرن بكامله، فذلك لا لكفاءة قومية، بل فقط لاستبعاد الحزب الشيوعي، الذي كان اقوى حزب شيوعي في اوروبا الغربية، من السلطة . وبما ان الحزب الديموقراطي المسيحي ما كان يتمتع بغالبية برلمانية مطلقة، فقد اضطر الى التحالف التكتيكي مع احزاب الوسط واليسار المعتدل، مما جعل الغالبيات الحاكمة تتشكل وينفرط عقدها بإيقاع هو الاسرع من نوعه في الديموقراطيات الغربية. فقد تعاقبت على ايطاليا في مدى اربعة واربعين عاماً ثماني واربعون حكومة، بمعدل حكومة واحدة كل عشرة اشهر، وهذا بدون حساب الفترات التي كانت تظل فيها ايطاليا بين وزارتين بلا حكومة. وعدم الاستقرار الحكومي هذا، الذي جعل المراقبين يلقبون الجمهورية الايطالية ب "الديموقراطية المشلولة"، أفقد الطبقة السياسية الايطالية اعتبارها في نظر الايطاليين، ولا سيما بعد ان انفجرت، اعتباراً من مطلع التسعينات، سلسلة من فضائح الرشوة والفساد طالت، فيمن طالت، جيوليو اندريوتي، زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي، وبتينو كراكسي، زعيم الحزب الاشتراكي، الذي اضطر الى اللجوء الى تونس حيث لا يطوله القانون. والخطير في هذه الفضائح المالية ارتباطها بالظاهرة المافياوية. والحال انه ان تكن المافيا آفة ايطالية "قحة"، فهي نتيجة وعلّة معاً لضعف تقليد الدولة في شبه الجزيرة الايطالية، وقد كان اول ظهور لها في نابولي عاصمة الجنوب عام 1800 كأداة في يد الارستقراطية العقارية لمكافحة البورجوازية الليبيرالية. وفي جزيرة صقلية كانت المافيا على الدوام - ولعلها لا تزال - اقوى من الدولة. والواقع ان المافيا قابلة للتعريف بأنها الشكل التنظيمي لتلاقي السلطة السياسية مع العنف الاجرامي. ولقد كشفت اعترافات "التائبين" في السنوات الاخيرة، ان اكبر حزبين حاكمين في ايطاليا، وهما الديموقراطي المسيحي والاشتراكي، كانا هما الاكثر تعاوناً مع المنظمات المافياوية. وهذا التداخل ما بين السياسة والاجرام هو ما يفسر ان تكون ظاهرة القضاة، الذين تصدوا لمطاردة "العرابين" في قاع الوسط الاجرامي كما في قمة الهرم السياسي، قد اخذت في ايطاليا بعداً قومياً، وان يكون قد انعقد اجماع المعلقين السياسيين على توصيفي عقد التسعينات بأنه عقد الانتقال في ايطاليا من "ديموقراطية الاحزاب" الى "ديموقراطية القضاة". وبالفعل ان اكثر ما يلفت النظر في تطور المسار السياسي لايطاليا بدءاً من التسعينات هو ظاهرة تفكك جميع الاحزاب التي تحكمت بمقادير الايطاليين خلال نصف القرن الذي تلى الحرب العالمية الثانية. وفي مقدمة هذه الاحزاب التي آلت الى انحلال الحزب الديموقراطي المسيحي الذي فقد وظيفته الايديولوجية ومركزيته في الحياة السياسية الايطالية منذ سقوط جدار برلين وانتفاء الحاجة، بالتالي، الى اقامة سد حاجز امام قوى اليسار. ولئن يكن الحزب الذي خلف الحزب الديموقراطي المسيحي قد حمل اسم "الحزب الشعبي الايطالي" فهذا معناه ان المرجعية الدينية لم تعد مجدية سياسياً في نهاية القرن هذه، بل ان الكاثوليكية السياسية نفسها لم تعد ذات موضوع منذ ان اطلقت الكنيسة الايطالية لأتباعها حرية الاقتراع واعلنت منذ منتصف التسعينات عن تمسكها بمبدأ الحياد في السياسة. اما الحزب الكبير الثاني الذي آل الى انحلال بعد الديموقراطية المسيحية فهو الحزب الشيوعي الذي أعاد تنظيم نفسه عام 1991 تحت اسم "حزب اليسار الديموقراطي"، ثم ما لبث بدوره ان انقسم على نفسه لينشق عنه "حزب اعادة التأسيس الشيوعي" الذي بقي متمسكاً، كما يدل اسمه، بالمرجعية الماركسية. وبطبيعة الحال لم ينجُ من هذا المصير لا الحزب الاشتراكي ولا الحزب الفاشي الجديد. فمحل هذا الاخير حلّ "الائتلاف القومي" بينما اعلن الاول عن حلّ نفسه رسمياً عام 1992. ومقابل هذه الاحزاب الاخرى التي انحلّت او اعادت تكوين نفسها رأت النور ثلاثة احزاب جديدة: رابطة الشمال ذات المنزع القومي الشمالي الانفصالي، والحزب الشخصي لرجل الاعلام الايطالي سلفيو بيرلوسكوني "الى الامام يا ايطاليا" الذي كان سطوع نجمه - كخبوه - صاعقاً، واخيراً حزب "الزيتون" الذي لا يريد نفسه، كما يدل اسمه الفولكلوري حزباً سياسياً بقدر ما يريد ان يكون "حركة مواطنين" من يسار الوسط. يبقى ان نقول ان ازمة الاحزاب هذه، التي تودع بها ايطاليا قرناً وتستقبل قرناً، قابلة لتأويلين. فالمتشائمون من المستقبل السياسي لإيطاليا يقولون انها عود على بدء للديموقراطية المشلولة. والمتفائلون يؤكدون، على العكس، انها علامة على بلوغ الايطاليين سن الرشد السياسي: فمن "دولة الاحزاب"، وعبر "جمهورية القضاة" هم قيد الانتقال اليوم الى "ديموقراطية المواطنين".