تلاشت مشاهد الاستقبال الكبير والاحتفالي الذي أعدته الأحزاب الكردية في شمال العراق كردستان لأول حاكم أميركي للعراق، الجنرال جاي غارنر، وحلت محل تلك المجاملات، التي بلغت حداً جعل جلال الطالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني يقترح على غارنر الإقامة الدائمة في "بلده الثاني" كردستان حين يبلغ السن التقاعدي، حالة من الجفاء والحذر والانسحاب من الميدان شبيهة كثيراً بحالة المقاطعة غير المعلنة للحاكم المدني الأميركي الجديد وخليفة غارنر بول بريمر. فما الذي حدث ويحدث في حقيقة الأمر؟ وهل هناك مشكلة أو أزمة عميقة في العلاقة بين الجانبين، دفعت بشهر العسل الكردي - الأميركي إلى نهايته القاتمة؟ أم إن الأمر لا يعدو كونه حالة عابرة من سوء الفهم بين حلفاء طريق طويل ؟ لقد راهنت الأحزاب الكردية مبكراً، وبعد تردد لم يدم طويلاً، على المشروع الأميركي للتغيير في العراق من طريق الحرب، وقد بذلت تلك الأحزاب يتعلق الأمر في الحقيقة بحزبين كبيرين هما الاتحاد الوطني والديموقراطي، تلتف حولهما مجموعة متنوعة من الأحزاب الحليفة الصغيرة جهوداً كبيرة لتأكيد عمق تحالفها مع الإدارة الأميركية واندراجها في مشروعها الاستراتيجي. وفهمت القوى الكردية مبكراً جداً أن وزنها السياسي إقليمياً لم يعد يعتد به لأسباب كثيرة منها: التحالفات الهشة والمتشابكة التي عقدتها مع جميع الدول الإقليمية، إضافة إلى انها لم تكف قط عن التفاوض السري وشبه السري حتى مع نظام صدام حسين ولفترة قصيرة قبل سقوطه، ما جعلها تعاني من حالة مستمرة من تآكل وزنها السياسي على الأرض ترافقت مع تحولها إلى طرف مستهدف من حلفاء الأمس الإقليميين بعد احتلال بغداد، وليس لها من مظلة تحتمي بها في الوقت الحاضر غير تلك التي يتأبطها بريمر. ولعبت التصريحات والوعود الأميركية السخية نحو الأكراد وطموحاتهم وحقوقهم في فترة ما قبل الحرب دوراً فاعلاً في تسريع قيام تحالف مهم وراسخ بين الطرفين. ومعروف أن تلك التصريحات الأميركية السخية، وخصوصاً تلك التي ترددت أصداؤها في ردهات "مؤتمر لندن" للمعارضة العراقية والمؤتمرات والاجتماعات السياسية التي تلته، لم تقفز، أميركياً، على الخط الأحمر الإقليمي والمتمثل برفض فرض نظام الحكم الاتحادي الفيديرالي في العراق من طرف واحد ومن دون استفتاء شعبي يقره أو لا يقره. ويبدو ان علينا أن نضع يدنا على هذا العنصر من عناصر الدفع باتجاه حالة الأزمة الراهنة ولكنه لن يكون العنصر الأهم أو الأوحد. غير أن الأحزاب الكردية استمرت في تعاونها وتعاملها الإيجابي مع الإدارة الأميركية وممثلها الجديد في بغداد، ونفذت ما أنيط بها من مهمات أمنية وسياسية كثيرة على رغم العديد من الثغرات والانتكاسات، على غرار عمليات طرد العراقيين من أصول عربية من مدن وقرى عدة في المناطق الشمالية أو تلك المحاذية للمناطق ذات الغلبة الديموغرافية الكردية. ثم جاءت الانتكاسة الأكبر في العلاقات بين الجانبين حين طوى بريمر وعود ومخططات غارنر وزلماي خليل زاده بإقامة حكومة عراقية موقتة وانتقالية، وسحب البساط من تحت أقدام الجميع في الحالة السياسية العراقية التي تشكلت بعد سقوط بغداد ليقدم لهم بديلاً منه نسخة غامضة من "مجلس عراقي للمستشارين". وتزامن ذلك مع استصدار الولاياتالمتحدة قراراً جديداً من الأممالمتحدة تقر فيه بأنها قوة احتلال في العراق وتتحمل مسؤوليات الدولة المحتلة، ولكن أيضاً تتمتع بحقوقها كطرف منتصر. إلى هنا والمصيبة عامة كما يقال وليست خاصة بالأكراد فقط، ولكن لماذا بادرت الأطراف الكردية إلى الانسحاب السريع والمفاجئ واختفت من الساحة اختفاء شبه تام؟ هل هناك مخاوف أخرى تمليها الحالة الجيوسياسية على الأرض وتصاعد العمليات العسكرية التي تستهدف القوات الأميركية؟ أم هي حركة استباقية اضطرت إليها الأحزاب الكردية تحسباً لما قد يلجأ إليه بريمر في حالة حدوث انهيار شامل أو تمرد شعبي واسع في المناطق الكردية؟ يمكن النظر بواقعية إلى هذا الاحتمال في ضوء بوادر وإشارات كثيرة على حدوث ذلك التمرد الشعبي. فمنذ فترة ليست بالقصيرة تعاني المناطق التي تسيطر عليها الأحزاب الكردية في الإقليم من مشكلات أمنية كثيرة اضطر معها بعض المسؤولين الكبار للتدخل في محاولة لوضع حد لحالة الانفلات، كما حدث حين تدخل جلال الطالباني علناً وعبر أجهزة الإعلام وطالب أجهزته بمنع تحول مدينة السليمانية التي تسيطر عليها، إلى قاعدة وتجمع ضخم للسيارات والآليات المسروقة من شتى أنحاء العراق. وهناك أيضاً أزمة سيولة مالية تعاني منها المؤسسات الرسمية، منعتها من صرف مرتبات العمال والموظفين لأشهر عدة، اضافة الى كساد تجاري متفاقم. ولكن ما الذي يمكن أن يلجأ إليه بريمر من بدائل في حال إصراره على اعتماد خيار الحكم المباشر للعراق ورفض مشاركة الطبقة السياسية العراقية عموماً، والكردية خصوصاً وهي التي احتفظت حتى الآن بعلاقات ودية مع الإدارة الأميركية الحالية؟ هل يداخل الأحزاب الكردية شعور بالقلق من لجوء الحاكم الأميركي الى رفع السوط التركي في وجه أية حالة رفض أو تمرد على مشروع الاحتلال والحكم المباشر؟ هذه كلها أسئلة تستشرف آفاق الحالة الراهنة للعلاقات بين الإدارة الأميركية وحلفائها العراقيين في ما كان يسمى قبل الاحتلال "المعارضة العراقية" عموماً وبالأحزاب الكردية العراقية تحديداً. لقد مَثَّلَ جاي غارنر مرحلة أولية لها ظروفها الخاصة لتأسيس شكل من أشكال إدارة الأوضاع العراقية لفترة ما بعد سقوط بغداد، ولهذا كان خطابه وحركته السياسية اليومية وطبيعة علاقاته محكومة بتلك الظروف الخاصة التي اتسمت بالانفلات الشامل والفوضى المعممة. إذا كان غارنر يُمني العراقيين بحكم "وطني" خلال بضعة أسابيع صارت قبل رحيله بقليل بضعة أشهر، فإن الحالة العامة ومع انقضاء أسبوعين على قدوم بريمر انقلبت إلى شيء آخر ومختلف تماماً، اذ أعلن هذا الأخير صراحة عن مشروعه للحكم المباشر بمساعدة مجلس من "المستشارين العراقيين" فيما راحت مصادر الخارجية البريطانية تتحدث عن احتمال أن يطول بقاء القوات البريطانية في جنوبالعراق لأربعة أعوام. واضح أن الصورة مشوشة لدى جميع الأطراف ما عدا الطرف المقرر والمخطط وهو الطرف الأميركي، وستضطر القوى السياسية العراقية، التي كانت وما زالت صديقة للأميركيين إلى مراجعة برامجها وشعاراتها بهدف الخروج من هذا المأزق الذي ُدفعت إليه دفعاً بأقل الخسائر. فلا أحد يفكر بعد الآن ببطر الحصول على الأرباح. أما القوى السياسية العراقية التي ناوأت الوجود الأميركي وقابلته بالعداء منذ البداية ولكنها لم تدعُ إلى المقاومة العنيفة ضده واكتفت حتى الآن بالدعوة إلى المقاطعة أو الامتناع عن التعاون، فستراجع هي الأخرى برامجها وشعاراتها وتنتقل بسرعة تتناسب وكثافة الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية وإيقاعها، إلى طور آخر من أطوار التعامل مع الوجود الأميركي. وسيكون منطق هذه القوى مدعماً بحجج قوية وعوامل تفعيل كثيرة وفرتها النقلة السياسية الخطيرة التي جسدها بريمر في مشروعه للحكم الأميركي المباشر للعراق . في هذه اللوحة المتشابكة والسريعة التشكل والتغير، ستواجه القوى والأحزاب الكردية العراقية استحقاقات مهمة، لبعضها طابع تاريخي ورئيسي. ولكي تقوم تلك القوى والأحزاب بأداء ما عليها من واجبات ومسؤوليات، يلزمها أولاً وقبل كل شيء التخفيف من غلواء رهاناتها السياسية على الخارج، وخصوصاً ان تلك الرهانات أضحت خاسرة باعتراف الجميع، وهذا بدوره يستلزم تغير بوصلة الرهانات والتحركات السياسية ودفعها نحو العمق العراقي الاستقلالي عموماً والكردي خصوصاً، والتخلي عن منطق فرض الأمر الواقع والاستقواء بالآخر القوي، وخصوصاً في ما يتعلق بمشكلات الحكم وشكل الدولة العراقية التي تشترط الأحزاب الكردية أن يكون اتحادياً فيديرالياً قسرياً ومن دون أن يكون للشعب العراقي رأي في هذا الموضوع الذي يهم حاضره ومستقبله. إنها أزمة عميقة بين أطراف الحالة العراقية إذاً، وهي أزمة مفتوحة على احتمالات تنذر بتحولات وتغيرات كبرى، ويخطئ خطأ استراتيجياً من يتصور أو يصور لجماهير الكرد العراقيين التي تعرف دقائق تاريخها جيداً، أن ما حدث هو مجرد سوء فهم عابر ستعود بعده المياه إلى مجاريها. * كاتب عراقي.