شكل الاستفتاء الذي أجري في إقليم كُردستان العراق، والعديد من الأقضية في المناطق المُتنازع عليها، قطيعة مع «عالم سايكس بيكو»، أو الحيز الكُردي منه على أقل تقدير. بعد قرن كاملٍ من ثبات الحدود والتوازنات والعلاقات بوتائر متفاوتة، مُنذ رسمت خرائط هذه المنطقة عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. لا يعني الأمر بأن تغيرات الملامح المُستقبلية للمنطقة صارت واضحة. لكن الاستفتاء الكردي كان خطوة في مسارٍ لم يعد يُمكن العودة عنه، بالذات فيما يخص الكُرد الموزعين على أربع دولٍ رئيسة في المنطقة. مسارٌ في علاقتهم مع دولهم ومُجتمعاتها، وفي هوية هذه الدول وتوازناتها في ما بينها. يكاد الحدث أن يشبه سقوط جدار برلين عام 1989، وتأثيراته التالية على أوروبا والقوى العالمية في ما بعد. فإذا ما اعتبرنا أن سقوط جدار برلين قد أنهى الكثير من معالم وتوازنات وأيديولوجيات القرن العشرين، كما صار مُتعارفاً، فإن «الحال» الكُردي لم يتغير تقريباً منذ قرن، عاش عبره الأكراد مزيجاً مُركباً من الانكار وكسر الإرادة ورفض المساواة والحق في الجدارة في دول المنطقة، وشكل الاستفتاء الكردي كسراً لتلك الحلقة، وبات باباً لتحولات في المستوى الكُردي، يُصعب راهناً القبض على ملامح واضحة لما يُمكن أن تفضي إليه. *** يرى قيادي كُردي أن الاستفتاء حقق نجاحاً واضحاً. فقد شارك قُرابة أربعة ملايين مقترع من أصل خمسة ملايين يحق لهم التصويت، من دون حوادث عُنف أو فوضى قد تُشكك في عملية الاستفتاء جذرياً. وانطلاقاً من ذلك فقد حقق كُرد العراق العديد من المكاسب من خلال الاستفتاء، يُمكن توزيعها على ثلاثة مستويات، تنظيمية إدارية وداخلية وسياسية. يضيف السياسي الكُردي بأن مُختلف المؤسسات والأجهزة الأمنية والبيروقراطية والسياسية في الإقليم أثبتت بأنها تستحوذ على قدرٍ واضح من التنظيم والتناغم في ما بينها، وأنها تستطيع أن تُحقق المعايير الموضوعية لأداء مؤسسات الدولة. فهي على الأقل أوضحت بأنها أكثر حرفية ومهنية من نظيراتها في مناطق العراق. وبذلك فإن الحكومة العراقية ودول المنطقة لا تستطيع أن تعتبر الاستفتاء، وبالتالي الاستقلال والكيان الكُردي المُستقبلي، مُجرد تمردٍ أو عصيان فوضوي مناطقي أو حزبي، عن سُلطة ونِظام وشرعية الدولة العراقية. كما أن الاستفتاء شكل مظلة سياسية لأوسع تحالفٍ سياسي وإجماعٍ شعبي كردي، ربما للمرة الأولى مُنذ سنوات عديدة. فقرار الاستفتاء أصدره مجلس سياسي مؤلف من ستة عشر حزباً، لم تقاطعه إلا حركة التغيير المُعارضة «كوران» والجماعة الإسلامية الكُردية «السلفية». ولم يستطع هذان الحزبان، على رغم من مقاطعتهما المجلس السياسي للاستفتاء، تنظيم حملة مُضادة، وأعلنا صبيحة الاستفتاء مُشاركتهما الإيجابية في العملية، حيث صرح زعيما الحزبين تصويتهُما ب «نعم للاستقلال». فرفض الاستفتاء بقي مقتصراً على حركة شعبية ضعيفة للغاية، سمت نفسها حركة «لا للاستفتاء الآن»، بقيادة رجل الأعمال المعارض شاصوار عبدالواحد، الذي فشل في خلق استقطابٍ سياسي حول هذا المشروع. خلق هذا التضامن الداخلي مظلة سياسية وحقوقية لمشروع استقلال الإقليم، لا يستطيع أحد أن يقول: لم يكن الاستفتاء شرعياً ولم يعبر عن إرادة المجتمع الكُردي، او كان مشروعاً حزبياً لطرف كُردي بذاته، أو أنه مُجرد هروبٍ للأمام من الأحوال السياسية والاقتصادية ضمن الإقليم، كما تذهب الدعاية التقليدية، العراقية والإقليمية، لمواجهة جميع المشاريع السياسية الكردية. على أن هذا الإجماع السياسي بقي موقتاً، وخاصاً بقضية الاستفتاء فحسب. والداخل الكردي ما زال يشهد تناقضات سياسية واقتصادية وإدارية شديدة الخطورة. فالصراع السياسي الحاد بين الحزب الديموقراطي الكُردستاني وحركة التغيير الكُردية «كوران» المُعارضة سيستمر، وبذلك ستبقى التناقضات بين مركزي الإقليم، العاصمة أربيل ومدينة السُليمانية، متفاقمة. كما أن المزيد من تراجع واردات الإقليم المالية في مرحلة الضغوط المتوقعة من قبل الدول الإقليمية، سيفاقم من أزمة الإقليم المالية والإدارية، الذي يعاني أساساً من أزمة اقتصادية حادة منذ العام 2014، وكان على الدوام محل ملاحظة العديد من المراقبين، الذين كانوا يُشيرون إلى التفاوت الهائل لتوزيع الدخل الوطني وثروات الإقليم على مُختلف المناطق والطبقات المجتمعية الكُردية. في المحصلة السياسية، كسب الكُرد رهاناً لا يُستهان به. فالمجتمع الدولي، والقوى السياسية العراقية والدول الإقليمية التي كانت أكثر تشدداً، لم تستطع ثني الإقليم عن تنفيذ «وعيده». وصار الإقليم لاعباً سياسياً في المنطقة، وإن بحجمٍ متواضع. لكن تخطيطه للاستفتاء وإصراره السياسي عليه، ومن ثُم تنفيذه على رُغم كُل شيء، أثبت بأنه صار كياناً سياسياً لا يمكن نكرانه. سيشكل هذا الأمر قيمة مُضافة لما سيسعى الكُرد للقيام به مستقبلاً، فلا أحد من القوى الدولية والإقليمية، وحتى المحلية العراقية، يستطيع أن ينكر أو يتجاهل هذه الإرادة بشكلٍ مطلق، وهي ما ستخلق أكبر ديناميكية لانتزاع التعامل والاعتراف المستقبلي بالحالة الكُردية. *** عراقياً ثمة تفاوت هائل بين النظرة الكُردية ونظيرتها المركزية لما ستكون عليه المرحلة التالية للاستفتاء. يصرح الساسة الكُرد بأن الإقليم سيتوجه إلى بغداد حاملاً نتائج الاستفتاء، وسيطلب من مؤسسات الدولة والقوى المركزية في العراق التفاوض على «انفصال أخوي» سليم، يستطيع عبره الكيانان المُستقبليان، العراق وكردستان، أن يحققا أفضل أشكال حُسن الجوار، تنعكس إيجاباً على استمرار العلاقات والترابط التاريخي بين المُجتمعين العربي والكُردي. ثمة جبلٌ من الملفات المُتداخلة المُركبة بين الطرفين، النفط وحدود المناطق المتنازع عليها والأجهزة البيروقراطية والأمن والديون والمياه، وحتى مئات آلاف العائلات المكونة من النسيج المُجتمعي للطرفين. وهي ملفات، في حال قبول العراق التفاوض الإيجابي في شأنها، ربما يطول التفاوض في شأنها لعشر سنوات، كما يرى الخبراء بتجارب الدول الأخرى. فيما لو رفضت بغداد ذلك التفاوض الإيجابي، فإنها ستبقى ملفات عالقة ومحل تنازع وربما صراعٍ مفتوح بينهُما لعشرات السنوات المقبلة، وستؤثر سلباً، كما بقية كُل التجارب الكُردية/العراقية السابقة طوال قرنٍ كامل، على الاستقرار السياسي والمجتمعي والأمني، في العراق وكامل المنطقة. عند هذه النقطة بالذات، فإن الساسة الكُرد يصرحون بأنهم سيتوجهن لرسم الحدود فيما لو رفضت بغداد التفاوض، وسيحاولون خلق قطيعة مع مؤسساتها المركزية، وسيخفضون سيادتها على مناطق سُلطة الإقليم، لأدنى مستوى ممكن. فوق ذلك، فإنهم سيسعون لاستحواذ مستويات معقولة من الاعتراف الدولي والإقليمي بالأمر الواقع الذي سيخلقونه، والذي قد يدفع العراق المركزي في المُحصلة لأن يقبل التعامل مع الحالة الاستقلالية الكُردية. في الداخل العراقي راهناً، ثمة شبه تطابق بين القوى السياسية، سواء داخل الطيف الشيعي أو في التناغم السُني الشيعي الموقت. فخلا خطاب ودعوات رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي وبعض البرلمانيين العراقيين القلائل، ثمة انفعالٌ ورفضٌ عراقي شبه مُطلق ومتوافق عليه من قِبل جميع الأطراف للاستفتاء ونتائجه. على أن تفكك هذا الاجتماع العراقي متوقع للغاية في الشهور المقبلة. فالانتخابات البرلمانية العراقية بعد شهورٍ قليلة ستخلق استقطاباً سياسياً داخلياً من دون شك. سيشكل النقاش والانقسام حول الحالة الكُردية ادسم مواده وأكثرها إثارة للتناقضات الانتخابية. وربما يصعد بعض القوى السياسية العراقية الجديدة التي تدافع عن منطق التفاوض والنقاش الموضوعي مع الجانب الكُردي، بالذات التيار المدني العراقي وتيار رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي. كذلك يمكن لبعض الاطراف أن تدفع أثمان تعاملها الانفعالي مع هذه المسألة، فالطيف الأوسع من المجتمع الداخلي العراقي، وبالذات الشيعي منه، صار يرى نفسه خارجاً من أزمة سياسية وأمنية ليدخل في أخرى، وكُل ذلك بفعل تياراته السياسية التي لا تملك رؤية استراتيجية حول مسائل العراق العالقة، بسبب مدى انفعاليتها وشعبويتها. لكن وإن لم تستطع الانتخابات المقبلة بلورة ذلك، فإن المسألة الكُردية تبقى أقل قدرة على تغطية الشرخ الجوهري بين القوى السياسية والمجتمعية العراقية، سواء ضمن البيئة الشيعية التي تشهد تعاظم الخلافات بين التيار الصدري وحزب الدعوة، أو بين التيارين المدني والديني، أو حتى ضمن حزب الدعوة «الحاكم» نفسه. الرؤية الأميركية التي كانت ترى العراق منقسماً سياسياً إلى حيزين متباينين انتهت تماماً. كانت تلك الرؤية تقول إنه في العراق تياران رئيسان، واحدٌ يقوده رئيس الوزراء حيدر العبادي، لو توافق مع التيار الصدري وبدعمٍ من الكُرد وبعض الأحزاب السُنية والتيار المدني العراقي، فإنه يستطيع أن يرفض الهيمنة الإيرانية على العراق، وأن يقترب من الولايات المُتحدة. والتيار آخر يقوده رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، ومعه الكثير من القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران، وبدعم مُباشر من ميليشيات الحشد الشعبي. كانت الولاياتالمتحدة تعد جميع الأطراف بحل مشاكل العراق فيما لو استطاع تيار العبادي الظفر بالانتخابات المقبلة، وخرج من دائرة الهيمنة الإيرانية. لكن الاستفتاء الكردي قضى على هذا الاحتمال تماماً، وصار الداخل العراقي عُرضة لأشكال من التفتت والصراعات البينية، ستُظهر الانتخابات المقبلة بعضاً من ملامح أوزان قواه. لكن حتى لو لم يستفد الطرف الكُردي من هذا الانقسام السياسي المتوقع، فأن حجم التناقضات ضمن المجتمع العراقي غير الكُردي أكبر بكثير من أن يُغطيه أي مشروعٍ كُردي. فالجغرافيا السُنية مُحطمة بشكلٍ شبه تام، ولا توجد أية رؤية لإعادة إعمارها وإنمائها، كذلك ثمة ملايين المهجرين، لا يستطيعون العودة إلى مناطقهم، ولا يجدون مكاناً في العراق إلا في إقليم كُردستان. فوق ذلك فإن مؤسسات الدولة العراقية تتجه للمزيد من الضعف لمصلحة الميليشيات والقوى السياسية التي تعمل خارج القانون، وهو أمر يجعل السُلطة الحقيقية في العراق مملوكة لطرف مجتمعي وطائفي عراقي بذاته، ومعادية للطرف أو الأطراف الأخرى جميعها بالضرورة. يملك الكُرد حساسية خاصة ترى بأن الداخل العراقي أكثر هشاشة من الإجماع على أي ملف، ومنها ملف الاستقلال الكُردي، وأن فترة تهدئة قد تطول لستة أشهر من قِبل الكُرد، ستدفع الداخل العراقي لأن يعود وينشغل بنفسه، ويقدم تنازلات ثمينة للطرف الكردي. *** اتصل أحد الديبلوماسيين المصريين بمسؤول سياسي كُردي ليلة الاستفتاء، وأظهر قدراً من تباين المواقف العلنية والمُضمرة للقوى الإقليمية وتعاملها مع الاستفتاء والمسعى الكُردي للاستقلال. على أن المسؤول الكُردي حذر من وقوع القوى العربية الرئيسية في نفس الخطأ الذي وقعت فيه العام 2003 وما تلاه، حيث كان للجفاء الذي تعاملت به مع العراق الجديد دوراً رئيساً لأن يصبح العراق ساحة وتابعاً لإيران في شكلٍ تام. وفي السياق، فإن السياسي الكُردي أشار إلى «الخطأ الشائع» الذي يقع فيه من يعتقد بأن تركيا ستكون أكثر حزماً ورفضاً من إيران للواقع الكُردي الجديد. فتركيا دولة أكثر واقعية من إيران، ولا تستطيع أن تتحمل مثل إيران إثارة مشكلات عميقة في جوارها، لأنها أساساً لا تملك أدوات لإدارة هذا المشكلات، خلا جيشها النظامي. وجيشها لو دخل في حربٍ مُعلنة، وبالذات مع المشروع الكُردي، فإن الاستقرار الداخلي التُركي سيتصدع ولا تستطيع تُركيا أن تتحمل هذا الاحتمال. فوق ذلك فإن الحصار الاقتصادي الذي تعد تركيا بتنفيذه، بالذات في القطاع النفطي، سيؤثر بعمق عليها أيضاً، على مصالح النُخبة السياسية/الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية الحاكم. تبقى إيران أكثر المُتضررين الإقليميين من الاستفتاء الذي جرى. فقد أثبت الاستفتاء بأن النفوذ الإيراني صار على منطقة في العراق فحسب، وأن القوى السياسية الكُردستانية التي كان الإيرانيون «يتوهمون» بأنهم يملكون نفوذاً وسيطرة عليها، باتت أكثر استقلالية وتماسكاً في ما بينها. فوق ذلك، فإن العراق الذي تُهيمن عليه إيران سيصير أقل «شرعية» ونفوذاً وأكثر تدهوراً، فيما لو استقل الكُرد عنه، أو حتى لو بقوا في مرحلة مُقاطعته شرعياً وسياسياً واقتصادياً. ينتظر الكُرد رد الفعل الإيراني أكثر مما ينتظرون ويتحسبون لنظيره التُركي، وأكثر ما يخشون منه هو دفع إيران لقطاعات من ميليشيات «الحشد الشعبي» لأن تدخل في حروبٍ عبثية مع الطرف الكُردي، وأن تستنزف القلاقل من قدرة الإقليم على تنمية مشروعه السياسي مُستقبلاً.