لكل من الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا دور مميز في اطار "الرباعية" لدفع "خريطة الطريق" خارج مسار التدهور في اتجاه تنفيذ رؤية قيام دولتين، فلسطين واسرائيل، وسلام دائم يشمل سورية ولبنان. هذا الدور متفق على عناوينه بين أطراف "الرباعية". الجديد ان الأمر لم يعد متروكاً للأطراف المعنية في المنطقة لترى اذا كان مزاجها أو حساباتها تسمح بالمضي في "خريطة الطريق" خطوة الى الأمام واخرى الى الوراء. والجديد ان الاستراتيجية ليست قائمة على مجرد "حض" المعنيين على الخطوات بضغط على هذا أو بنبرة على ذاك. فالتحوّل المهم الذي حصل هو ان اقطاب "الرباعية"، لا سيما الولاياتالمتحدة، اتخذت قراراً استراتيجياً فحواه ان "خريطة الطريق" واقع لا مفر منه "فكيف نساعدكم نحن على سلوك الطريق اليه". "الرباعية" فكرة مهمة، فهي لم تولد أمس، وانما منذ فترة، وهي ليست ائتلافاً أو محوراً وانما تجمع دولي يشمل مختلف المقومات، من الشرعية الى المساعدات المالية الى التأثير في القاعدة الشعبية الى خطة استراتيجية لمعالجة جذرية لأزمة اقليمية. كولن باول صبر كثيراً وساهم بشكل جذري في نقل "الرباعية" الى عتبة الفعل بعدما لاقت الفكرة اعجابه ودعمه. الفكرة برزت عبر الأممالمتحدة عندما تبناها الأمين العام كوفي انان وعمل عليها مبعوثه الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، تيري رود لارسن. في البدء كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات طرفاً اساسياً في ذهن "الرباعية" وهي لم تكن في وارد الاستغناء عنه الى حين اندلاع غضب الإدارة الاميركية منه واعتباره عثرة. بعد ذلك، حدث نوع من التوقف والتجميد ل"الرباعية" خصوصاً ان الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش بدا كأنه تراجع عن تعهده بقيام دولتين، فقد ظهر كأنه يعطي رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الضوء الأخضر لتحطيم الحقوق والتطلعات الفلسطينية سوياً مع تحطيم عرفات ورمزه. وكل ما فعلته الإدارة الاميركية ترك الانطباع بأنها انساقت الى كل ما أراده شارون، من تنفيذ هدف "الاستغناء" عن عرفات، الى غض الطرف عن تجاوزات اسرائيل للقوانين الدولية في قمعها وقهرها للفلسطينيين الى "تزاوج" بين الارهاب الذي وقع في عقر دار اميركا وبين "ارهاب" المقاومة للاحتلال. ما ساعد شارون في اطروحاته افتقاد الوعي الفلسطيني لأهمية هذه الاطروحات وابعادها. فتصرف الرئيس الفلسطيني على طريقته الخاصة على رغم فوات أوانها وانعدام فوائدها مع ادارة بوش، وتمسك بتقليدية قيادته من دون ادراك واستيعاب ما حدث في اميركا في 11 ايلول سبتمبر 2001 بالعمق الذي كان عليه ان يتحلى به كقائد ورمز للمعاناة الفلسطينية ولتطلعات الفلسطينيين. انما الاسوأ هو ما فعلته فصائل فلسطينية لم تستدرك اثر فكرها التقليدي في الوقت الذي اقترنت فيه وسائل هذا الفكر مع وسائل استخدمتها أطراف ارادت استغلال القضية الفلسطينية لمآربها الخاصة. باختصار، حدث تصادم رهيب خلف هوة عميقة بين المفهومين: مفهوم المقاومة ضد الاحتلال بما "يبرر" استخدام أي وسيلة بما فيها سلاح العمليات الانتحارية في وجه تفوق سلطات الاحتلال بصفتها "السلاح المتوفر"، وبين مفهوم هذا السلاح ووطأته في الساحة الاميركية والدولية بصفته إرهاباً صرفاً. تتباهى الفصائل الفلسطينية التي تتبنى العمليات الانتحارية، ومن يدعمها في الساحتين الفلسطينية والعربية، بإنجازات انهاك اسرائيل واجبارها على البحث عن بديل. ما يفوتها، أو تتعمد تجاهله، هو الكلفة الحقيقية البعيدة المدى على الفلسطينيين. فهذه العمليات "سوّدت" القضية الفلسطينية وعدالتها، كما أقحمت عليها أجندة أطراف آخرين نسفوا بأعمالهم كل تعاطف مع الفلسطينيين الذين استخدموهم "سلعة" في غاياتهم الأبعد. لا شك ان اسرائيل، تحت سوط العمليات الانتحارية، ستزداد انهاكاً وتوتراً وسيتراجع اقتصادها اكثر وتصبح اكثر هشاشة، انما في نهاية المطاف، لن تزول اسرائيل قبل ان تزيل الفلسطينيين. ولذلك، فإن الخيار هو إما الدمار المتبادل أو قيام الدولتين. البعض بين الفلسطينيين والاسرائيليين يفضل خيار محو الآخر على قيام دولتين، والبعض الآخر لا يرى حلاً سوى الدولتين. إذا انتصر اصحاب الخيار الأول فإن المنطقة العربية ستبقى رهينة هذا الصراع، بما يعطل نموها والتحاقها بركب العالم الحضاري، كما سيزداد الصراع والتصادم الديني بين الاسلام وبقية العالم، علماً بأن معارك المسلمين ليست فقط مع اليهود، وانما مع المسيحيين والهندوس وغيرهم من الديانات. بالطبع فإن اليهود ايضاً سيدفعون ثمن السماح للمتطرفين بينهم بإملاء المسار. والنتيجة ذاتها على الجميع: صراعات ودمار متبادل. الخيار البديل متاح، وتتيحه الآن "الرباعية" بقيادة اميركية، وبمساهمة من الرئيس الاميركي تتعدى السياسة المعهودة ويمكن وصفها بأنها ذات اندفاع ديني صادف انه في المسار المعارض لاندفاع المتطرفين نحو الهلاك. هذا الخيار هو قيام دولتين، جنباً الى جنب. وتكراراً، فإن الأمر والقرار عائد الى القاعدتين الشعبيتين، الفلسطينية والاسرائيلية. لكن القاعدة الشعبية تحتاج دائماً الى قيادات. والقيادتان الفلسطينية والاسرائيلية متضاربتان وفي خلاف عميق. لذلك، قد تكون هذه من الحالات النادرة حيث للقاعدة الشعبية حق القرار المصيري، وحيث كل قاعدة شعبية في حاجة الى مخاطبتها عبر وسائل غير تقليدية من الطرف الآخر. لن يكون للشعب الفلسطيني أو حتى لرئيس الوزراء محمود عباس ان يبني استراتيجية وعلاقات مع شارون حصراً، فهذا رجل تصعب الثقة به الى حين اثباته انه اكتسبها. وبالتالي، في حال تبني الفلسطينيين قيادة وشعباً حل الدولتين على أساس "خريطة الطريق"، عليهم التوجه الى الشعب الاسرائيلي ليكون سنداً لهم. والعكس يطبق على الرأي العام الاسرائيلي. فإن اختار حقاً خيار الدولتين، عليه ايضاً ان يتوجه الى الشعب الفلسطيني وان يمكّن محمود عباس من القيام بالمهمة. "الرباعية" مفيدة جداً في تحقيق وانجاح مثل هذا المسعى للأسباب الآتية: أولاً، هذه شراكة لا سابقة لها، علماً بأن الولاياتالمتحدة استفردت حيناً بملف الصراع العربي - الاسرائيلي، واستبعدت احياناً عدة كلاً من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي عنه، وعملت بحذر وتردد وأقل قدر من الثقة مع روسيا الاتحاد السوفياتي اثناء الحرب الباردة. الآن، توجد شراكة دولية ببعد اقليمي يضم مصر والسعودية والأردن، عقدت العزم على ايصال "خريطة الطريق" الى الهدف. ثانياً، يوجد إدراك واقرار من ناحية الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدةوروسيا بأن الدور القيادي في "الرباعية" يجب ان يكون للولايات المتحدة ليس فقط بسبب عظمتها المميزة وانما ايضاً بسبب علاقتها العضوية مع اسرائيل، لذلك اتفق ثلاثي "الرباعية" على ان لا استغناء عن القيادة الاميركية، وان لا حرج للثلاثي في لعب دور "المكمل" من دون انتقاص من أهميته. ثالثاً، دور روسيا المكمل ليس هامشياً، إذ ان لروسيا في هذه الحقبة من التاريخ، علاقة باسرائيل ذات عمق داخلي وليست فقط علاقة جيدة بين دولتين. فلروسيا تأثير في القاعدة الشعبية الاسرائيلية علماً بأن عدداً كبيراً من الفاعلين فيها جروا اليها من روسيا. وهذا يعطي روسيا وزناً سياسياً مميزاً. رابعاً، كذلك الأممالمتحدة لها دور مميز اذ انها تمثل الشرعية الدولية، بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة، كما ان لها ذراعاً عملياً داخل الأراضي الفلسطينية عبر "الانروا" وغيرها من الوكالات الدولية. ناحية الشرعية مهمة ايضاً في توفير الغطاء السياسي لكل من يمارس الضغوط على أطراف النزاع، وفي تبديد الشكوك، وكذلك في تبني اجراءات مثل الرقابة الدولية. خامساً، الاتحاد الأوروبي فائق الأهمية كمساهم بالمعونات والأموال لبناء الدولة الفلسطينية، كما انه بالاهمية ذاتها في البعد السياسي خصوصاً في التأثير في سورية ولبنان لجهة الشق الفلسطيني - الاسرائيلي في "خريطة الطريق" كما لجهة الشق السوري - اللبناني منها. ما يميز "الرباعية" هو تنظيم نفسها في مبادرة واحدة، وتقدمها بخطة موحدة، واتفاق أطرافها على أدوار مكملة من دون مزاحمة ولا منافسة. وما تعتبره الأطراف الثلاثة في "الرباعية" تطوراً جذرياً هو الالتزام الشخصي للرئيس الاميركي بتنفيذ "خطة الطريق" التي صاغتها "الرباعية". لذلك ترى ان هذه فرصة نادرة يجب البناء عليها، ليس فقط للفلسطينيين والاسرائيليين وانما ايضاً للسوريين واللبنانيين. وحسب مسؤول غير اميركي، رفيع المستوى، فإن بوش وضع ثقله وصدقيته وراء تنفيذ "خريطة الطريق" ولن يتوقف عن ذلك لأسباب انتخابية، لذلك على السوريين واللبنانيين ان يلتحقوا بالعربة قبل ان تتركهم على الهوامش. على سورية ان تفعل شيئاً ملموساً، خصوصاً مع التنظيمات الفلسطينية في دمشق، اذ انها تبدو الآن كأنها تحاول تعطيل جهود "الرباعية"، وهذا أمر خطير. وتخطئ سورية بافتراضها ان مواقف بوش عابرة وأنه سيتخلى عن رهانه على "خريطة الطريق" عند الحملة الانتخابية. تخطئ ايضاً بحق شعبها اذا مضت في هذا الافتراض. مسؤول اميركي وصف التحول في الاستراتيجية الاميركية بأنه من الحض والحث والإصرار من بعيد، الى الدور الاميركي المباشر في تمكين الأطراف من التنفيذ. وهذا يُطبق على الاجراءات الأمنية المطلوبة من محمود عباس، كما على اقتلاع المستوطنات واجراءات وقف الاغلاق والحصار المطلوبة من شارون، كما على وقف الدول العربية تمويل المنظمات الفلسطينية المعارضة ل"خريطة الطريق". البيت الأبيض يقول لاسرائيل اليوم ما لم يسبق ان قاله لها. يقول "كفى"، اذ ان المواقف والاجراءات الاسرائيلية بدأت تلحق الضرر بالعلاقة الاميركية - الاسرائيلية، وبدأت تسبب الإحراج للإدارة الاميركية، حسب المسؤول الاميركي الذي اشترط عدم ذكر اسمه. هذه التطورات تضع الفلسطينيين أمام خيارات مصيرية، ومع ذلك لا تزال الحروب الفلسطينية مستمرة لتفرز من سيتحمل مسؤولية اشعال حرب اهلية فلسطينية، ومن سيتحمل مسؤولية احباط قيام دولة فلسطينية مستقلة بمساعدة دولية لا سابقة لها.