يراهن الاسرائيليون على الجانب الفلسطيني لتمييع "خريطة الطريق". وقبل اعلان الخريطة وبعده، قالوا انهم يعتبرون ما بينهم وبين الفلسطينيين أمراً ثنائياً، ولا يحل إلا ثنائياً. قد يكون وجود "أبو مازن"، بدلاً من ياسر عرفات، في مواجهتهم شجعهم على ابراز هذه الفكرة، احياء لنهج اوسلو، وربما استناداً الى معرفتهم للعقلية التفاوضية التي تميز رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد. والأرجح ان "أبو مازن" نفسه اتيح له الوقت الكافي لاستنتاج ثغرات "أوسلو" واخطائها، ولم يعد مستعداً لقبول ما قبله، مع عرفات عام 1993. فالظروف تغيرت، والاتفاقات الاوسلوية اختبرت، وما بدا غير عملي فيها لم يعد ممكناً تكراره. لكن تفضيل "الثنائية" من جانب اسرائيل يرمي واقعياً الى اسقاط كل جديد طرأ على المعادلة. فالخريطة تبنت مبادئ للعمل أهمها توازي الخطوات والاجراءات، وحددت المطلوب من كل طرف، وأوضحت الهدف الأخير، أي اقامة الدولة الفلسطينية. واسرائيل تعودت ان تخوض التفاو ض مع الفلسطينيين من دون مبادئ ولا أهداف ولا جدول زمني ولم تقبل يوماً آلية التوازي، ولا بد انها تعتزم الاستمرار على هذا المنهج باعتبار انه حقق لها أهدافها، وأهمها تقزيم اي تسوية لئلا ترتقي الى مستوى اقامة دولة ولتبقى في حدود الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة والتسلط الاسرائيليين. الجديد في "الخريطة" انها تقترح تدويلاً للحل، حتى لو ارتكزت اساساً الى تفاوض الطرفين، اذ ان مشاركة الاتحاد الأوروبي وروسياوالأممالمتحدة، ووجود آلية مراقبة دولية، يعنيان ان الولاياتالمتحدة نفسها ارتضت وجود شركاء في رعاية الحل. كانت "الثنائية" ممكنة عندما كان الشريك الثالث هو الولاياتالمتحدة، ولأن هذه مستعدة دائماً للتماهي مع اسرائيل، فإن الحاجة مسّت لوجود طرف ثالث، وبرضا اميركي. لا بد ان الاسرائيليين يعتبرون هذا الواقع الجديد خسارة سيعملون على تعويضها والتخلص من تبعاتها. والأمر سهل بالنسبة اليهم، من خلال العمل داخل الإدارة الاميركية، لنسف هذه الصيغة "الرباعية". سيستفيدون من الأزمة العراقية الى أقصى حد: فلا الاتحاد الأوروبي ولا روسيا ولا الأممالمتحدة شركاء في الحرب الأخيرة، وطالما ان لا دور لهم فيها فلا شيء يستدعي ان يكون لهم دور في تسوية القضية الفلسطينية. وسيستفيد الاسرائيليون أيضاً من دخول الادارة الاميركية في دوامة الحملة الانتخابية الرئاسية لإنجاز صفقة تربط دعم اليهود لجورج بوش الابن بمصالح اسرائيل في التسوية. ولديهم الخبرة الكافية والعلاقات الوثيقة برموز اليمين الاميركي لمعرفة الميول الحقيقية لأطراف الإدارة، فهؤلاء لا يحبذون الشركاء، خصوصاً في مسألة تعني اسرائيل. هناك تفصيل يزعج الاسرائيليين قليلاً، ويتمثل بموقف بريطانيا التي كانت ألحت على اخراج "خريطة الطريق" الى العلن واعتمادها كقطعة رئيسية في ديبلوماسية الحرب على العراق. ولم يفوّت رئيس الوزراء البريطاني مناسبة إلا وتحدث عن "الخريطة" كعنصر حيوي في منظومة الاقناع التي اعتمدها لتبرير تقلباته في التكيف مع السياسة الأميركية حيال ملف العراق. هذا التفصيل المزعج يوجد حل له في واشنطن ايضاً. يكفي ان يُفهم الاميركيون اطراف "الرباعية"، انهم يفضلون التزام "الخريطة" وحدهم، كما سبق ان فعلوا في "عملية السلام" قبل عشر سنوات، كي تعود الأمور الى نصابها الاسرائيلي المعهود. لكن "الرباعية" وجدت اصلاً لأن الولاياتالمتحدة لا تريد ذلك "الالتزام" وحدها، لا لأنها غير قادرة فحسب، وانما لأنها غير راغبة. مهمة الاسرائيليين ان يجعلوا واشنطن راغبة في مثل هذا "الالتزام" كما فعلت دائماً، اي ان تلتزم مصالحهم ونهجهم التفاوضي وكل ما يقترحونه. يبدو الأمر سهلاً، لكنه لا يخلو من صعوبات. فالمسألة لا تتعلق بالمعادلة التي صنعت "خريطة الطريق" وإنما بحاجة اميركا للعودة الى طرح مبادرة "السلام الشامل"، كاستراتيجية، وايضاً كعملية مكملة لما بدأته في العراق، ثم ان المشكلة ليست في وجود "الرباعية"، ولا في تفضيل اسرائيل ل"الثنائية" لأن المفاوضات ستكون حتماً بين الطرفين، وإنما تكمن خصوصاً في ما تريده إسرائيل. فإذا كانت تسعى إلى الاستمرار في المناورة، وبعلم الإدارة الأميركية وموافقتها، فإن هذه الخريطة وكل الخرائط ستكون حبراً على ورق. وإذا كانت مصرة على "الثنائية" وتريد استخدام واقع الاحتلال الجديد لتفرض حلولاً غير مقبولة فإنها ستصل مع "أبو مازن" الى حيث وصلت مع عرفات. وهكذا...