الذي يتمعن في خطابَي الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في قمتي شرم الشيخ والعقبة، وفي خطاب ارييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي، وفي ما فرض على محمود عباس رئيس الوزراء الفلسطيني في خطابه، يجد أن "خريطة الطريق" التي وضعتها اللجنة الرباعية قد تبخرت، على الرغم من سوئها على الشعب الفلسطيني. ولم يبقَ منها سوى أن تكون مظلة وهمية لما يجري تحتها وباسمها من مؤتمرات ومفاوضات وخطوات. ولا يبالغ المرء إذا قال إن ما أصبح بين أيدينا الآن "خريطة طريق" أخرى تكاد تتطابق مع تعديلات شارون الأربعة عشر، وليس كما قال أبو مازن يوم تسلمه المنصب: "خريطة للتنفيذ لا للمفاوضات". بوش وضع اللجنة الرباعية جانباً، وانتزع الهيمنة على التعاطي مع "الخريطة" وراح يسوّق الرؤية الأميركية - الليكودية. ولهذا ذهب شططاً من يحاول أن يروّج أو يناقش "خريطة الطريق" التي من صنع "الرباعية"، لأن في ذلك خروجاً عن الموضوع الجاري تنفيذه، إن لم يكن المقصود التغطية على ما يرتكب باسمها. فالذي يجب أن يناقش هو ما حمله بوش في جعبته إلى مؤتمري شرم الشيخ والعقبة: الضغط باتجاه التطبيع العربي الفوري، وإعادة السفيرين المصري والأردني إلى تل أبيب، واعتبار تصفية الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني أولوية عربية وفلسطينية تحت مسمى "الإرهاب"، ثم ادخال مفهوم "الأراضي الموصولة" بمعنى ايجاد طرق أو جسور أو معابر أو أنفاق تصل ما بين "الكانتونات" وعشرات الأوصال المقطعة بالمستوطنات والحواجز والأسوار والطرق الالتفافية، أو قل اسقاط مفهوم وحدة أراضي ما يُسمى الدولة الفلسطينية ذات الحدود الموقتة، أو اللاحدود. أما مقابل كل الالتزامات المطلوبة فلسطينياً وعربياً، فإن شارون يزيل المستوطنات الكرفانات غير المصرح بها. هذا إلى جانب استبعاد سورية ولبنان، ناهيك عن ياسر عرفات الذي سبق وتعهد أبو مازن بعدم اتخاذ أي خطوة قبل رفع الحصار والحظر عنه. ثم نأتي إلى "ثالثة الأثافي" وأخطرها، وهي الاعتراف الأميركي بإسرائيل دولة يهود أو يهودية. أي اعطاء الشرعية للتمييز والعنصرية الممارسين منذ قيام الدولة. وكان سبقه في تأكيد ذلك كل من كولن باول وكوندوليزا رايس، مما يعني اننا ازاء سياسة أميركية مقررة. ويا لضحالة، أو لخفة، التناول الذي استبعد أن يكون بوش يقصد من وراء صفة اليهودية عدم وجود سكان غير يهود، أو تطهيراً عرقياً، معاذ الله، فالعبارة، أو الحالة هذه اضيفت للتزيين. وليس كما قال عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية، إنها "ليست بسيطة". وتساءل عما تعنيه بالنسبة إلى عرب ال1948، بمعنى هل سيصبحون تلقائياً "مواطنين من الدرجة الثانية أم ستكون سبباً لطردهم وعدم استقبال اللاجئين، أو التفاوض في قضية اللاجئين". أما من جهة أخرى، فيجب أن يلاحظ أن بوش فشل في قمة شرم الشيخ في فرض التطبيع العربي أو في ذكر "حماس" و"الجهاد" و"حزب الله" بالاسم عند الإشارة إلى "الإرهاب"، على الرغم مما حملته العبارة من إمكان تأويل ضد منظمات المقاومة. كما فشل في انتزاع اعتراف عربي بزعامة محمود عباس بديلاً لياسر عرفات. وهنا ثمة جانب يستحق وقفة وهو إمكان قول "لا" لأميركا وفرض التراجع عليها، مثلاً، كما حدث في موضوع التطبيع إذ تأخر المؤتمر ساعتين وكاد ولي العهد السعودي الأمير عبدالله أن ينسحب. الأمر الذي كشف، من جهة أخرى، ما ظهر من ضعف عربي وفلسطيني غير مبرر لا سيما في موضوع المقاومة وسورية ولبنان وياسر عرفات، وما جرى من استفراد برئيس الوزراء الفلسطيني في قمة العقبة. فالدول العربية أقوى مما هي تتصور وتتصرف، وأقوى مما يحاول بعض المحللين ايهامها بأنها لا تملك غير القبول بالاملاءات الأميركية حتى في قضايا تمس الثوابت، كما أن بوش أضعف مما يتصور ويتصرف. مما يؤكد أن كثيراً مما يقدم من تراجعات وتنازلات أمام الضغوط الأميركية لا يقوم على أساس متين من ميزان قوى سياسي. ومن هنا تأتي أهمية القراءة الدقيقة لوضع أميركا المأزوم في قضايا كثيرة، وعلى مستوى عام، بعيداً من التهويل والتحايل. مما يسمح بإدارة صحيحة وشجاعة للصراع، ويخفف من الهوة الرهيبة التي أخذت تتسع بين الأنظمة وشعوبها. أما أسباب هذه الهوة فلا يجوز اختصارها بعامل الحكم الفردي أو الفساد أو غياب الديموقراطية، على أهميته، ويتم تجاهل خطورة عامل التفريط والتنازلات تحت الضغوط الاميركية، وهذا من أشد ما يثير غضب القاعدة الشعبية الواسعة واستياءها. من هنا يجب أن يعاد النظر في مسلسل التنازلات الفلسطينية والعربية، ولا تستثنى مواقف بعض القوى الشعبية في العراق تحت الاحتلال الأميركي. فقد أثبتت التجربة ان كل تنازل لا يؤدي الغرض منه الا موقتاً بما يشبه مسكّن الأوجاع، ثم سرعان ما يفقد تأثيره ليبدأ الضغوط من أجل تنازلات جديدة كما يحدث الآن مثلاً، بالنسبة الى المبادرة العربية التي صدرت عن قمة بيروت، أو كما يحدث مع يسار عرفات الذي وصلت طلبات التنازل منه ان يتنحى محفوفاً بالتفريع والاتهام. هذا يعني ان مسلسل التنازل خطوة خطوة سياسة قصيرة النظر ومدمرة، ولا اتقان فيها حتى لصنعة التنازل أو لأصول الحل السياسي والمفاوضات. بدليل ان كل ما قدم من تنازلات لم يحقق النتيجة المرجوة من جهة مقدميها أو هدفهم. فمن الناحية الفنية الصرفة، وفي كل تجارب المفاوضات التي قدمت فيها تنازلات من قبل صاحب الحق تحت ضغط موازين القوى تمت العملية عبر صفقة متكاملة عرف مسبقاً ما سيأخذه، وما عليه أن يقدم. هذا المشكل ليس مشكل بعض القيادات العربية والفلسطينية الرسمية فحسب، وانما ايضاً، تراه بصورة أبشع، لدى بعض النخب حيث دأبوا يقفزون مع كل تصعيد أميركي اسرائيلي في طلب تنازل جديد الى الدفع بالاتجاه نفسه، وبحماسة قلبية، لا يعرف المرء من أين جاءتهم وهم يدعوننا الى العقل الواقعي السياسي البارد البعيد عن العاطفية والحماسة فهؤلاء اليوم لسوء حظهم العاثر يواجهون الاعتراف الاميركي باسرائيل دولة يهودية أو دولة اليهود. فأصبح حالهم كمن ارتطم وجهه بحاجز زجاجي لم يره وهو يعبر مسرعاً. فأصحاب الفكر المتكيف مع متغيرات العصر التعددي، غير الأصولي، غير المتطرف، غير العنصري، والمتفهم للآخر وصاحب القيم الكونية، عليهم الآن ان يمرروا، بطريقة أو أخرى، هذا الاعتراف الذي يتجاوز الواقعية وموازين القوى وحتى السياسة. لأنه يتطلب القبول بالحل الذي تقدمه الأصولية اليهودية ما فوق الليكودية مقرونة بالأصولية "البروتستانتية الصهيونية" الأميركية. وبهذا عليهم اما ان يتركوا مقاومة هذا الحل للاسلاميين والعروبيين والوطنيين واليساريين ويخلصوا عن أنفسهم الليبرالية والديموقراطية والقيم الكونية والحداثية واما ان ينخرطوا في مقاومة بوش وشارون مقاومة جادة. وليس من طرف اللسان، فيما يشددون الفكر على الانتفاضة والمقاومة و"حزب الله" وكل دولة عربية لا ترضخ للاملاءات الاميركية. وهكذا فإن اميركا كلما مضت نحو القطبية الأحادية القصوى التحمت أكثر فأكثر بالاصولية "البروتستانتية الصهيونية" واليهودية الصهيونية ما فوق ليكودية، ولحقت بهما الصهيونية الليبرالية مع تصفيق شمعون بيريز لبوش الآن. الأمر الذي يفترض ان يجد حشد عالمي بأطياف مترامية الأطراف متعددة الألوان بعضها ما كان ليلتقي على موقف عدا هذا الموقف. ولكن كيف يتحقق هذا الحشد ان لم تشتد "الركب" العربية فتنتصب واقفة في الأقل. * كاتب فلسطيني، عمان.