بعد ست سنوات من تكريمه على المستوى العالمي خلال خمسية مهرجان "كان" السينمائي، حيث منح سعفة دورة العام 1979 الذهبية عن مجمل اعماله، ها هو المخرج العربي يوسف شاهين يكرم هذا الأسبوع في مصر، عند اختتام المهرجان القومي للسينما المصرية. وهذا التكريم يأتي لمناسبة الاحتفال بالذكرى السابعة والسبعين لمولد شاهين الذي كان يرفض دائماً اي نوع من التكريم المتحفي اي الذي يوحي بأن الشخص المكرم سيحال الى المتحف. ولمناسبة هذا التكريم كان من المفترض ان يوزع كتاب كلّف الزميل ابراهيم العريس بوضعه عن سينما شاهين في عنوان "نظرة الطفل وقبضة المتمرد"، هدفه إلقاء نظرة جديدة مختلفة على سينما صاحب "الأرض" و"العصفور" وارتباطها بحياته، لكن الظروف السائدة اخرت صدور الكتاب بضعة ايام، إذ من المتوقع ان يصدر ويوزع خلال الأسبوع المقبل في استمرار لتكريم شاهين فيما بعد حفلة المهرجان القومي. وهنا، عشية صدور الكتاب في القاهرة، فصل من الكتاب يتناول بدايات شاهين في مجال سينما "الكوميديا الموسيقية" التي ستصاحبه في افلامه حتى اليوم، وكانت اصلاً واحداً من توجهاته منذ بداياته. خلال الفترة التالية مباشرة لتحقيق "نساء بلا رجال"، حقق يوسف شاهين، واحداً من افضل افلام تلك المرحلة، وهو "صراع في الوادي"، لكن هذا الفيلم لم ينتم الى ما سبقه، بل سجل بداية لتعامل جديد لمخرجنا مع السينما. فهو، لئن كان هنا قد واصل تجاربه في مجال الكادراج واستخدام الكاميرا، فإنه بدأ يلتفت اكثر الى الناحية الاجتماعية في سينماه. وليس انطلاقاً من نظرته الشخصية - الذاتية النابعة من اهتمامه بعالم اسرته وشخصية ابيه، بل انطلاقاً من واقع موضوعي كان قد بدأ يفرض حضوره عليه. ذلك ان "الثورة" كانت قد قامت، وعامي التردد كانا قد انقضيا، وبدأ الفن يتلمس طريقه وهو يتساءل بكل جدية: ترى أولم يكن هذا ما حلمنا به وسعينا إليه؟ وفي هذا الإطار كان "صراع في الوادي" اول مساهمة لشاهين في تحقيق فن ينتمي الى الأزمان الجديدة، وهو اتبعه بفيلمين آخرين، انتميا ايضاً، وكل بنمط مختلف، الى تلك السينما التي بدأ يخوض شاهين بها معترك القضايا. فكان "شيطان الصحراء" و"صراع في الميناء". وإذا ادركنا هنا ان فيلمين من هذه الثلاثة، على الأقل، حققا نجاحاً جماهيرياً جيداً، يحق لنا ان نتساءل: ما الذي دفع شاهين إذاً في العام 1956 وفي العام الذي يليه الى توقيف عجلة افلامه الاجتماعية للغوص في نوع من الكوميديا الموسيقية عبر فيلمين من انتاج وبطولة فريد الأطرش؟ مهما يكن من امر الجواب فإن الكوميديا الموسيقية كانت منذ البداية واحداً من اهتمامات يوسف شاهين الأساسية، ولم يفته ان يدخلها في العدد الأكبر من افلامه، بتبرير او من دون تبرير. وسيظل هذا دأبه حتى "سكوت حنصور"، آخر فيلم حققه وعرض حتى كتابة هذه السطور. وهو سيؤكد لنا هذا في فيلمه الجديد "الغضب"، حيث سيتحدث ليس فقط عن تأثره المعروف بالممثل والراقص والمخرج الأميركي جين كيلي في مجال الاهتمام بالكوميديا الموسيقية، بل عن الولادة الحقيقية للرغبة في الانكباب على هذا النوع لديه: حدث ذلك حين دخل مرة احد الاستديوهات في هوليوود وفوجئ بأن شاهد ريتا هايوارث تؤدي مشهداً راقصاً من اوبرا "كارمن". هذا المشهد نفسه يستعيده في "الغضب" الآن كجزء من ذكرياته. وفي إمكانه ان يُفهمنا جزءاً من سر هذه العلاقة التي قامت بينه وبين الكوميديا الموسيقية. وهنا، قبل تخصيص فصل تال للبدء بالحديث عن انخراط شاهين في معترك القضايا، بدءاً من "صراع في الوادي"، قد يكون من الأفضل ان نتوقف برهة عند نوعين سينمائيين هيمنا على معظم ما حقق خلال السنوات الخمسين، ووجدا امتدادهما حتى في فيلميه المحققين لاحقاً خارج مصر: "بياع الخواتم" في لبنان و"رمال من ذهب" بين المغرب وإسبانيا، ويعني بهما "الكوميديا الموسيقية" و"الميلودراما". ونعرف طبعاً ان بدايات شاهين مع الكوميديا الموسيقية كأساس للفيلم، لا كجزء منه كان عنوانها فيلميه مع فريد الأطرش: "ودعت حبك" و"انت حبيبي"، وفيهما - كما يمكن ان نتصور، حكم شاهين نفسه بالمعطيات ذاتها التي حكمت تعاونه مع ليلى مراد في فيلم "سيدة القطار". "ودعت حبك": نزوات نجم منذ البداية لا بد من القول ان هذا الفيلم، والفيلم التالي له "انت حبيبي" ما كان يمكن لهما ان يدخلا حقاً تاريخ السينما لولا ان يوسف شاهين هو مخرجهما. فالفيلمان معاً ينتميان الى النوع الذي كان شديد الرواج من الأفلام الغنائية العاطفية والكوميدية التي كانت تحقق لكي تدور حول المغني - النجم، حاملة جزءاً من شخصيته الحقيقية، مشتغلة لمدّ هذه الشخصية بأبعاد اضافية تعزز من علاقة الجمهور بنجمه - مغنيه المفضل. وفي تلك السنوات، قبل ظهور عبدالحليم حافظ، وفي وقت كان فيه محمد عبدالوهاب انتهى سينمائياً وبدأ يشيخ حتى غنائياً، كانت الساحة باتت خالية امام فريد الأطرش: نجم النجوم ومطرب المطربين في ذلك الحين. كان فريد معشوق الملايين، وكانت كل اغنية يغنيها وكل فيلم يمثل ويغني فيه، سرعان ما ينتشر في طول العالم العربي وعرضه. كان صنماً حقيقياً. وهو كمنتج لأفلامه، والمتحكم اولاً وأخيراً في موضوع الفيلم وشكله كان عادة من يختار المخرجين والكتّاب كما يختار كتّاب الأغاني وشركاءه في التمثيل وما الى هنالك. ويقال عادة ان معظم ما انتج من أفلام إنما كان ينتج على ضوء ضرورته لتكثيف حكاية حب مع نجمة، راقصة او ممثلة، كانت الصحف تتناقلها، فيأتي الفيلم ليجمعه بها، ما يكثف الشائعات ويدفع قلوب الملايين الى الخفقان. وعلى ضوء هذا يمكننا ان نفهم ان يكون الأطرش قد اختار شادية، لتشاركه بطولة ذينك الفيلمين. اما لماذا اختار يوسف شاهين لإخراجهما، فأمر سيظل غامضاً، اللهم إلا اذا كان فريد الأطرش قد اعجب حقاً ب"سيدة القطار" وأدهشه كيف ان هذا المخرج الشاب تمكن من تحليق فيلمه كله حول المغنية ودفع الجمهور العريض، بلغة سينمائية قوية، الى تصديق ما لم يكن ممكناً تصديقه. المهم ان شاهين، قبِل من دون تردد، ولكن مع شيء من الامتعاض كما سيقول لاحقاً، على العمل مع فريد الأطرش، من دون ان تكون له مساهمة حقيقية في السيناريو الذي وضعه السيد بدير للفيلم الأول وأبو السعود الابياري للفيلم الثاني والاثنان كانا في ذلك الحين من ملوك السينما الكوميدية، وسينما النجوم خاصة. "ودعت حبك" تدور احداثه داخل معسكر للجيش من اوله الى آخره. ولكن حتى وإن كان تصوير الفيلم تم بعد اربعة اعوام من الثورة التي قام بها الجيش المصري، وفي العام نفسه الذي سيخوض فيه هذا الجيش واحدة من اولى معاركه الوطنية الكبرى خلال العدوان الثلاثي ما يجعله في مقدمة الجيوش العربية سمعة ووطنية، والقوة السياسية المحركة الأولى في مصر، قومياً، فإن اياً من هذا لن يكون له دور في مسار الفيلم. وكذلك ستغيب عنه تقريباً، كل اساليب لغة شاهين السينمائية، وكل هوليوودياته. واضح في نهاية الأمر ان فريد الأطرش، كاد يكون المخرج الحقيقي للفيلم، كما ستكون حاله مع الفيلم التالي. ومن هنا لم يكن غريباً ان يحضر فريد الأطرش في كل لقطة من الفيلم بمبرر او من دون مبرر، وأن يكون محط اعجاب ورغبة كل الآخرين، من جنود مرضى ومن ممرضات... في الفيلم. فالفيلم يدور عن ملازم البحرية احمد يسري فريد الأطرش الذي ينقل الى مستشفى الجيش بعدما اجريت له عملية اسفرت عن وضع لم يترك له سوى ايام يعيش فيها. وإذ يجد احمد نفسه في عنبر واحد مع عدد من المرضى يغلق كل السبل امام الآخرين لفتح اي حوار معه، على رغم مرحهم وحبهم الحياة. انه انسان منغلق على نفسه لا يريد التواصل مع الآخرين على رغم اصرارهم، هم على ذلك. اما الشخص الوحيد الذي يبدأ بالحوار معه فهو الطبيبة العسكرية حورية شادية التي تحاول جهدها التخفيف عنه، من دون ان تقول له او يقول له احد غيرها، انه ميت عما قريب لا محالة. المهم ان حكاية غرام تبدأ بين احمد وحورية، بخاصة اذ تكتشف ويكتشف بقية المرضى ان لأحمد صوتاً عذباً... ويقوده الغرام الى ان يبدل شخصيته تماماً، فينفتح على الآخرين ويصبح صديقاً لهم ويبدأ حتى بالغناء امامهم: إن الحب يفعل المعجزات... لكنه لن يبعد عنه شبح الموت. وهو سيكتشف هذا بنفسه خلال الجزء الأخير من الفيلم حين يكون في سبيله لتحضير اغنية سينشدها لرفاقه ليلة احتفال ما، فيعرف الحقيقة المرة: يعرف انه سيموت... ولا يغضبه هذا بقدر ما يغضبه ادراكه ان الآخرين بمن فيهم حورية قد كذبوا عليه. ويرفض المشاركة في الحفلة... ولكن الحب والصداقة يتغلبان مرة اخرى، ويغني ولكن تلك الأغنية تكون اغنيته الأخيرة، اذ يعلن واحد من رفاقه عن نهايته. والواقع ان نهاية من هذا النوع لفريد الأطرش في الفيلم كانت امراً معتاداً في ذلك الحين، ذلك ان اسطورة المرض والموت - والبقاء بالتالي من دون زواج - كل هذا كان يشكل جزءاً من شخصية النجم وعلاقته مع جمهوره. وشاهين لم يحاول ان يشذ هنا عن القاعدة، حتى وإن كان ابتعد عنها في الفيلم التالي "انت حبيبي" حين اوصل علاقة نجم النجوم بشادية نفسها الى نهاية سعيدة. اما بالنسبة الى "ودعت حبك" فإن على رغم كل سذاجته وعلى رغم غربته التامة عن السينما الشاهينية، فإنه يظل فيلماً مسلياً، عرف فيه شاهين كيف يصور الأغاني، وحتى كيف يتحايل على فريد الأطرش نفسه مبدياً الكاميرا والكادر على الحضور الذي كان يتعين عليه ان يكون طاغياً. ولاحقاً سيروي شاهين طرفة تتعلق بهذا الفيلم، إذ بعد الانتهاء منه والبدء في التحضير لعرضه اتصل به فريد الأطرش محتجاً، سائلاً إياه عما اذا كان يمكنه ان يزيد كيلوغرامين لوزن الفيلم. ذهل شاهين يومها، فهو لم يكن يعرف ان الأفلام تقاس بالكيلوغرام. لكن الأطرش شرح له الوضع: حين اراد تصدير نسخ الفيلم لتعرض في احد البلدان العربية، اكتشف ان الوزن ناقص عن الوزن المعتاد بمقدار 2 كلغ... فاتصل بشاهين لهذه الغاية. والطريف ان شاهين اضاف الوزن المطلوب! "انت حبيبي": الصنم يتزوج لا يختلف "انت حبيبي" عن "ودعت حبك" إلا في الموضوع. فالأمر هنا عبارة عن كوميديا عائلية ما مكن شاهين من ان يكون على سجيته اكثر في استخدام الديكور ورسم الجو العائلي كما كان فعل في "بابا امين" على سبيل المثال. وفي هذا الفيلم، من "بابا امين" ايضاً موضوعة المال، فهي العنصر الأساس في حبكة الفيلم. وهذه الحبكة تدور حول فريد فريد الأطرش وياسمين شادية اللذين لا يشعر الواحد منهما إلا بالكراهية تجاه الآخر. ولكن ذات يوم يكتشفان ان اسرتيهما تدفعان بهما الى الزواج، لمجرد ان قريباً لهما رغب في ان يؤول الى كل منهما نصف ثروته، شرط ان يتزوجا. ومن هنا اذا كان ثمة ما يجمع بين الاثنين منذ اول الفيلم، فهو تآمرهما معاً، لكي يفلتا من هذا الشرط، خصوصاً ان كلاً منهما يقيم علاقة مع شخص آخر. وفي نهاية الأمر، لفرط ما يجتمعان معاً ويتآمران معاً ويعارضان معاً، يكتشفان ان الأمر انتهى بهما لأن يغرما ببعضهما البعض. وهذا كله وسط جو من المرح اخذ فيه فريد الأطرش كل حريته في ان يلعب وأن يغني ما شاء له الهوى، امام كاميرا شاهين الحيادية الى حد بعيد، والتي اكتفت بأن تترجم السيناريو - المحبوك على اية حال - حرفياً من دون اي تدخل يذكر. كان من الواضح، ولا يزال واضحاً حتى الآن، ان شاهين حقق هذين الفيلمين من دون كبير اقتناع بإمكان ان يضيف اي منهم جديداً الى عمله السينمائي. كانا فيلمي توصية، يمكن ان يصنعهما اي مساعد مخرج لإبراز قيمة النجم وتعزيز علاقته بجمهوره. وإذ قبل شاهين تحقيقهما، كان من الواضح ان هذا لم يكن إلا لدوافع معيشية. ولعل اغرب ما في الأمر ان شاهين حقق بعد "انت حبيبي" الذي سيظل واحداً من اكثر افلامه سذاجة، ذلك الفيلم الذي سيعتبر واحداً من اهم افلامه وأكثرها عمقاً، بل واحداً من افضل ما حققته السينما العربية في تاريخها. وهو لئن كان قد اتبع "باب الحديد" - وهو الفيلم الذي نعنيه هنا - ذا المذاق الاجتماعي والسيكولوجي، بفيلم جدي آخر ذي مذاق وطني وهو "جميلة الجزائرية"، سيعود بعد هذا الأخير، الى "فترة سوداء" اخرى من حياته، يحقق خلالها اربع ميلودراميات لا تقل سوءاً عن كوميدياته الموسيقية التي ذكرنا. وهي الأفلام التي تشكل كل المتن الشاهيني خلال السنوات الثلاث 1959- 1961 التي كان فيها مخرجنا يشعر بأقسى درجات الضياع ويسأل نفسه عن جدوى كل ما يفعل. ولكن هنا قبل ان نتوقف عند هذه الميلودرامات، سيكون من الأفضل الانتقال سنوات عدة الى الأمام عند الفيلم الذي اوصل فيه شاهين اسلوب الكوميديا - الموسيقية، الى ذروته، وبدا فيه مستفيداً من الدروس التي حفظها جيداً. "بياع الخواتم" :خارج الوطن داخل اللون تماماً مثل "صلاح الدين" الذي كان سابقه وآخر فيلم حققه شاهين في مصر قبل خروجه منها، اوائل سنوات الستين، في زحمة من غادر القاهرة من بين اهل السينما، غضباً من قوانين التأميم الاشتراكية التي طاولت في ما طاولت قطاع التوزيع الذي كان اغلبه في ايد غير مصرية، وسعياً وراء آفاق رزق جديدة تبدت بيروت في ذلك الحين مكانها الأثير، لم يكن فيلم "بياع الخواتم" الذي حققه شاهين في بيروت وعند بداية العام 1965، فيلماً له: فكما ان "الناصر صلاح الدين" كان من المفترض ان يحققه عز الدين ذو الفقار لكن مرضه اقعده عن ذلك فحل شاهين مكانه، كذلك كان من المفروض ان يحقق "بياع الخواتم" مخرج فرنسي يدعى برنار فاريل، لكن ظروفاً معينة حالت دون ذلك، فكان ان جرى الاتفاق بين الفنانين اللبنانيين عاصي ومنصور الرحباني، وبين شاهين لكي يحل محل فاريل. ونقول هذا هنا، اولاً على سبيل الحقيقة التاريخية، وثانياً للتوطئة من اجل تفسير الكيفية التي تمكن بها شاهين هنا، وقد صار في اوج نضوجه، من الاستحواذ على فيلم غير- شاهيني محولاً إياه الى فيلم شاهيني بامتياز. اي انه حقق هنا ما كان عجز عن تحقيقه في فيلمي فريد الأطرش. ومع هذا، من قبل دخول شاهين، او حتى برنار فاريل الى مشروع "بياع الخواتم" كان المشروع مكتملاً. إذ نعرف ان هذا العمل كان في الأصل مسرحية استعراضية لفيروز والرحبانيين، قدمت على الخشبات مواسم طويلة قبل ان تولد فكرة تحويلها الى فيلم سينمائي تقوم فيروز نفسها ببطولته. وشاهين كان يعرف المسرحية بالطبع، لذلك لم يتردد طويلاً قبل ان يقبل، وهو مدرك سلفاً ان فرصة ستتاح له هناك لكي يعود، بعد غياب، الى تجاربه المحببة اليه في مجال التجديد في اللغة السينمائية. خصوصاً ان شاهين، منذ "الناصر صلاح الدين" كان اضاف عنصراً جديداً مشجعاً له هو عنصر اللون. وهو لئن كان في "الناصر صلاح الدين" اخفق في تطويع اللون تماماً، طالما ان الملابس والديكورات للفيلم كانت صممت ونفذت قبل وصوله، فإنه هنا في "بياع الخواتم" وجد الفرصة ملائمة تماماً للاشتغال على اللون. ولقد جعلت الصدفة شاهين يشاهد في ذلك الحين فيلماً فرنسياً هو "مظلات شربورغ" لجاك ديمي فاز في "كان" وجمع بين الإبداع اللوني وشاعرية الحوار والغناء في بوتقة واحدة كان شاهين يحلم بمثلها من زمن بعيد. وهكذا، من طريق الكاميرا واللون فقط، تمكن شاهين من ان يجعل "بياع الخواتم" فيلماً شاهينياً، فمن ناحية الموضوع لم يكن ثمة، طبعاً، ما قد يغريه في حكاية راجح وريما والمختار والكذبة البيضاء ورقص الدبكة في الضيعة اللبنانية، خصوصاً انه لم يكن يمتلك ان يغير في هذا كله شيئاً. كان ما أغراه اذاً، في مكان آخر: رفض ان تصور مشاهد الفيلم في قرية حقيقية - فهو كان يريد الاحتفاظ بالطابعين المسرحي والشاعري للعمل من دون اي ايهام ساذج بالحقيقة - وطلب ان تبنى داخل البلاتوه الضخم للاستديو العصري - في ضاحية بيروت الجنوبية - قرية بكاملها من خشب وورق وهي القرية التي اشرف على بنائها، تحت رقابة مهندس الديكور المصري الراحل حبيب خوري، كاتب هذه السطور الذي كان عامل ديكور في ذلك الحين. وبناء القرية على هذا النحو اتاح لشاهين ان يحصر حركة كاميرته في لعبة دائرية، مكنه منها حجم البلاتوه الضخم وارتفاعه. ويومها بنينا بضعة عشر بيتاً غريبة الألوان - ارسلني شاهين لكي اشاهد "مظلات شربورغ" خمس مرات لكي اتمكن لاحقاً من ان ألون له بيدي كل باب ونافذة، وأغير الألوان فيما الكاميرا تستعد للتصوير، تبعاً لتصور مسبق لعلاقة اللون بالمشهد - وأحطنا ذلك كله بقطعة قماش يزيد ارتفاعها على عشرين متراً وعرضها مئتين طليناها بلون السماء الصافية. وعلى هذا النحو راحت كاميرا شاهين تنتقل بخفة من بيت الى بيت ومن مشهد الى مشهد وسط ألوان ونوافذ وملابس ملونة معلقة، اضفت على العمل كله طابع حكايات الجن، مبعدة اياه عن الواقع الى اقصى الحدود. وعلى هذا النحو اعاد شاهين خلق العمل المعروف، مسبقاً، شكلياً. وتمكن من ان يحرك، وسط ديكور متحرك ومتنقل حتى الجنون، الفنانة فيروز التي كانت اعتادت ان تبدو جامدة على الخشبة مكتفية بإيصال صوتها الى جمهورها الذي كان يقبل منها اي شيء. اذاً، بدينامية الكاميرا، وبالتجارب على اللون، وبذلك التوحيد الذي اقامه شاهين بين الأشخاص المتحركين، سواء اكانوا افراداً او مجاميع، وبانسيابية الديكور، تمكن شاهين من ان يخلق على الشاشة حياة، لا تزال ممتعة حتى اليوم حين يشاهد الفيلم. بمعنى انه اذا كان شاهين قد افتقد في "بياع الخواتم" حرية التصرف فكرياً وحتى من ناحية اختيار الممثلين في العمل، فإنه لجأ الى الشكل ليعوض به هذا الافتقاد. ولقد نجح في هذا الى حد كبير، الى حد جعل الفيلم واحداً من افضل الكوميديات الموسيقية التي انتجتها السينما العربية في تاريخها، وهو امر لا ينبغي الاستهانة به، خصوصاً ان شاهين عرف اضافة الى ذلك كله كيف يبقى هوليوودياً - هل كان يمكنه ألا يكون كذلك - في الوقت الذي حافظ فيه على محلية التراث واللغة، واضعاً الكاميرا في خدمة هذا كله. وبعد هذا هل يمكن لأحد ان يهتم حقاً بالموضوع؟ المهم هنا بالنسبة الى شاهين هو انه حقق، شكلياً، ما كان عجز عن تحقيقه مرة حين استخدم فنه لخدمة ليلى مراد "سيدة القطار" ثم حين وضع هذا الفن في خدمة فريد الأطرش. اضافة الى ان تلك التجربة مع نجمة غناء كبيرة مثل فيروز، على رغم ضعف حضورها البيّن على الشاشة، علمته ان في امكانه حقاً، ان يتعامل مع نجوم الغناء الكبار من دون ان يتنازل، اي وهو محافظاً على لغته ومكانته وعلاقته بفنه السينمائي. وهذا ما سيعود إليه لاحقاً في فيلمين له على الأقل، حضر فيهما نجما غناء كبيرين: "عودة الابن الضال" مع ماجدة الرومي "وسكوت حنصوّر" مع لطيفة.