لنا صديق يعمل مستشاراً... وهو يعيش وحده بعد وفاة زوجته، وتقوم على شؤونه خادمة عجوز، تطهو له الطعام وتنظف المنزل.. وتغسل ملابسه وتكويها وتعد له القهوة والشاي. وهذا المستشار رجل قليل الكلام، وبصفته قاضياً فإنه يسأل اسئلة في الدعوى المعروضة عليه ثم يستمع.. وكان يجيد الاستماع.. كان يشرب قهوة الصباح حين لاحظ ان الخادمة تقترب منه وتفتح فمها لتقول شيئاً ثم لا تلبث أن تغلق فمها وتنصرف.. وأحس صاحبنا أن لديها شيئاً يؤرقها وانها تقاوم رغبتها في الكلام. سألها فجأة: ماذا هناك؟ قالت: أنا في ورطة يا سعادة البك. سألها: أي ورطة؟ قالت وهي تجاهد نفسها لتحبس دموعها: أنا في حاجة الى نقود يا سعادة البك. سألها بابتسامة مشجعة: كم تحتاجين؟ قالت: مرتب شهرين... فإذا كان هذا كثيراً فليكن مرتب شهر. أحس صاحبنا بأن هناك مشكلة تواجهها، وعاد يسألها بلطف: أهناك مريض في عائلتك؟ قالت: لا... قال لها: هناك مدين حل عليه موعد الدين.. قالت لا ابداً. وعاد يسألها: فيمَ تريدين النقود؟ قالت: الحرب يا سعادة البك. سألها مندهشاً: أي حرب؟ قالت: حرب العراق... يقولون إنهم سيضربون العراق، وستزيد الأسعار وتختفي السلع، وقد بدأ الناس في تخزين الطعام... ضحك صاحبنا وقال لها: الحرب لم تبدأ بعد فلا داعي للانزعاج ثم أن العراق بعيد. قاطعته بقولها: العراق مش بعيد، بيقولوا فركة كعب.. والحرب مش بعيدة. تأمل صاحبنا اقوال الشغالة وأحس أنها في أزمة حقيقية... قال يطمئنها: سأعطيك مرتب شهر، فاذا احتجت لأكثر من ذلك فسأعطيك مرتب شهر آخر. قبضت الشغالة مرتب شهر كامل، أي أنها قبضت ثلاثمئة جنيه مصري، وبدأت مسيرتها التاريخية في البحث عن الطعام تخزنه حتى اذا جاءت الحرب كانت مستعدة. دخلت الجمعية التعاونية كما دخلت السوبر ماركت، واشترت شوالاً صغيراً من الرز على رغم ارتفاع ثمنه، كما اشترت ثلاثين كيلوغرام معكرونة، ولم تنس شراء ثلاث زجاجات من الزيت، وعلبة سمن اصطناعي تكفيها شهراً او شهرين. أما الشاي والسكر فكان لهما نصيب من الادخار... غاية القول ان الشغالة جمعت في صندوقين طعام الحرب... وتطايرت نقودها كما الحمام. لم يعد معها غير جنيهات قليلة، وعلى رغم أنها عادت الى حال الإفلاس التي كانت عليها قبل القرض، إلا أنها كانت راضية وسعيدة. قال صاحبنا لنفسه: - ما أغرب سلوك الناس من مختلف طبقات المجتمع، ان الشغالة جاءت من قاع المجتمع، ولعل هذا هو السر في قلقها وتحسبها لوقوع أزمة منتظرة. انها تعيش الخوف من الأزمات طوال الوقت، وهي تساهم بسلوكها في خلق الأزمة، ان اقبالها على شراء كميات من الرز والمعكرونة والسمن والزيت وغيرها خليق بأن يصنع وحده أزمة في هذه السلع التي بدأ الناس تخزينها. وأراد صاحبنا ان يعرف منها ما اذا كان هناك كثيرون يخزنون الطعام والشراب. سألها هل كانت وحدها تشتري هذه الكميات أم أن هناك غيرها.. وما علاقة هذا كله بالأسعار. قالت الشغالة: لم أكن وحدي من تشتري هذه الكميات... هناك أناس كثيرون كانوا يشترون أضعاف أضعاف ما اشتريه، أما الاسعار فقد ارتفعت هي الأخرى. قال صاحبنا: ولكنني لا أحس بأن الاسعار ارتفعت بسبب حرب العراق. قالت الشغالة: سعادتك لا تنزل الى السوق... لو نزلت الى السوق لعرفت أنني لا أكذب... سكت صاحبنا وراح يفكر.. لم يكن يعلم هل هي صادقة أم أنها تبالغ شأن من تقدمت بهن السن... قال لها: انت تبالغين قليلاً. قالت: أبداً... وحياة مقامك يا سعادة البك اقول ما أقوله من دون مبالغة. ذهبت الى بائع الجرجير والفجل، فاذا به قد رفع اسعاره... قلت له لماذا.. ما الذي جد على الجرجير والفجل. قال بائع الفجل: الدولار ارتفع... وكان هذا كل ما صدر عن بائع الفجل من تصريحات..