السؤال القاسي كان الفضوليون ينتظرونه ليلتقط بعضهم صورته عندما يمشي كل يوم الى غرفة المطالعة في "غراند أوتيل". بدا هنريك إبسن شخصية خرجت من التوراة بعبوسه وشعره الأبيض ولحيته التي أطلقها على الجانبين وحلقها في الوسط. لكن المسرحي النروجي لا يزال قادراً على اثارة الاهتمام بعد نحو مئة سنة على موته. هذه السنة وحده شكسبير يسبق إبسن في عدد المسرحيات التي تقدم له في بريطانيا، وبدأ موسمه مع "بيتر غينت" التي يخرجها الاسرائيلي ديفيد ليفين على مسرح اركولا. "جون غابرييل بوركمان" ستجول في المملكة المتحدة، وسيلعب ريف فاينز دور البطولة في المسرحية الشعرية "براند". في الربيع المقبل أيضاً ستقدم "السيدة من البحر" و"أشباح" و"كبير البنائين" و"عصبة الشباب". إبسن يلي شكسبير أهمية لدى كثيرين. جورج برنارد شو اعتبره مع أوغست ستريندبرغ "عملاق المسرح في زمننا" وآرثر ميلر شبّه واقعيته ب"تقشير البصل المنهجي". استمد ابسن 1828 - 1906 أعماله من واقعية الحياة اليومية فثوّر المسرح، وبقي يخاطب الأجيال اللاحقة بالهواجس الأخلاقية والحرية الشخصية. في "بيت الدمية" و"هيدا غابلر" تسعى المرأة الى تحقيق ذاتها عبر التحرر النسوي، وفي "براند" يشتعل القس البروتستنتي بالإيمان الأعمى "مثل سيف الله" ويجلب الدمار على أسرته ورعيته ونفسه بتطرفه من دون أن يذرف دمعة واحدة. يواجه خطر موت طفلته إذا لم ينهِ صيامه على الجبل ويعود الى بيته، وإذ يعتزم انقاذها يأتيه ثعبان الجنة في قول الطبيب: "ما أقساك على رعيتك وأرفقك بنفسك". المفارقة ان الطبيب يوافق على المعايير المزدوجة، لكن قوله يحسم موقف القس الذي يشن حملة على الخطيئة. يترك ابنته تموت وزوجته تتبعها وأمه تفارق من دون أن يصلي عليها لأنها رفضت انكار ممتلكاتها. براند يجسد التطرف الديني، المسيحي والمسلم، اليوم ويعيد طرح السؤال القاسي: كيف نحقق ذواتنا من دون أن نتخلى عن الآخرين علماً أن هؤلاء كانوا أغلى الناس عند القس؟ كان عقلانياً رسمياً رأى المسرحي ناطقاً باسم الشعب: ما يعيشه يخبره كل مواطنيه معه. إلا أنه كسائر العقلانيين شكا من الجفاف وقلة الجاذبية والخيال. رجل الطفولة التعيسة والرغبات المقموعة صنع شخصيات تشبهه، وعندما شاهد الكاتب الأميركي هنري جيمس "هيدا غابلر" أشفق على أبطالها الصارمين المكبوتين: "مشغولة بالتعلم الى درجة لا تعيش معها. المرح سيأتي لاحقاً". في "بيت الدمية" مشهد يوحي الجنس في بلاغة قد تكون أقوى من التعبير الصريح. تلوّح نورا بجورب حرير أمام الدكتور رانك الذي يعبدها، وترقص الترنتيلا التي تطلق رغباتها فتمتزج الواقعية بالرمزية وتزيد التعبير حيوية. بقي حذراً في الكتابة على رغم تحديه المجتمع البورجوازي بالتطرق الى الدعارة والأمراض الجنسية. وشغله الصراع بين الحقيقة والوهم، الوراثة والبيئة، الفردية والمجتمع على أنه عجز عن تحقيق التوازن في حياته الخاصة. في الثانية والعشرين حكم عليه بالسجن إذا لم يتكفل بإعالة طفله غير الشرعي من امرأة تكبره سناً، وأنقذه في اللحظة الأخيرة عرض مسرحي رافقه الدفع مقدماً. غادر بعدها بلاده ولم يعد إلا بعد سبعة وعشرين عاماً إلا أن الفضيحة آلمته طوال حياته. بدت سوزانا التي ناداها "مدام" نموذج الزوجة المتفانية لكن الكاتب الخبير في قمع مشاعره لم يؤخذ بواجهتها الهادئة وهاجم قسوة المجتمع على النساء. كتاب سيرته يعتقدون انه لم يمارس الجنس معها بعد ولادة ابنه ويعتقدون ان علاقاته الرومنطيقية بالشابات عندما كبر كانت أفلاطونية. طلب من الملك ان يتدخل لاعفاء ابنه من امتحان في جامعة كريستيانيا أوسلو وعندما رفض هدّده ابسن بالتخلي عن الجنسية النروجية. أحب الأوسمة والألقاب التي سكّنت شكه بنفسه، لكنه تحمل وجاهياً انتقاد الكاتب الشاب كنوت هامسون في جولة محاضرات بعدما اطمأن الى شهرته. حرب الجنسين وضع هنريك إبسن صورة زميله السويدي أوغست ستريندبرغ على مكتبه وشكا: "لا أستطيع أن أكتب سطراً واحداً من دون أن يقف هذا المجنون وينظر إليّ بعينيه المجنونتين"! كان ستريندبرغ هاجم "الخنازيرية" في "بيت الدمية" وقال ان حرب العشر سنوات مع الكاتب النروجي الأكبر سناً كلفته زوجته وأولاده وثروته وعمله! صنع كلاهما المسرح الحديث لكن أحدهما قلب الآخر رأساً على عقب. شخصيات إبسن تحدثت وفكرت في شكل منطقي منظم في حين تقدمت شخصيات ستريندبرغ ثم تراجعت بتشوش وبعثرة. أحد أفضل أعماله "رقصة الموت" يقدم على مسرح ليريك شافتسبري، لندن، ويمنح المشاهدين فرصة مقارنة الرجلين. عنى ستريندبرغ 1849 - 1912 العصابي، الديني بالجنون الجنسي وانسياب الشكل وقوة الأحلام، وحذف الاستراحات غير الضرورية والمشاهد المرسومة وزينة الوجه الشبيهة بالقناع من المسرحيات. سلك الطريق الى النجاح بعد نشره مجموعة "فتزوج" القصصية التي أثارت ضجة بنظرتها الجديدة الى الزواج. حوكم الناشر بتهمة انتهاك الأخلاق فأقبلت الشبيبة على قراءة المجموعة، وتطوع الكاتب للمحاكمة بدلاً من ناشره فربح الدعوى. أدرك عندها موضوعه المفضل: الحرب الدائمة الاستنزافية بين الجنسين سعياً الى السلطة. ازداد شكاً وحساسية وغضباً بعد موت والدته عندما كان في الثالثة عشرة. كانت خادمة والده قبل الزواج وعندما كتب ستريندبرغ "ابن خادمة" تحدث عن المسيرة الطويلة المضجرة في أرض "الذاكرة الظليلة". التحق بالجامعة وجاع وتجمد من البرد في غرفة علوية صغيرة فترك. جرب التمثيل وفشل فابتلع حبة أفيون لينتحر لكنه لم يمت بل استفاق ورأسه يضج بذكريات الطفولة، كتب في أربعة أيام مسرحيته الأولى وقال انه سيكون كاتباً لكن "الخارج عن القانون" و"السيد أولاق" فشلتا فغرق في كآبة. صالحته البارونة رانغل مع قلمه عندما أحبها فطلقت زوجها وتزوجته وأدت دور البطولة في "الآنسة جولي"، في "دفاع رجل مجنون" يتحدث عنها بمزيج من العبادة والاحتقار، وعندما طلقها غادر السويد التي لم تقدره وجال في وسط أوروبا حيث عاش "حياة الفنان" مع بول غوغان وادوارد مونش، وتزوج نمسوية ما لبث أن انفصل عنها بعد عام واحد عاصف. بدأت جحيم ستريندبرغ مع ايمانه بإمكان السيطرة على القوى الخفية في حياتنا والكيمياء القديمة التي عنيت بتحويل المعادن الرخيصة الى ذهب واطالة أمد الحياة. استمد من التجربة مادة "جحيم" و"أساطير" وداوم خلالها على كتابة يوميات ذكر فيها ان زوجته الثالثة حملت منه فوراً "فحقدت علي بسبب ذلك الشرف الكبير، ولكي تغيظني رحلت بجنينها". عادت وطلبت الطلاق على أن يبقيا معاً فأثارت عجبه: "في الخمسين لم أصلح كزوج ولكن في الثامنة والخمسين أصلح عشيقاً!" تحرر من الزوجة - العشيقة واليوميات التي امتدت عشرة أعوام، وكتب بغزارة انجبت بعض أفضل أعماله ك"فصح" و"رقصة الموت" قبل أن يتوفى في الثالثة والستين. كتب عن أزمة الرجل المعاصر اليائس الوحيد اللامنتمي، ورأى الحب علاقة ممزقة بين الرغبة في تدمير الآخر والسعي الى امتلاكه جسدياً. صورت "الأب" رؤيته القاتمة بين الجنسين وبرزت كإحدى أقوى المسرحيات النفسية في العصر الحديث. تمكن من الرمزية والنزعة الطبيعية وكان فناناً ماهراً ومصوراً تحدث عن "الصور النفسية" التي تلتقط بآلة من دون عدسة. اهتم بالسحاب وظهرت في صوره السمات التي سنراها في أعمال السورياليين في عشرينات القرن العشرين. العائد لم تكن "بيت مدهون أيضاً" رواية عن المحامين والمحاكم ومع ذلك كانت الأفضل مبيعاً في المملكة المتحدةبريطانيا وارلندا الجنوبية في 2002. جون غريشام يعود الى "بيته" في "ملك الأضرار" الصادرة عن سنتشيري وتعد المبيعات الكبيرة بوضعه في لائحة الأكثر مبيعاً كالعادة. جو المحاكم والطمع لا يخلو من درس أخلاقي يحلو لغريشام المتدين. يربح الفرد ثروة ويخسر نفسه ثم يستعبدها ويخسر المال. غريشام ربح العالم ونفسه معاً، هو من أغنى الكتّاب اطلاقاً إلا أنه يذهب في مهمات تبشيرية مع أعضاء كنيسته ويستضيف مباريات الدوري الثانوي في البيسبول في بيته الذي يضم ستة ملاعب. بعد نجاحه الباهر الذي بدأ مع "شركة المحاماة" في أول التسعينات عاد الى المحكمة بعد اعتزاله ليدافع عن حقوق أسرة قتل معيلها عندما حوصر بين مقصورتي قطار. نالت نحو سبعمئة ألف دولار تعويضاً والتزم هو بتعهده ثم عاد الى دجاجته الذهب. حلم بأن يكون لاعب بيسبول لكنه افتقر الى المؤهلات المطلوبة فدرس المحاسبة ثم المحاماة وأتى النجاح مع الهواية لا المهنة. شاهد في المحكمة فتاة في الثانية عشرة تعرضت لاغتصاب رهيب فتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو قتل والدها المعتدين. "زمن للقتل" لم تبع غير بضعة آلاف نسخة لكن "شركة المحاماة" درت الدولارات قبل نشرها. اشترتها هوليوود بستمئة ألف دولار ومثّل توم كروز دور البطولة، وكرست هوليوود نجاحه مع اقتباسها "مذكرة بيليكان" و"الموكل" وغيرها. نشر غريشام "زمن القتل" مجدداً ومنحها اسمه جاذبية لا تقاوم فكانت الأفضل مبيعاً هذه المرة.