منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر - وتحدداً منذ انتهاء الحرب الأهلية الأميركية - بدا جلياً ان الولاياتالمتحدة بما تملكه من ثروات طبيعية وإمكانات اقتصادية وصناعية تتجه نحو احتلال مكانة مهمة بين القوى العظمى. وكانت الحرب الأميركية - الإسبانية التي جرت عام 1898 اوضح دليل الى تنامي قدرات الولاياتالمتحدة العسكرية وبروزها قوة عظمى عالمية. إلا ان الانطلاق الأميركي خلال هذه الفترة تأثر بالصراع بين دعاة الانغلاق والعزلة وتيار الانفتاح والهيمنة. واستقرت المعادلة موقتاً على ان تنأى اميركا بنفسها عن ساحة الصراعات الأوروبية في حين تعزز قبضتها على مجالها الحيوي في النصف الغربي من الكرة الأرضية والذي اخذت تطرد منه الدول الأوروبية تباعاً مبدأ مونرو. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأت تتعزز مواقع التيار الداعي الى الانطلاق الى آفاق جديدة لتصريف منتجات المصانع الأميركية التي تضاعف انتاجها مرات عدة خلال هذه الفترة حتى ضاقت بها اسواق النصف الغربي... وفي وجه مقاومة شديدة من التيار الانعزالي حاجج دعاة الانفتاح بضرورة عدم الانكفاء وترك الغنائم الناتجة عن سقوط امبراطوريات اوروبا القديمة العثمانية والروسية والنمسوية حكراً على فرنساوبريطانيا. وقد نجح هذا التيار اخيراً في دفع الولاياتالمتحدة الى المشاركة في الحرب في مراحلها الأخيرة والحاسمة. وفي اول اشارة الى رغبة الولاياتالمتحدة الانغماس في شؤون ما وراء الأطلسي، اقترح الرئيس وودرو ويلسون انشاء عصبة الأمم التي كان هدفها المعلن الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحل المنازعات الدولية بطرق سلمية ومنع نشوب حرب كونية جديدة. اما الهدف الحقيقي فتمثل في اقتسام غنائم الحرب بين الحلفاء المنتصرين وإحكام سيطرتهم على النظام الدولي الجديد. اقتسمت فرنساوبريطانيا كما هو معروف البلاد العربية بموجب اتفاق سايكس - بيكو، في حين حصل الأميركيون على حق الانتداب على اسطنبول والأجزاء المحيطة بها بذريعة الحيلولة دون حدوث مذابح جماعية بين الأتراك واليونانيين. لكن خيبة ويلسون كانت كبيرة عندما رفض الكونغرس مبدأ التورط في مشكلات العالم كما رفض المصادقة على انضمام الولاياتالمتحدة الى عصبة الأمم. مع ذلك ظل التيار الانفتاحي الامبريالي يحاول جاهداً الانخراط في اللعبة الدولية حتى جاءت الفرصة اخيراً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. تلكأت الولاياتالمتحدة كما حدث في المرة الأولى في دخول الحرب بسبب قوة المقاومة الداخلية لكنها انجرت إليها عندما هاجمت اليابان بيرل هاربر اواخر العام 1941. ويدعي بعض المؤرخين الأميركيين ان الهجوم على بيرل هاربر جرى بمعرفة الإدارة الأميركية من طريق سفيرها في طوكيو الذي تسربت إليه خطة الهجوم. لكن الرئيس روزفلت الذي امر بنقل معظم الأسطول الى عرض المحيط ليفوت فرصة تدميره على اليابانيين شاء بعد ذلك ترك هؤلاء يهاجمون بلاده حتى يتمكن من اقناع الرأي العام الأميركي ومعارضي الحرب بضرورة التدخل والانطلاق. ومع انتهاء الحرب بانتصارها كانت الولاياتالمتحدة التي ظهر حجم قوتها للجميع، مصرة على عدم اضاعة الفرصة في صوغ نظام عالمي جديد لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية وهي جندت كل امكاناتها لتحقيق هذه الأهداف. ورأى الأميركيون ان افضل طريقة لحماية مصالحهم وفي الوقت نفسه الابتعاد عن شبهة الهيمنة والامبريالية التي لصقت بالأوروبيين هو انشاء مجموعة من المنظمات والوكالات والأحلاف تعمل من خلالها الولاياتالمتحدة على بسط نفوذها. على الصعيد السياسي تم انشاء هيئة الأممالمتحدة وهي فكرة اميركية خالصة كان الغرض منها استخدام الغطاء الدولي وسيلة لتحقيق اغراض الأمن القومي الأميركي. وحتى تأخذ قرارات الأممالمتحدة صفة الإلزامية جرى استحداث مجلس للأمن يتمتع فيه حلفاء الحرب بميزات تم حجبها عن بقية اطراف المجموعة الدولية العضوية الدائمة وحق استخدام الفيتو. وقد احسن الأميركيون استخدام المجلس خلال الأزمات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة لكن نجاحهم الأبرز كان في استصدار قرار من مجلس الأمن بإرسال قوات تحت علم الأممالمتحدة لوقف الزحف الكوري الشمالي على الجنوب. وتمكن الأميركيون من استصدار هذا القرار نتيجة تغيب المندوب السوفياتي احتجاجاً على مناقشة مجلس الأمن القضية الكورية. لكن السوفيات أدركوا خطأهم في ما بعد وتلافوا تكراره، ومنذ الحرب الكورية دخل مجلس الأمن في شلل شبه كلي بسبب تعارض المصالح الأميركية - السوفياتية طوال سنوات الحرب الباردة، مع انه ظل منبراً لتفريغ حالات الاحتقان السياسي في الأزمات. مع انتهاء الحرب الباردة عادت الولاياتالمتحدة لاستخدام المنظمة الدولية غطاء لتحقيق اغراضها الخاصة وسط استسلام بقية الأعضاء. فكانت حرب الخليج الأولى، التدخل في الصومال، في هاييتي، في البوسنة وغيرها. اضافة الى فرض حصار اقتصادي على كل من لا تروق سياسته للولايات المتحدة مثل ليبيا، السودان، وكوريا الشمالية. في موازاة الجهد الديبلوماسي لتحقيق الهيمنة السياسية وبسبب حال الشلل التي فرضتها المواجهة مع الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن، اندفعت الولاياتالمتحدة خلال سنوات الحرب الباردة الى انشاء احلاف امنية بغرض احتواء المد الشيوعي وعزله. فظهر حلف شمال الأطلسي عام 1949 ثم حلف بغداد الذي آثرت الولاياتالمتحدة البقاء خارجه إبعاداً للشبهة التي سببها انضمام بريطانيا إليه، في الوقت الذي عززت فيه وجودها العسكري في كوريا الجنوبية، اليابان، الفيليبين، قبل ان يتم الإعلان عن انشاء تحالف جنوب شرقي آسيا. لكن النجاح الأميركي الأبرز كان في المجال الاقتصادي حيث تمكنت واشنطن من انشاء مجموعة من الهيئات الدولية تحولت الى أذرع السياسة الأميركية وراحت تفرض من خلالها على بقية العالم المعايير الاقتصادية التي يجب اتباعها وصولاً الى تعميم النموذج الرأسمالي. وعرفت هذه المؤسسات باسم نظام بروتن وودز، وضمت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير اضافة الى الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية وغيرها من الوكالات والتجمعات الاقتصادية. ولعبت هذه الهيئات دوراً بارزاً في فرض السياسات الاقتصادية الرأسمالية، خصوصاً على الدول الفقيرة حتى كادت دولة الرفاه الاجتماعي تختفي بفعل اشتراطات مثل الخصخصة، تعويم العملة الوطنية، تحرير الأسعار، وغيرها من السياسات التي تحاكي النموذج الاقتصادي الأميركي. على ان الإنجاز الأهم ظل ولا يزال متمثلاً بربط الاقتصاد العالمي بالدولار وبالاقتصاد الأميركي الذي اصبحت احواله مقياساً لصحة او مرض الاقتصاد العالمي، فيما تولت منظمة التجارة الدولية اكتساح ما تبقى من حواجز الحماية الوطنية وفتح اسواق العالم امام البضائع والمنتجات الأميركية. بمثل هذه الهيئات والتجمعات الدولية تمكنت الولاياتالمتحدة من كسب الحرب الباردة، وبسط هيمنتها وتعميم نموذجها الاقتصادي والسياسي والثقافي على العالم في ما اصبح يعرف بظاهرة العولمة او الأمركة. وكانت الدلائل تشير الى ان الولاياتالمتحدة ماضية في استخدام هذه الوسائل لبلوغ مرحلة الأمركة العالمية، لكن احداث ايلول سبتمبر 2001 غيّرت الصورة بشكل دراماتيكي، مع انها كانت بدأت تتغير بفعل وصول ادارة بوش الى السلطة. لم تخف إدارة بوش منذ ما قبل انتخابها ايمانها الشديد بحق الولاياتالمتحدة بالعمل منفردة على الساحة الدولية ورغبتها في التحلل من كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تحد من قدرتها على العمل في المجال التجاري والسياسي والعسكري. كما لم تخف ازدراءها للأمم المتحدة التي وصفها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأنها "مقهى حكواتية". اما حلف الناتو فاعتبرته ادارة بوش جزءاً من مخلفات الحرب الباردة وبدأت عملية تحويله من حلف عسكري الى نادٍ سياسي يضطلع بمهمات صغيرة ومحدودة. اما القوانين والشرائع الدولية فهي غير ملزمة، وأي محاولة للحد من قدرة واشنطن على الحركة على الساحة الدولية ستقابل بالرفض المطلق. على ان هذه المفاهيم لم تكن إلا جزءاً من اجندة الإدارة الجديدة، فالوجه المحافظ للإدارة كان عليه ان ينتظر احداث ايلول حتى يظهر بشكل واضح ويبدد كل الشكوك حول توجهات اميركا الجديدة. لم تهز هجمات ايلول رموز العولمة الأميركية فحسب بل هزت المبادئ والنظريات التي رأت في العولمة ومؤسساتها وسيلة لفرض الهيمنة الأميركية بطريقة الجنتلمان الذي صهرته ثقافة نيويوركوواشنطن. فالتيار المحافظ في ادارة بوش تربى في تكساس على ثقافة رعاة البقر، وهو بالتالي لا يرى حاجة الى الأقنعة والأساليب الديبلوماسية لفرض الهيمنة الأميركية على العالم. فأميركا ستفعل ما تشاء جهاراً نهاراً وبالوسائل التي تراها مناسبة. وهي ستعيد تشكيل العالم بما يتواءم وطبيعة مصالحها، وإذا كانت ارادتها في التغيير، كما يرى هذا التيار، مدعومة بقوة عسكرية ساحقة فإن العالم سيرضخ عندما يتأكد من جديتها. ثم ان اميركا لن تسمح لأحد بعد الآن ان يبتزها، فهي لن تقدم جوائز ولن تشتري رضا احد، اذ تكفي الفائز السلامة من نار غضبتها. ثم ان اميركا قوية وهي لا تحتاج ان تختبئ وراء الأممالمتحدة، تلك المؤسسة التي ابتدعتها اميركا، وهي قادرة على تحجيمها او تجويعها بحبس التمويل عنها. اما المجموعة الدولية فهي من بنات خيال المثاليين الضعفاء فليس هناك إلا نحن اميركا القوية وهم بقية العالم الضعفاء، وفوق ذلك فإن اميركا لا تحتاج الى حلفاء فهي قادرة على بلوغ ما تريد بمفردها متى شاءت وحيث شاءت كل ما عليها ان تفعله هو ان تطلق العنان لجموح قوتها وتحطم القيود المفروضة عليها من الداخل والخارج. هذه هي طريقة التفكير السائدة اليوم في الإدارة الأميركية المتحمسة لإسقاط كل الأقنعة العصرية من مؤسسات وقوانين وتفاهمات دولية، والعودة بنا الى عالم يحكمه منطق الهيمنة العسكرية المباشرة الذي استخدمته الامبراطوريات الاستعمارية القديمة. قالت اميركا كلمتها في هذا الصدد، ويبقى على العالم ان يقول كلمته وأن يقرر اذا كان سيسمح لبضعة صقور غير متزنين بفرض إرادتهم على ستة بلايين من البشر. لقد دلت مناقشة مجلس الأمن الأخيرة الى ان هناك فرصة - مهما كانت صغيرة - لرسم حدود القوة الأميركية الجامحة وان فرنسا وألمانيا قررتا الإفادة منها، لكنهما في حاجة الى دعم دولي بشكل عام وعربي بشكل خاص، وهو دعم لم تتردد فرنسا في طلبه على لسان سفيرها في لبنان، لأنها تدرك أنه إذا قرر العالم ان يسقط في هذا الامتحان فهو لن ينجح في اي امتحان آخر. * باحث عربي مقيم في بريطانيا.