عاد الى ذهني مراراً خلال الأيام الماضية قرار الرئيس جورج بوش الأب في 1991 عدم التقدم نحو بغداد بعد تحرير الكويت - القرار الذي نال الكثير من الانتقاد، على رغم التبريرات المقنعة التي قدمها بوش عبر السنين. وكان بين التبريرات الحدود التي رسمها قرار الأممالمتحدة، ومعارضة حلفاء عرب مثل المملكة العربية السعودية، والافتقار الى سياسة واضحة للخروج، وما ذكره بوش مرة واحدة على الأقل عن صعوبة العثور على صدام حسين. وربما يمكننا الآن ان نتصور، مهما كان رأي الرئيس الأب في هجوم الرئيس الابن على العراق بعد 12 سنة، ومهما كانت نتيجة القبض على صدام حسين، أنه يرى أن المصاعب التي تواجهها الولاياتالمتحدة هناك تبرهن على صحة القرار الأصلي. فماذا لو أن انهيار نظام البعث سيدفع بعض القطاعات السنية الى الاحتماء ببقاياه خوفاً من استيلاء الشيعة على بغداد؟ وماذا اذا تحرك الأكراد نحو الاستقلال، ما قد يؤدي الى غزو تركي للعراق؟ وماذا لو كانت القوات الأميركية حالياً أقل استعداداً الآن مما كانت عليه قبل 12 سنة لفرض النظام واقامة حكومة موالية لأميركا في بغداد؟ من النادر للتاريخ أن يوفر فرصة لاستكشاف مدى صحة قرار اتخذ في الماضي من خلال مقارنته بقرار مناقض له في الحاضر. لكن قد يبدو في قضية الرئيسين والعراق انها توفر فرصة كهذه. النهج المعتاد أكثر هو استعمال الماضي لالقاء الضوء على الحاضر. ونجد ان غالبية الباحثين تسير على هذا النهج، عندما تقارن، مثلاً، بين احتلال البريطانيين الأول للبصرة في 1914 وأوضاع حرب الخليج الأولى في 1991، أو بين خطبة الجنرال مود الطنانة عن افتتاح عصر جديد للعراقيين ربيع 1917 والتصريحات المشابهة من الجنرال غارنر بعد نحو 86 عاماً على ذلك. لكنني اعتقد أن الأفضل، بدل عموميات كهذه، العودة الى اعمال باحثين مختصين في ثورة 1958 مثل الراحل حنّا بطاطو والسائرين على نهجه. وكان بطاطو يقيم في بغداد أثناء انقلاب الضباط الأحرار. وانشغل وقتها بالمهمة الصعبة المتمثلة بالعثور على الأدوات المناسبة لتحليل حراكيات بنية العراق الاجتماعية، المنقسمة كما بدت الى مجاميع طبقية ودينية واثنية وعشائرية متمايزة ومتخالطة في الوقت نفسه. وكان بطاطو أقرّ لاحقاً بأن الكم الهائل من المعلومات التي جمعها كان لها "مفعول الشلل". مع ذلك فإن مؤلفه الكبير "الطبقات القديمة" ينجح في تقديم تصور للاحداث الثورية في 1958 على أنها في جذورها تدور على طبقة من المالكين الذين توحدوا للدفاع عن وضعهم المتميز ثم أطاحت بهم قوى اجتماعية على درجات أوطأ من السلّم المجتمعي. وجاءت الأدلة الداعمة على هذا الرأي من خلال تحليل مفصل للتغيرات العميقة في علاقات التجارة والتملك عبر القرن السابق، وأيضاً من الطريقة التي قامت بها التعبئات الشعبية خلال المرحلة المبكرة من حكم عبد الكريم قاسم على أسس طائفية بقدر ما كانت وطنية. جهود بطاطو لا تزال تلهم الذين يحاولون القيام بتحليلات مشابهة اليوم. لكنهم يواجهون مشاكل أصعب من الماضي. ذلك ليس لأن المعلومات عن بنية العراق الاجتماعية اليوم أقل بكثير مما كانت عليه وقتها فحسب، بل أيضاً للنواقص الكبيرة في المعرفة بالخلل الذي أصاب العلاقات الفئوية على يد نظام البعث، والعلاقات الجديدة التي انتجها ذلك النظام. ولا يمكن سوى التكهن بالتغيرات التي احدثتها خمسة عقود من الاصلاح الزراعي ومصادرات الأراضي وصولا الى الوضع الحالي المتمثل باستعادة بعض تلك الأملاك من قبل اولئك الذين يحظون بمباركة "سلطة التحالف". تحليلات بطاطو قبل خمسين عاماً قامت على فرضية مقنعة، وهي أن المجتمع العراقي كان يتحول الى شكل محلي من أشكال العلاقات الرأسمالية. لكن من الصعب القيام بتحليل مشابه اليوم، وهو ما يفتح الطريق أمام تلك التبسيطات الخطيرة التي حملها المنظور الاجتماعي لمسؤولي الانتداب البريطاني، الذين قسموا البلد الى ثلاثة أقسام اثنية ودينية، اضافة الى الاقليات الأصغر والعشائرة الملازمة لتاريخ العراق الحديث. مع ذلك فإن بعض الحراكيات التي تُعزى الى مختلف قطاعات المجتمع كما حددها بطاطو لا تزال موجودة. وأثار اهتمامي اخيراً عندما عدت الى قراءة الابحاث المقدمة تكريماً له في جامعة تكساس في مدينة أوستن في 1989 استمرار عمله في اثارة أفكار جديدة عن الحركيات السياسية الاجتماعية العراقية. وكان بين أهم الأمثلة على ذلك تلك التأملات الذكية في مواضيع بطاطو التي قدمها الباحث سامي زبيدة من كلية بركبيك في جامعة لندن. ورأى زبيدة أن أفراد مختلف الفئات العراقية لا يمكن ان يجتمعوا في ما يسميه حقل سياسي وطني موحد الا عن طريق عملية تعبئة واعية يقوم بها السياسيون. وان هذه العملية بدورها لا يمكن اعتبارها تعبيراً تلقائياً عن مصلحة فئوية أو طبقية بل نتيجة حساب واع للنظام السياسي الأفضل لخدمة مصالحهم. بكلمة اخرى، العراقيون يقفون أمام خيارات تحددها مسبقاً الهوية الوطنية الموحدة. وأضاف زبيدة أن حتى عند تعبئة مختلف العراقيين خلف هوية موحدة فان قادتهم لا يستطيعون ذلك من خلال المصالح الفئوية بذاتها بل عليهم القيام به، على المستوى الوطني، من خلال التوصل الى اتفاق على اطار وطني تتعاون الفئات من خلاله توصلا الى توازن بين المصالح والاهداف. أما اذا لم يحصل فالنتيحة ستكون دوما الفشل. ان هذا يصح اليوم كما كان صحيحا في 1958 . واذ يتقدم العراق نحو انتخابات وطنية سنرى بالتأكيد في شكل متزايد قادة الفئات والمجاميع وهم يعبئونها خلف الغايات الوطنية بقدر ما الغايات الفئوية. كما سنرى في شكل متزايد الضغوط التي تفرض على كل السياسيين على المستوى الوطني العمل من خلال التفاهم مع منافسيهم. اما كان هذا سيؤدي الى نتيجة ايجابية، فهي قضية أخرى. والمؤكد ان الشكوك والمخاوف المتبادلة ستلعب دوراً أكثر سلبية مما حصل في الفترة ما بين 1958 و1963، خصوصاً مع ما يبدو من تراجع قدرة الطبقى الوسطى المدمرة على الاصطفاف وراء أهداف وطنية وليس فئوية. وقد يعنى ذلك اننا سنواجه وضعاً مثل لبنان في 1943 أكثر مما وضع العراق بعد عقد أو أكثر على ذلك. وعند الوصول الى هذه النقطة لن نجد التاريخ مرشداً مفيداً لنا. * مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد.