توفي خلال شهر حزيران يونيو الماضي الدكتور حنا بطاطو الأميركي الجنسية الفلسطيني الأصل، بعد حياة قضى الجزء الأعظم منها كباحث في العلوم السياسية. وهذه المقالة تتعلق بأهم إنجاز دراسي للدكتور بطاطو ولا تتعلق بإنجازاته الأكاديمية الأخرى أو بشخصيته أو حياته. وشهرة بطاطو الأكاديمية تنحصر بشكل أساس بين المعنيين بتأريخ العراق المعاصر، بسبب كتاب بطاطو المعنون "العراق" الذي وقع بعدما ترجمه الى العربية عفيف الرزاز في ثلاثة مجلدات. لا بد هنا من سرد سريع لقصة الكتاب: خلال عقد الستينات والسبعينات من القرن العشرين قامت الدوائر، أكاديمية وغير ذلك، بمجهود كبير لتجميع اكبر ما يمكن تجميعه من معلومات عن الأحزاب الشيوعية في العالم، مدفوعة في ذلك بضرورات الحرب الباردة. وكانت لبطاطو علاقة أكاديمية بالعراق تعود الى عقد الخمسينات، إذ كان قد جمع معلومات عن الحزب الشيوعي العراقي يدعي بطاطو أن جزءاً كبيراً منها كان مدوناً في ملفات الشرطة العراقية وكانت تلك الملفات في طريقها الى الحرق إثر ثورة 14 تموز يوليو 1958 لولا أن بطاطو استطاع الحصول عليها من يد الشرطي الذي كان مكلفاً حرقها. كان بطاطو بسبب معرفته الوثيقة بتأريخ الحزب الشيوعي العراقي من بين من تم في أمريكا تمويل دراساتهم عن الأحزاب الشيوعية في العالم. بعد ذلك استخدم بطاطو دراسته عن تأريخ الحزب الشيوعي العراقي "كالنواة الأصلية"، على حد التعبير الحرفي لبطاطو، لدراسة أوسع عن تأريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي منذ القرن التاسع عشر وحتى عقد السبعينات من القرن العشرين. بعبارة أخرى رأى بطاطو أن تأريخ العراق هو تأريخ الحزب الشيوعي العراقي، بمعنى أن تأريخ العراق قد ولده تأريخ الحزب الشيوعي العراقي، فعلى حد التعبير الحرفي لبطاطو "إن هذا التاريخ أي تأريخ الحزب الشيوعي العراقي يشكل النواة الأصلية التي ولدت منها هذه الكتب أي المجلدات الثلاثة لدراسة بطاطو- المجلد الأول الصفحة 12". ولقد ظهرت دراسة بطاطو الأوسع لأول مرة بالإنكليزية خلال عام 1978، لكن في مجلد واحد تحت عنوان: The old social classes and the revolutionary movements of Iraq. في عام 1990 صدر كتاب بطاطو بالعربية، لكن في ثلاثة مجلدات: المجلد الأول بعنوان "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية"، المجلد الثاني بعنوان "العراق: الحزب الشيوعي"، المجلد الثالث بعنوان "العراق: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار". وحوى كتاب بطاطو كمية كبيرة من المعلومات المهمة، لكن المعلومات المهمة تركزت بشكل أساس في المجلد الثاني، وهي المعلومات التي وصفها بطاطو بأنها النواة "الأصلية" لكتابه في مجلداته المعربة الثلاثة، بتعبير أدق إن دراسة بطاطو تتعلق بتأريخ الحزب الشيوعي العراقي، فهكذا كانت قد بدأت وهكذا كان من المفروض أن تنتهي. أما أن تصبح بعد ذلك "النواة الأصلية" التي تقام على أساسها دراسة أوسع لتأريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولفترة زمنية سبقت ظهور الحزب الشيوعي العراقي بأكثر من قرن من الزمن فلا تبرير علمياً أو موضوعياً ممكناً لذلك. لأن تأريخ العراق المعاصر في حقيقته هو حصيلة تأثيرات داخلية أساسية كثيرة كالوعي العروبي والوعي الكردستاني والوعي الطائفي والوعي المناطقي والوعي العائلي، وتأثيرات خارجية هي الأخرى أساسية كالحكم العثماني والإمبريالية البريطانية والتدخل الواسع النطاق في الشؤون الداخلية العراقية الذي مارسته خلال النصف الثاني من القرن العشرين مصر وسورية وإيران ودول عربية أخرى، إضافة الى الاحتكارات النفطية الاستعمارية الغربية. أما الحزب الشيوعي العراقي فهو عامل واحد فقط من بين تلك العوامل والتأثيرات الكثيرة، ولو اجتمعت فيه التأثيرات الخارجية والداخلية معاً. هنالك انتقادات جذرية يمكن أن توجه الى دراسة بطاطو، سأدرجها على النحو الآتي" 1- يسطر بطاطو في الصفحة 14 من مجلده الأول مصادر معلوماته على أنها: أ- ملفات الشرطة السياسية العراقية عن الأحزاب والشخصيات السياسية العراقية، ب- أوراق ومدونات صادرتها الشرطة السياسية العراقية تعود لقيادات الحزب الشيوعي وحزب البعث، ج- مخطوطات شيوعية عثر عليها في سجني الكوت وبعقوبة، د- مدونات حرفية لاستجوابات أجريت لأعضاء مهمين من الكادر الشيوعي عام 1963، ه- تقارير الاستخبارات البريطانية للفترة 1917- 1931، و- الملفات السرية للضابط البريطاني الرائد ويلكنز الذي كان رئيساً لإدارة التحقيقات الجنائية في العراق ومستشاراً فنياً امنياً للنظام الملكي العراقي، ز- المذكرات غير المنشورة للعقيد رجب عبدالمجيد سكرتير حركة الضباط الأحرار، ح- المقابلات الشخصية التي أجراها بطاطو مع السياسيين العراقيين، ط- السجلات البريطانية العامة والمصادر العربية المطبوعة. ومن المعلوم أن ذكر مصادر المعلومات التي تعتمد عليها أية دراسة هو لإتاحة الفرصة للقراء للتأكد من صحة ودقة ما أورده الكاتب وما قد بناه على تلك المعلومات من استنتاجات، لكن الغالبية العظمى لمصادر دراسة بطاطو غير متاحة للقراء لمراجعتها، بالذات المصادر المدرجة تحت أ، ب، ج، د، و، ز، ح. حتى تلك المصادر المدرجة تحت ه، وكذلك تحت ز فهي الأخرى وإن كانت متوافرة في وثائقها البريطانية فإنه لا يمكن الثقة بها لأن كتّابها ضباط استخبارات أجانب وليسوا باحثين في التأريخ أو الاقتصاد أو السياسية أو علم الاجتماع. بل يستخدم بطاطو لتحليل الوضع الاقتصادي والاجتماعي العراقي أقل المصادر علمية أو ملاءمة، إذ في الصفحة 167 من مجلده الأول يدون بطاطو مصدره على أنه "وثيقة داخلية للحزب الشيوعي العراقي، غير مؤرخة لكنها كتبت في العام 1947 وعنوانها تقرير عن فلاحي البصرة وضعه الرفيق صارم، عضو لجنة منظمة البصرة للحزب الشيوعي العراقي"، ثم في الصفحة 170 يدون بطاطو مصدره على أنه "ورد هذان البيتان من الشعر في مخطوطة شيوعية صادرها رجال الشرطة في العام 1954 في سجن بعقوبة وكانت بعنوان معلومات عن ريف العمارة"! هل المصدران أعلاه يمكن أن تتوافر فيهما أدنى شروط الموضوعية الأكاديمية؟ 2- أعلن بطاطو في مجلده الأول على الصفحتين 23- 24 وما بعدهما تبنيه منهج التحليل الطبقي كوسيلة لتفسير التأريخ العراقي. لا شك في أن منهج التحليل الطبقي إن استخدم موضوعياً وليس كيافطة ايديولوجية قد يقود الى استنتاجات هي أكثر صحة ودقة من الاستنتاجات التي قد يتوصل إليها من خلال منهج تحليل ينكر وجود طبقات اجتماعية متنافرة ومتصارعة ولكل منها أهدافه السياسية. لكن منهج التحليل الطبقي لا يخلو من عيوب" أولاً لأن الموقع الطبقي لا يقود أوتوماتيكياً أو حتمياً الى تبلور وعي ايديولوجي مشترك بين من هم في ذلك الموقع الطبقي، ثانياً إن محاولة التنبؤ بحركة التأريخ وهي ما تسمى بالتأرخة أو التأرخانية من خلال تحليل طبقي للتأريخ قد ثبت فشلها، ثالثاً في حال العراق بالذات، إن صعوبة إن لم يكن استحالة تبلور وعي طبقي بين العراقيين سببه الأساس وجود أنواع عدة من الوعي بين العراقيين، منها الوعي الاثني، والوعي الديني، والوعي الطائفي، والوعي المناطقي، والوعي العشائري، والوعي العائلي، والوعي القومي، والوعي الوطني. في الحقيقة إن تبني بطاطو منهج التحليل الطبقي لم يكن تبنياً جدياً بل كان مجرد يافطة، ويبدو أن بطاطو قد شعر لسبب أو آخر بضرورة التظاهر برفعها. إن ما يثبت عدم جديته في تبنيه وسيلة التحليل الطبقي هو تأكيد بطاطو نفسه لأهمية الوعي الاثني والوعي الديني لا سيما بالنسبة الى يهود العراق الذين كانوا من الرواد الأوائل والممولين الأساسيين للحزب الشيوعي العراقي. ففي الصفحة 287 من مجلده الأول يؤكد بطاطو "روابطهم الحميمة مع أبناء دينهم وأقاربهم في كثير من الأحيان في الهند وأوروبا وأمكنة أخرى وهو ما مكنهم من الحصول على المال فور احتياجهم اليه"، بينما في الصفحة 197 من المجلد الأول يؤكد بطاطو "نادراً ما يولد السلوك التأريخي للأفراد أو لشريحة اجتماعية نتيجة لسبب وحيد". بل ادرج بطاطو وبالتفصيل المواقع الإثنية والدينية والطائفية والعشائرية والمناطقية والعائلية للعراقيين الذين تناولهم في دراسته، فإذا كان منهج بطاطو التحليلي يرتكز على الموقع الطبقي وهو ما أعلنه في البداية، فما هي جدوى ذكر المواقع غير الطبقية لمن تناولهم في دراسته؟ ان منهج التحليل الطبقي الماركسي لا يعترف بأي موقع غير الموقع الطبقي، بالتالي كل منهج تحليل اما ان يكون ماركسياً أو لا يكون، فليس هنالك منهج وسط بين ما هو ماركسي وما هو غير ماركسي. 3- ان عدم وجود تبرير موضوعي لاعتبار بطاطو ان تأريخ الحزب الشيوعي هو تأريخ العراق يتضح منه ان دراسة بطاطو، حتى بعد توسيعها، لم تغط حزب البعث الا بما يعادل جزءاً ضئىلاً مقارنة بتغطيتها للحزب الشيوعي، لكن كيف يمكن لحزب لم يحكم الحزب الشيوعي ان يصنع تأريخاً اكثر من حزب حكم وما زال يحكم حزب البعث؟ بل الأكثر من ذلك، ان بطاطو في دراسته تناول حزب البعث وحركة الضباط الأحرار من زاوية علاقتهما بالحزب الشيوعي فقط، بعبارة اخرى تبعاً لبطاطو تنحصر أهمية المشاركين في صنع التأريخ العراقي بدرجة علاقتهم بالحزب الشيوعي العراقي، ليس إلا! 4- تتضمن دراسة بطاطو كمية مهمة من المعلومات الاحصائية ذات الطبيعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكن تلك المعلومات لم تحلل لاكتشاف ما قد يوجد بينها من علاقات اقتصادية واجتماعية أعمق، أو ان تلك المعلومات الاحصائية التي تضمنتها دراسة بطاطو قد اسيئ استخدامها. فعند تناول بطاطو التركيبة الاثنية والدينية والطائفية لأعضاء الحزب الشيوعي العراقي استخدم التركيبة الإثنية والدينية والطائفية لسكان المدن العراقية وليس لمجموع سكان العراق. على رغم ذلك وجد بطاطو ان نسبة مساهمة الاقليات الدينية والاثنية والطائفية في قيادات الحزب الشيوعي العراقي وقواعده هي أكبر من نسبة مساهمة تلك الاقليات في تركيبة سكان المدن العراقية. لكن نسبة مساهمة الاقليات الدينية والاثنية والطائفية في قيادات الحزب الشيوعي وقواعده كانت ظهرت على حقيقتها، اي كونها اكبر بكثير مما أظهرته دراسة بطاطو، لو أن احصاءات مجموع سكان العراق وليس احصاءات سكان المدن العراقية كانت قد استخدمت لغرض المقارنة. فمن المعلوم ان اكثر من ثلثي سكان العراق حتى مطلع عقد الستينات من القرن الماضي كانوا يقطنون القرى والأرياف وليس المدن، اضف الى ذلك ان الأكثرية السكانية العربية المسلمة العراقية عكس الاقليات العراقية، لا سيما خلال الفترة التي تناولتها دراسة بطاطو، كانت النسبة الأكبر منها تقطن في القرى والأرياف. لقد ترتب على استخدام بطاطو إحصاءات سكان المدن العراقية بدلاً من احصاءات مجموع سكان العراق التقليل مرات عدة من درجة التركز الحقيقية لأبناء الاقليات العراقية في قيادات الحزب الشيوعي وقواعده. 5- خلت دراسة بطاطو من أي محاولة جدية لعرض التبريرات النظرية أو الفلسفية لقيام حركة ماركسية في بلد متخلف فلاح وهي حال العراق بالذات خلال عقد الثلاثينات من القرن العشرين عندما تأسس الحزب الشيوعي العراقي. بل رأى بطاطو في مجلده الثاني في الصفحة 135 وبالحرف الواحد "ليس من اهداف هذه الدراسة مناقشة حسناتها وعيوبها اي حسنات النظرية الماركسية وعيوبها فإن هنالك نقطة لا بد من ابرازها. في البيئة العراقية كانت النظرية الماركسية ملائمة على رغم كل قصورها". وفي الصفحة نفسها رأى بطاطو ان ملاءمة النظرية الماركسية للعراق ليست بسبب حسناتها بل بسبب سيئاتها، كونها تمثل تطرفاً فكرياً أو تمثل على الأقل ما سماه بطاطو النقد الطبقي اللاذع الذي هو في رأي بطاطو ملائم لتطرف الحال الطبقية في العراق. هل ان تطرف الحال الطبقية في العراق على فرض كونه حقيقة - ولو ان بطاطو لم يقدم أية احصاءات عن توزيع الدخل بين الطبقات الاجتماعية في العراق مقارنة بدول مجاورة للعراق كتركيا وايران وسورية مثلاً - يعالج بتطرف آخر؟ ولم يقدم بطاطو أي تفسير جديد لكل ذلك التركز العالي لأبناء الأقليات المسيحية واليهودية والصابئية ثم في ما بعد الكردية في قيادات وقواعد الحزب الشيوعي العراقي الذي أظهرت دراسته جزءاً منه وليس كله، وكون اول خلية شيوعية في العراق اقامها الجورجي السوفياتي بيتر فاسيلي وكان من بين اعضائها الخمسة ثلاثة مسيحيين، المجلد الثاني الصفحة 55- 56. من دون تفسير جدي لكل ذلك التركز العالي لأبناء الاقليات العراقية في قيادات الحزب الشيوعي العراقي وقواعده لا بد من أن يرد التساؤل: هل يعني ذلك ان ابناء الاقليات الدينية والاثنية العراقية هم اكثر تحمساً لنجدة فقراء العراق من ابناء الأكثرية العربية المسلمة؟ الا ان السبب الحقيقي للتركز العالي لأبناء الاقليات الدينية والاثنية العراقية في قيادات الحزب الشيوعي العراقي وقواعده هو ان الدولة العراقية التي قامت عام 1921 وهي ترفع اللافتة القومية العروبية أشعرت ابناء الاقليات الاثنية والدينية العراقية بغربة عنها، ودفعتهم تلك الغربة الى تبني الايديولوجية الماركسية باعتبار ان الايديولوجية الماركسية مناهضة جملة وتفصيلاً للايديولوجية القومية التي تبنتها الدولة العراقية. بعبارة اخرى ان الدولة العراقية بانكارها حقائق التركيبة الاثنية والدينية والطائفية لسكان العراق اتخذت موقفاً غير واقعي، بمعنى انها اتخذت موقفاً متطرفاً، ما دفع ذلك بالاقليات العراقية الى ان تأخذ بدورها موقفاً مناهضاً لموقف الدولة وبدرجة مماثلة من عدم الواقعية والتطرف. فالدولة العراقية في الحقيقة والواقع كانت منذ ظهورها هي من بدأ مسيرة التطرف السياسي في العراق وليس أي شريحة اثنية أو دينية أو طائفية عراقية، سواء كانت تلك الشريحة تمثل اقلية ام اكثرية. ما زالت الدولة العراقية، بالتطرف ذاته وعدم الواقعية، لا بل بمكابرة أشد وبعنف اقسى، تتنكر لحقائق التركيبة السكانية للعراق، معرضة بذلك العراق وسكانه للمعاناة الأسطورية والعذاب الأليم الذي لا بد من انه سيقود، طال الزمن أم قصر، الى ضياع الوطن العراقي والفناء المؤكد للدولة العراقية ذاتها. 6- خلت دراسة بطاطو من اي مجهود جدي لفهم التأريخ العراقي المعاصر على حقيقته، وهو انه تأريخ تميز في شكل اساس بحكم الاقلية للأكثرية بالحديد والنار، ومهما تلونت اللافتة الايديولوجية التي تبرقعت بها الاقلية الحاكمة. لذلك خلت دراسة بطاطو من اي دعوة لقيام حكم دستوري ديموقراطي في العراق بل لم يرد في دراسة بطاطو اي ذكر لمفهوم حقوق الانسان التي انتهكت في شكل صارخ في العراق. بل دعا بطاطو في دراسته الى ان تحكم العراق جبهة تضم البعثيين والشيوعيين وهو ما كان قائماً فعلاً تحت اسم الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، حتى انهيارها عام 1979، اي ان بطاطو دعا الى ان تحكم العراق نخبتان اي اقليتان ايديولوجيتان افرزتهما الظروف العراقية غاية في التعقيد والتطرف، هما النخبة البعثية والنخبة الشيوعية، وليس ان يحكم الشعب العراقي من خلال صناديق الاقتراع الحر النزيه. بذلك أغلق بطاطو الباب على كل امل بقيام نظام حكم ديموقراطي في العراق، يختار الشعب العراقي بموجبه نظام الحكم الذي يرتضيه والحكام الذين يرتضيهم. ولقد خلت دراسة بطاطو من اي مجهود جدي لفهم التأريخ العراقي على حقيقته وهو انه تاريخ صراع اثني وديني وطائفي ومناطقي وعشائري وعائلي تبرقع ولا يزال ببراقع ايديولوجية، تبعاً للضرورات التي وجدت كل شريحة من الشرائح العراقية نفسها فيها. فالفكر الماركسي على رغم امميته وعلمانيته التامة استخدم في العراق استخداماً فجاً لتعزيز مواقع اثنية وقومية ودينية وطائفية. كذلك الفكر القومي ومنه البعث على رغم علمانيته وعروبيته فإنه استخدم في العراق استخداماً فجاً لتعزيز مواقع طائفية وعشائرية وعائلية. بعبارة اخرى لا يهم ما هي اللافتة الايديولوجية التي يتبرقع بها النظام الحاكم في العراق او معارضوه، فالصراعات في العراق تبقى الصراعات ذاتها التي هي نتيجة للتركيبة السكانية المعقدة للعراق وليس نتيجة لتباين حر في الآراء بين العراقيين. لقد نوّه بطاطو في دراسته بتعمق الطبيعة العشائرية لنظم الحكم العراقية منذ انقلاب 8 شباط فبراير 1963، بل اكد ان نظام البكر - صدام سائر في طريق ما سماه بطاطو تكرتة نسبة الى تكريت مدينة البكر وصدام القوات المسلحة والدولة العراقية، الصفحات 397، 398، 401 - المجلد الثالث لكن على رغم ذلك وكنتيجة للقولبة الايديولوجية التي لم يستطع بطاطو التخلص التام منها يصف نظام البكر - صدام أنه نظام الطبقة الوسطى وانه نظام مرحلي، كل ذلك من اجل ان يتمكن من تبرير تعاون الحزب الشيوعي مع نظام البكر - صدام استناداً الى تكتيك المراحل الديالكتيكي، ولو ان السبب الحقيقي لتعاون الحزب الشيوعي العراقي مع نظام البكر- صدام هو ان موسكو بعد توقيع النظام معاهدة الصداقة والتعاون معها عام 1972 وجهت امراً الى الشيوعيين العراقيين بالتعاون. وفي الحقيقة والواقع فإن نظام البكر - صدام قام بتدمير الطبقة الوسطى، فهو نظام حكم قروي، لا بل اكثر قروية من نظام عبدالرحمن عارف الذي كان حل محله، وأكثر قروية من نظام حكم اخيه عبدالسلام عارف الذي كان هو من بدأ حكم القرى في العراق. 7- لكن، هل خلت دراسة بطاطو من الحسنات؟ بالطبع لا. ان المساهمة الأساسية لدراسة بطاطو هي في تسليطها الضوء الساطع الذي أظهر بجلاء ان الدور الفكري الحاسم في العراق خلال القرن العشرين كان من نصيب الاقليات. فأبناء الاقليات هم من جاؤوا بالافكار الأوروبية المنشأ، بالذات الماركسية والفاشية، الى المجتمع العراقي وليس أبناء الأكثرية العراقية. كذلك في تسليط دراسة بطاطو الضوء الساطع على الدور المهم الذي قام به غير العراقيين في تأريخ العراق المعاصر، ليس فقط دور غرترود بيل ودور ساطع الحصري اللذين كانا منظري النظام الملكي وفيلسوفيه، بل دور الأرمني آرسين كيدور الذي كان هو من ادخل الايديولوجية الماركسية الى العراق، الصفحة 39 - المجلد الثاني والجورجي بيتر فاسيلي الذي كان هو من أنشأ أول خلية شيوعية في العراق. كذلك دور السوريين فايز اسماعيل ووصفي الغانم اللذين كانا أول من بذر البذرات الأولى لحزب البعث في العراق، حيث قاما بإنشاء فرع لحزب البعث السوري في العراق، فتلك كانت بداية حزب البعث في العراق، الصفحة 47 - المجلد الثالث. في ما بعد اصبح لجناح ميشيل عفلق الذي كان طرد من حزب البعث السوري تأثير ايديولوجي وسياسي أساسي في نظام حكم البكر - صدام. ان الانقياد للأجانب هو ظاهرة ينفرد بها العراقيون في تأريخهم المعاصر مقارنة بالشعوب العربية الأخرى، لكن سؤالاً لا بد من ان يرد وهو: هل ان الاستعداد العالي لدى العراقيين للانقياد لغير العراقيين هو نتيجة ضعف الوعي الوطني العراقي الذي هو بدوره قد يكون نتيجة لتعقد التركيبة السكانية العراقية؟ ام انه محاولة من العراقيين للتخلص من الهيمنة القاسية والعنيفة لبعضهم على البعض الآخر؟ وأيّاً كان الجواب الأصح فإن ذلك سيكون دليلاً أكيداً آخر على ان التيه العراقي سيطول. وستبقى دراسة بطاطو وللزمن المنظور أهم مرجع في دراسة التأريخ الحديث للعراق. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.