عندما تحدث الرئيس جورج بوش عن تأييده انزال العقوبة القصوى، تخفيفاً لكلمة الإعدام، بالرئيس العراقي السابق المعتقل، وعندما أعلن أعضاء في مجلس الحكم الانتقالي صراحة عن انزال الإعدام بصدام، يمكن أن نفهم أن قوات الاحتلال والهيئة المنبثقة عنها لم تستخلصا النتائج، وهي واضحة، مثل الخطوات الخاطئة التي اتخذت منذ بدء الغزو. كما يمكن أن نفهم أن الصورة التي يراد أن تكون للعراق في المستقبل، إما أنها لا تزال مشوشة، وإما أنها لا تستجيب للإعلان المتكرر عن عراق حر وديموقراطي وتعددي يجد فيه جميع العراقيين مكاناً لهم. فالحديث عن إعدام صدام، بعد أيام قليلة على اعتقاله، يعني أن النظرة الثأرية والعنفية هي التي لا تزال تتحكم بالقائمين على الشأن العراقي حالياً. تماماً مثلما حصل في مسألتي الجيش والموظفين في عهد صدام. إذ لم يحصل أي تفريق بين العراقيين العاملين في أجهزة الدولة، رب العمل شبه الوحيد في البلاد، وبين آلية الحكم وأجهزتها ورجالاتها في ظل صدام. والحديث عن الإعدام، قبل تشكيل المحكمة وإعداد ملفات الاتهام على أساس تحقيق شفاف، وحتى محايد كما يفترض أن يكون القضاء، يفهم منه الرغبة بالتخلص من صدام في أسرع وقت ممكن، من دون الاهتمام بتلك السنوات ال35 التي جرى خلالها بناء الظاهرة الصدامية بأبعادها الحقيقية. وأي كلام عن أن الرجل خلال حكمه لم يكن يأخذ في الاعتبار أياً من هذه الاعتبارات، يعني اننا في صدد تطبيق طريقته في بناء العراق. إذ أن اعتماد الثأر والاعتباطية والعنف لا يؤسس لمرحلة جديدة من التسامح الضروري لارساء التعددية الجديدة في الحياة السياسية العراقية. ثقافة القتل كانت هي السائدة في ظل صدام، بذنب أو من دونه. وأول ما يمكن أن تحارب به هذه الثقافة، هو اعتماد المفاهيم المناقضة لها، وفي مقدمها التسامح، بمعناه الثقافي - الاجتماعي الواسع. وهذا يتضمن ابقاء الذاكرة متقدة، ويعني أيضاً اتاحة الفرصة لأهالي الضحايا أن يفهموا كيف قضى أحباؤهم ولماذا. لذلك يفترض أن تكون محاكمة صدام هي الأطول والأكثر شفافية، ليس فقط لكشف أسرار فترة حكمه وآلياتها، وحجم الجرائم التي رافقتها، وإنما أيضاً للتعرف على أن ممارسته السياسية كانت تتعارض، وأحياناً تتناقض، مع الشعارات المرفوعة التي باسمها حصلت كل الارتكابات، أي كشف تلك الازدواجية القاتلة التي لم تكن دولة الاحتلال الحالية بعيدة عنها. ولربما، لهذا السبب سيتعجل بوش طلب الإعدام. بدأت في الولاياتالمتحدة تظهر دراسات لمراكز أبحاث قريبة من وزارة الدفاع تتحدث عن صعوبة تأكيد المسؤولية الجنائية الشخصية لصدام، وهي استندت إلى آلاف الوثائق التي جمعت بعد الاحتلال، لتستنتج أن صدام شخصياً لم يعط أمراً صريحاً بالقتل، وإنما كان يترك للقريبين منه أن يستنتجوا رغبته، على أن تصدر الأوامر الصريحة من مراتب أدنى. ويعني هذا الاجتهاد أن محاكمة مكتملة وشفافة قد لا تؤدي بالضرورة إلى إدانة الرجل... والاستنتاج: ضرورة الاسراع بمحاكمته وإعدامه، استناداً إلى جرائم ضد الإنسانية، خصوصاً استخدام الغاز في حلبجة الكردية العام 1988 وقمع الانتفاضة الشيعية العام 1991. ومهما كانت الاجتهادات التبريرية لهذا المنحى موفقة، لن تحجب واقع أن الادعاء كردي - شيعي على رئيس سني، مع كل ما يثيره هذا الواقع من رغبات إنسانية في الثأر والتشفي وتحميل وزر صدام لآخرين، وربما الاتجاه إلى نزاع طائفي بدأ بعض مؤشراته بالظهور. ولذلك، من المفترض أن يكون هناك سعي إلى تطمين السنة الذين عانوا هم أيضاً وطأة الاستبداد الصدامي، إلى أن مصيرهم غير مرتبط بمصير الرجل، وانهم جزء لا يتجزأ من التركيبة العراقية بكل أبعادها، وليسوا فقط سكان المثلث حيث تقع الهجمات على الأميركيين وبالتالي ينبغي اخراجهم من المعادلة. كما يفترض بالسنة عدم التماهي بقضية صدام، لأنها ليست فقط قضية خاسرة، وإنما أيضاً من أجل ألا تحسب عليهم وهم عانوا منها مثل الآخرين.