Michael Foot Essays Old and New 1953-2003. مقالات قديمة وجديدة: 1953-2003. Politico's, London. 2003. 374 pages. تبدو الإشتراكية اليوم محض مصطلح مُغرق في القدم. ولا يكاد الواحد منا يصدق أنها قبل عقد ونصف العقد فقط، كانت لا تزال مثالاً سياسياً بديلاً، أو على الأقل، كانت مساحات شاسعة من وجه البسيطة خاضعة لسلطان النُظم، الزاعمة عهدئذٍ، الإلتزام بتعاليمها ووصاياها. صحيح أن النظم المعنيّة كانت، في ذلك الوقت، بل قبله بأعوام، قيد الإحتضار. بيد أن النسيان الذي يلفّها اليوم، كنظام وفلسفة، يبدو عقاباً مسرفاً لسياسة احتلت، ولقرابة قرنين، موقعاً بارزاً في سياسات العالم وأفئدة العديد ممن آمنوا بأن غاية السياسة تحقيق العدل الإجتماعي. وأي عقاب أقسى من تبرؤ الأحزاب التي دانت بها منها وكأنها صنو لخسارة محتومة؟ ولعل هذا هو التساؤل الذي يكمن خلف مجموعة كتابات الصحافي والقائد العمالي البريطاني مايكل فوت المضمومة في هذا الكتاب. وإذ يُصار الى إعادة إصدارها احتفاءً بميلاد مؤلفها التسعين، ومن خلالها يحتفي المؤلف نفسه ببعض أبرز رموز الإشتراكية، فلسفة وفعلاً، الإ أن نبرة التحسّر على عهد طواه تغلب نزعة الإحتفاء. حتى المقالات القليلة التي تعود الى الخمسينات والستينات، أي الحقبة التي تمتعت الإشتراكية فيها ببعض الوجاهة، فإن قراءتها اليوم لا تشي إلاّ بالتحسر والندم. والإشتراكية التي يحاول فوت إستحضار روحها هي تلك التي آمن بها طوال حياته، واسترشد بها، منضوياً في حزب العمال البريطاني منذ مطلع شبابه، في ثلاثينات القرن الماضي، ومناضلاً فيه، كاتباً ونائباً في مجلس العموم حتى 1992. لكنها أيضاً الإشتراكية التي استرشد بها خلال قيادته الحزب ما بين 1980 وانتخابات 1983 حين مُني حزبه بأقسى خساراته الإنتخابية. غير أن هذه الخسارة، وعلى ما يتضح من هذه الكتابات، لم تقنع فوت بأن إشتراكية منتصف القرن العشرين لا تصلح للسبعينات والثمانينات، ومن ثم فهو لم يرخِ قبضته لا في خصوص ثوابت أيديولوجية شأن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج ومقومات الإقتصاد، ولا حتى في خصوص الدعوة الى التخلص من أسلحة الدمار الشامل، على ما دعا ونادى طويلاً. فالإشتراكية عند فوت ظاهرة متصلة واحدة. لذا فإنه حتى وإن دان بمذهب الإشتراكية الديموقراطية، فإنه لا يضن بالتوقير، ولو المتحفظ، ل"الإشتراكية العلمية"، أي الماركسية وما تفرع عنها من ملل لينينيّة وستالينية وماويّة وغيرها. فهي المذهب الشقيق، وإن الراديكالي على وجه يتعارض مع دعوى الديموقراطية التي يلتزم فوت بها. وخلافاً للمحتفين بانتصار مثال الليبرالية الغربية، وربما نكاية بهم، يعزو فوت نهاية سياسة التسابق على التسلح، ومن ثم نهاية الحرب الباردة، الى الزعيم السوفياتي المخلوع ميخائيل غورباتشوف. وعلى ما يرى فإنه من دون جهوده الإصلاحية لم يكن ثمة أمل في أن تخطو بريطانيا والولايات المتحدة، خاصة في عهد ثاتشر ورونالد ريغان، خطوة واحدة نحو تحقيق سلام دولي. غير أن فوت لا يبخل بالإطراء على الخصوم، أو من حُسبوا على صف الخصوم ما عدا مارغريت تاتشر طبعاً!، لكن شريطة أن تتفق مواقفهم مع مواقفه ومواقف الحركة الإشتراكية التي ينتمي إليها. فعلى رغم أن إدموند بيرك يُعتبر من أبرز المفكرين المحافظين في تاريخ الفكر السياسي، بل رغم هجومه المؤذي على الثورة الفرنسية وهي بحسب فوت من اللحظات المجيدة في تاريخ البشرية، إلا أن القائد العمالي والإشتراكي لا يقلل من شأن نقد بيرك تجاه السياسة الإستعمارية في الهند وأميركا. أما القائد المحافظ ونستون تشرشل، فإن موقفه من مغبّة التسابق على التسلح النووي، وهو الموقف الذي اتخذه في أواخر حياته، يجعله بحسب فوت جديراً بجل ما أُسبغ عليه من صفات الشجاعة وحسن التدبير. والحق فإن مايكل فوت وإن أقبل، من خلال مجموعة كتابات قوامها مراجعات كتب ومقالات تأبين قصيرة ومحاضرات، على الإحتفاء بالإشتراكية وأتباعها، فإنه لا يحتفي بحزب أو مذهب بعينه وإنما بعائلة كبيرة متفرّعة، تربطها بعوائل أخرى أسباب قرابة قريبة وبعيدة. فلا يقتصر رموز الحركة الإشتراكية والعمالية على البريطانيين أمثال روبرت أوين ووليم موريس وهارولد لاسكي وإنيورين بيفن ودنيس هيلي وجون سميث ليس ثمة من إشارة الى توني بلير، ولا عجب في ذلك! وإنما تشمل إشتراكيين من أوروبا وبقية العالم من سان سيمون الى ويلي برانت، مروراً بالمفكر الكاريبي س. ل. جيمس. بل ليس الإلتزام بالتعاليم الإشتراكية ما يضمن، في عُرف فوت، الإنتماء الى العائلة المعنية، أو القرابة منها على الأقل. إذ سرعان ما تنمو فروع وجذور شجرة العائلة الإشتراكية لتشمل مونتاين وميشليه وهايني وهازلت وتوماس باين وإميلين بنكرست ونهرو وأنديرا غاندي وأمارتا سن وغيرهم من عُرفوا بتبني قضايا الحرية السياسية والعدل الإجتماعي والسلام الدولي. وقد تبدو محاولة فوت تنسيب هذا العدد العديد، والمتباعد الأصول، من الشخصيات السياسية والمثقفة الى العائلة موضوع الإحتفاء، أشبه بمحاولة تجنيد دعائي للدفاع عن قضية الإشتراكيّة لا بد من الإقرار بخسارتها، وعسى أن تُساهم المحاولة في الحد من الخسارة النهائية. غير أن الإشتراكية التي يتفاخر بها فوت فعلياً، وخلافاً لما يُعلن ويُصرّح، ليست تلك الظاهرة المتصلة حيث لا غلبة لوجه واحد منها على الآخر، وحتماً ليست تلك التي انتهت الى محاولة يائسة في التشبث بالملكية العامة، او بالأصح ملكية الدولة، لأسباب الإنتاج ومقومات الإقتصاد، أو في الإصرار على دور الإتحادات النقابية في إدارة شؤون الدولة، حتى وإن كانت هذه هي الإشتراكية التي ورثها يوم تزعّم حزب العمال وقاده الى أقسى خساراته الإنتخابية. فالإشتراكية التي تعني فوت، وتسوّغ له أمر الدفاع عنها، إنما ما يضمن حق المواطن في فرص التعليم والعمل، الدفاع عن حقوق المرأة، فضلاً على بناء صرح "الخدمات الصحيّة الوطنية" و"دولة الضمان الإجتماعي" وغيرها من إنجازات مجيدة بما تُغني الإشتراكية عن الإستعانة بالتراث الفكري لهايني وهازلت وروسو وميشليه وتوماس باين وغيرهم. وهذه في الحقيقة هي الإشتراكية التي يودي إحتفال فوت بها الى الإحساس بالندم والتحسّر. وما قد يُجيز لنا، قُراء اليوم، الخلوص الى أن كتابات فوت هذه، خاصة في جنوحها نحو بلاغة تقليدية تُعلي من شأن الأفراد وتشدّد على مواقفهم وإنجازاتهم الإرادية، هي ضرب من التعبير النوستالجي تجاه إشتراكية لم توجد أصلاً. غير أن هذه الخلاصة وإن صدقت فإنها لا تبرّر التناسي المسرف للإشتراكية، خاصة لبعض إنجازاتها التي ما زلنا نعتمد عليها.