من عام 1953، تاريخ انتسابه إلى الحزب الشيوعي، حتى عام 1990، نشر كريم مروة كتابين، الأول، عام 1974، عنوانه، كيف نواجه الأزمة؟ والثاني، عام 1985 وموضوعه المقاومة الوطنية اللبنانية. الأول تتويج لمرحلة نهوض، والثاني، دفاع مستميت عنه، وحنين إلى ما اعتبره الحزب إنجازه الأهم، عنيت به الكفاح المسلح في المقاومة لتحرير الأرض. كتابان فقط في أربعين عاماً، ثم حوالى عشرين كتاباً في عشرين عاماً. 1990 كتاب حوارات، 1997 حوار الإيديولوجيات، 2001 بين أفكار ماركسية وأفكار دينية، 2002 كريم مروة يتذكر، 2003 عشية أفول الأمبراطورية، 2008 كتابان: الشيوعيون الأربعة الكبار، في البحث عن المستقبل، 2009 نحو نهضة جديدة في العالم العربي، 2012 كتابان: قادة تاريخيون كبار، في ثورات القرن العشرين، 2013 في سير وإبداعات المثقفين الفلسطينيين، أفكار حول تحديث المشروع الاشتراكي، 2014 كتابان: وجوه مصرية مضيئة في الفكر والأدب والفن، واعترافات نهاية القرن، وها نحن في 2015 مع كتاب «فصول من تجربتي». لفت نظري أن نتاجه الفكري والسياسي صار غزيراً بعدما بدأت أزمة الحزب، ما يعني أن النضال الحزبي يخلق تناقضاً بين النشاط السياسي والنشاط الفكري. ذلك أن موجبات العمل اليومي تنحاز لمصلحة السياسي داخل كل مناضل فتكبح الجانب الثقافي والفكري فيه. دور السياسي يتطلب منه أن يستعجل اتخاذ القرار، فيما المثقف أو المفكر يتأنى لأن همه هو البحث عن الحقيقة. فيما المثقف يميل إلى طرح الأسئلة يميل السياسي إلى تقديم الأجوبة. وفيما ينحاز المثقف للشك طريقاً إلى اليقين، ينحاز السياسي للجزم والحزم. أزمة الحزب بدأت عام 1985. لكن كريم مروة السياسي فضل تأجيل موعد الأزمة مع أن المثقف الذي فيه قد بدأ الكتابة عنها، بل هو لم يعترف بوجود أزمة في الحزب في الثمانينات. مع أن شهداء الحزب قضوا في عام 1987، ضحية جانب من جوانبها، المتعلق بإصرار القيادة على التحالف مع خصوم الخندق الواحد. في عام 1993 بدأت الكفة تميل لمصلحة المثقف، حين قرر كريم مروة التخلي عن مسؤولياته في القيادة الحزبية والتفرغ للكتابة. كان عاماً حاسماً. لم يتمكن «رسمياً» من تنفيذ قراره إلا بعد عشر سنوات، لكنه نفذه تنفيذاً عملياً حين انتصر للمثقف الذي فيه على السياسي الذي فيه، انتصرت عنده الأسئلة على الأجوبة، وتحولت الأسئلة إلى تساؤلات، وأخذت التساؤلات مداها فبدت تشكيكاً بكل شيء، بحثاً عن اليقين الضائع. تشكيك، لكن بشهامة ونبل، فهو يشكك بكل الماضي لكنه لا يتبرأ منه. قرأ المتشددون شكه ولم يقرأوا التزامه، ولذلك أخذوا عليه ذهابه بعيداً في النقد حين حمّل لينين وماركس والثورة الاشتراكية مسؤولية الكارثة والانهيار، وعدد خمسة عشر حدثاً وواقعة وسبباً لفشل مشروع الاشتراكية كما أخذوا عليه ليونته في السجال مع الفكر الاسلامي، فبدا كأنه يدعو إلى المصالحة مع الفكر الديني لأنه أرفق رأيه بالدين بثورة نقدية طالت مقدسات في عمل اليسار. غير أن مرونة كريم مروه التي بدت بمثابة انهزام أمام الفكر الديني اقترنت بموقف جريء دافع فيه عن ماركس والماركسية، وأعاد فيه الاعتبار للموقف الماركسي الحقيقي من الدين. القطيعة المعرفية في فكر كريم مروة حصلت يوم طلق العمل السياسي بالثلاث وتفرغ للكتابة في ميدان الفكر السياسي. عندها ظهرت جرأته على نفسه وتاريخه وأخطائه وتجربته الحزبية من غير أن يتحول النقد عنده إلى تبرؤ من ماضيه الغني. غير أن جرأته ظهرت أكثر ما ظهرت في موضوعين اثنين: نقده اللغة الخشبية التي كانت الحركة الشيوعية واليسارية لا تزال متمسكة بها رغم كل الانهيارات، ونقده تجربة الحرب الأهلية اللبنانية. في الموضوع الأول، فضلاً عن دعوته الصريحة إلى التخلي عن مصطلح الشيوعية، وإلى تغيير اسم الحزب، وإلى تعديل مفهوم الصراع الطبقي انطلاقاً من التغيرات التي طرأت على بنية الطبقة العاملة، وإلى جعل اليسار قوة جامعة لكل المعنيين بالتغيير الديمقراطي، فهو دعا إلى التخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا وعن كل ما شاخ من الماركسية ولم يعد متماشياً مع معطيات العصر وتطورات العلم، وذلك انطلاقاً من أن الفكر، كل فكر، هو «إبن تاريخه وزمانه ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بشروطهما... ولذلك فإن على اليساري الذي ينطلق من أفكار ماركس ومن مشروعه العظيم لتغيير العالم باسم الاشتراكية، عليه أن يقرأ بدقة التغيرات التي أحدثتها حركة التاريخ في أفكار ماركس». وختم بقول يحتاج إلى كثير من التدقيق: «يشير الواقع التاريخي الى أن الكثير من أفكار ماركس لم يعد صالحاً للعصر. لكن جوهر فكره (الأفضل استخدام مصطلح منهجه بدل جوهر فكره) ما زال مقيماً في صيغة تلائم العصر والتحولات والتغيرات التي جرت فيه. في الموضوع الثاني كان كريم أكثر جرأة وأكثر ارتباكاً في آن. أكثر جرأة لأنه قرر القيام بقراءة نقدية شجاعة لتجربة الحرب الأهلية، محملاً المسؤولية لجميع القوى السياسية، من كل الاتجاهات، في المساهمة، بنسب متفاوتة، في تهيئة الشروط، عن وعي وعن غير وعي، التي أدخلت البلاد في تلك الحرب اللعينة». (ص69) أما ارتباكه فعائد إلى عبء السياسي على المثقف. كريم مروه صار يحكي عن «بلدي الخالد لبنان» وعن اليسار في «بلدي لبنان»، وعن الوطن النهائي مع أنه لا وجود برأيه في كوكبنا وفي الكون كله لشيء نهائي، بعد أن كان هذا الوطن جزءاً من أمة ومن أممية. صار لبنان الديموقراطي مطلبه، بعد أن كان لبنان الحكم الوطني الديموقراطي الذي يفسح في المجال أمام الاشتراكية. حتى بعد أن أعلن كريم نفسه «كاتباً يسارياً مستقلاً» لم يتخل عن كل المصطلحات السياسية أو الأدوات المعرفية القديمة، التي كان عليه أن يصنفها بين المصطلحات التي شاخت ولم تعد تتماشى مع المعطيات الجديدة. هو تحدث عن الديموقراطية وأشاد بها إطاراً وحيداً يتسع لكل أشكال التعدد والتنوع والتمايز، لكنه رأى تجسيدها «في الشعار المرفوع منذ عقود في صيغ مختلفة ولأهداف متناقضة، شعار إلغاء الطائفية السياسية» (ص25)، في حين أثبتت التجربة أن نقاش ظاهرة الطائفية تحتاج إلى أدوات معرفية جديدة بعد أن ثبت عقم المعالجات والأبحاث السابقة حولها. وهو تحدث عن المحاصصة لكنه وصفها بأنها طائفية، في حين أن المحاصصة لم تكن مرة محاصصة بين طوائف بل بين أشخاص من طوائف. وهو تحدث عن فصل الدين عن الدولة، وهما غير قابلين لا للدمج ولا للفصل، لأن الصحيح هو الفصل بين سلطة الدولة وسلطة رجال الدين، لأن الدولة الحديثة تعريفاً هي دولة القانون والسيادة لا تعني غير سيادة القانون. وهو تحدث عن الطابع الطائفي للدولة وعن سيادة الطائفية وعن التوزيع الطائفي والمذهبي وهذا كله، من وجهة نظري، غير صحيح، والصحيح هو ما يقوله كريم في مكان آخر حين يصف الدولة القائمة بأنها دولة «الأفراد والعائلات والسلالات الاستبدادية». لم يكتف مروة بقراءة التجربة قراءة نقدية جريئة، بل حاول أن يرسم أفقاً للمستقبل، فاقترح مشروع برنامج لإنقاذ اليسار والوطن والوطن العربي، وهذا بدوره يحتاج إلى نقاش. * كاتب لبناني