شهد العام الحالي انعطافة مهمة في صناعة نظم تشغيل الكومبيوتر Computer Operating Systems. والأرجح انها ستترك آثاراً بعيدة المدى على تاريخ المعلوماتية كلها. نبدأ من معرض الكومبيوتر والمعلوماتية السنوي "كومدكس-2003" Comdex الذي اختتم اعماله في مدينة لاس فيغاس، في ولاية كاليفورنيا الاميركية. وشهد المعرض اعلاناً عاصفاً عن التحالف بين شركتي "صن مايكروسيستيمز" و"ايه ام دي" AMD. لماذا اعتبر اعلان هذا التحالف خطوة مهمة في صناعة الكومبيوتر وتطورها؟ لنبدأ بالتأمل في طرفي التحالف. تمثل "صن" شركة للبرمجيات الرقمية من انواع مختلفة. واشهر ما انجزته سابقاً كان لغة "جافا" Java التي تستخدم كثيراً في الانترنت والاجهزة الالكترونية وغيرها. وفي هذه السنة، ومع استعار المنافسة بينها و"مايكروسوفت"، اطلقت "صن" نظام تشغيل جديداً. وبسرعة اشارت الصحف اليه باسم "ماد هاتر" او "صانع القبعات المجنون". وراجت التسمية على رغم عدم دقتها. ويعمل نظام "صن" بواسطة تطوير خاص لنظام تشغيل الكومبيوتر المعروف باسم "لينوكس" Linux ذي المصدر المفتوح. ويتضمن "ماد هاتر" تطبيقات تشابه ما تقدمه شركة "مايكروسوفت" في برامج المكتب "اوفيس". والحال ان "صن" قصدت منافسة "مايكروسوفت". ويعتبر نظام "صانع القبعات المجنون" احدث منافس لنظام التشغيل المشهور "ويندوز"، الذي يدير اكثر من 95 في المئة من اجهزة الحاسوب الشخصي والمكتبي في العالم. ههنا نقف لحظة لنشدد على امر مهم هو ان نظام التشغيل "لينوكس" استُعْمِل في صُنع نظام تشغيل اخر. وهذه اهم ميزة في نظم التشغيل المفتوحة المصدر، اي انها نظم تتيح للمبتكرين ان يستخدموها في انتاج نظم تشغيل خاصة بهم! نعم. لنتأمل بهدوء. لهذا السبب، وغيره، اعتبرت الاممالمتحدة ان النظم المفتوحة المصدر هي "باب الأمل" امام دول العالم الثالث لتجاوز الفجوة الرقمية في التكنولوجيا، التي تفصلها عن دول العالم المتقدم. وسنعود الى هذا الأمر لاحقاً في هذا المقال. تحالف يذكر بماضي "وين-تيل" ماذا عن الطرف الثاني من التحالف؟ تعمل شركة "اي ام دي" في صنع رقاقات الكومبيوتر. وهي المنافس الرئيسي لشركة "انتل" العالمية، عملاق صناعة الرقاقات الالكترونية التي تضع رقاقاتها على ما يقارب من 90 في المئة من أجهزة الكومبيوتر الشخصي والمكتبي. والمعلوم ان المكوِّنات الاساسية للكومبيوتر تتمثل في الرقاقات الالكترونية ونظم التشغيل. وبمعنى اخر، فان التحالف بين شركتي "صن" و"اي ام دي" يفتح صناعة جديدة نوعياً في عالم المعلوماتية. وحتى منتصف التسعينات، كانت صناعة الكومبيوتر في العالم توصف بانها "وين-تل"، اي انها مزيج من نظام التشغيل "ويندوز" ورقاقات شركة "انتل". وفي مقابل هذه الصيغة، ظهر في "كومدكس" ثنائي جديد قوامه "صن" و"اي ام دي". الارجح ان هذا "الثنائي" لن يصل الى ما وصله "وين-تل"، لاسباب عدة. ولكنه كسر الثنائي القوي الذي تحكم بالصناعة المعلوماتية لفترة طويلة. وما زالت صيغة "وين-تيل" هي الاكثر انتشاراً وشيوعاً، لاسباب عدة في مقدمها تفوقها التقني. ولكن السوق باتت فوَّارة. ولم تعد صورة صناعة الكومبيوتر ساكنة. الصين...الصين...الصين قبل "كومدكس-2003"، كانت صناعة الكومبيوتر قيد الصدمة القوية التي احدثها اعلان دول اسيوية عزمها انتاج نظام تشغيل خاص بها. وضمت قائمة تلك الدول كلاً من الصين واليابان وكوريا. وتملك هذه الدول جميعها باعاً طويلاً في شؤون التكنولوجيا عموماً، وخصوصاً الرقمية منها. سنكتفي ببعض الملاحظات السريعة عن الصين. واخر ما تناقلته وسائل الاعلام عن هذا البلد هو الفضيحة "العلمية" التي يتخبط فيها جيب بوش، شقيق الرئيس وحاكم ولاية فلوريدا. وقوام الفضيحة تلقيه رشى عن عمليات نقل تكنولوجيا رقمية متقدمة الى الصين. وشهدت ايام الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون فضيحة مماثلة، لكنها تركزت على سعي الصين الى امتلاك تكنولوجيا رقمية متطورة في مجال الاتصالات. وابسط ما يقال هو ان الاتصالات المتطورة هي الوجه الاخر من العملة التكنولوجية نفسها التي تعمل بها صناعة اجهزة الحاسوب. اي ان الصين استطاعت نقل تكنولوجيا رقمية متقدمة في عهدين متناقضين، من اميركا التي هي قلب علوم المعلوماتية وصناعتها. وقبل "كومدكس-2003" بيوم واحد، حدث تطور لافت. اعلنت شركة "صن مايكروسيستيمز" عن صفقة كبرى مع شركة "تشاينا ستاندرد سوفت وير" China Standard Software، واختصاراً CSSC . والمعلوم انها تمثل ائتلافاً من شركات عدة تعمل في تكنولوجيا المعلوماتية، وتربطها صلات متعددة مع الحكومة الصينية. وتشمل الصفقة نقل تكنولوجيا نظام التشغيل "صانع القبعات المجنون" الى الصين، مع التطبيقات المرافقة له كافة، واعتماده كأساس في تطوير نظم المكتب في الكومبيوترات الشخصية والمكتبية في الصين. وفي معنى ما، فان الصين دخلت الى صناعة نظم تشغيل الكومبيوتر، بخطوة مزدوجة قوامها نظام لينوكس المفتوح، الذي يستند اليه نظام صن، مع تطبيقات المكتب التي تصنعها تلك الشركة. ويزيد في قيمة الخطوة ان تطبيقات المكتب من صن تشتمل على محرك بحث مستقل، يعمل بواسطة لغة "جافا". وهكذا امسكت الصين بخيوط متعددة في الصناعة المعلوماتية والاتصالات والانترنت. ماذا لو قارنا كل هذا الفوران مع ما يحصل في عالم العرب؟ ما الذي فعله العرب في نشر الوعي باهمية النظم المفتوحة المصدر؟ اين هي المبادرات العملية لصنع نظم تشغيل خاصة بالعالم العربي؟ هل ما زال البعض يعتبر هذا الامر "حلماً بعيداً" ويصر على الاكتفاء من الغنيمة بالاياب، ومن تكنولوجيا الكومبيوتر بالاستهلاك؟ لماذا يرَوِّج العرب، واحياناً بصورة ببغائية، كل اماني المعلوماتية واحلامها، وعندما يصل الامر الى وضع اليد في الصناعة فعلياً، نراهم ينكصون؟ من المضحك المبكي ان الجامعة العربية الكريمة اختارت وفدها الى قمة المعلوماتية في جنيف، التي ستنعقد منتصف الشهر الجاري، من اوساط الشركات التي لها مصالح مباشرة في السوق، بدل محاولة اختيار اشخاص مستقلين، على الاقل لكي تضمن انهم سينظرون الى كل البدائل بحياد. بالطبع، لا نشكك في الاشخاص الذين تم اختيارهم، ولكننا نطرح السؤال عن عملية الاختيار نفسها. وللحديث بقية. [email protected]