حسناً فعل الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بقوله في تسجيل صوتي نسبته اليه قناة "العربية" ان الحل في "أن يعود العراق وفق ما كان عليه". هذه العبارة وحدها يجب أن تكون كافية للشعب العراقي لمقاومة "المقاومة" التي تريد للعراق العودة الى ما "كان عليه" من استبداد وبطش مارسه نظام صدام حسين، ومن حال البؤس والفقر التي وضع الشعب العراقي فيها. هذه العبارة توضح للعراقيين ان صدام حسين أو بقايا "البعث" يريدون اعادة امتلاك العراق ويتوقعون أن يفديهم الشعب العراقي "بالدم" كالعادة. وكي يعود العراق الى حوزتهم، تحالف هؤلاء مع الآتين الى العراق بارهاب يفتك بشعبه بلا تردد، فهم اعتادوا التضحية بالبلد والناس من أجل السلطة المريضة. شعب العراق قادر على رفض العودة الى "ما كان عليه" ورفض استمرار الاحتلال لأجل طويل. ما يحتاجه ليس مزايدة الشعوب العربية عليه، وانما فهمها حقاً الشعارات والمهاترات. تتجادل المنطقة العربية حول العراق من منطلق: ماذا تريد أميركا من العراق وما هي خططها للمنطقة؟ تتجادل من زاوية العبث الأميركي بسياسات رهيبة ومن زاوية الرد الارهابي على هذه السياسات. تتجادل بلغة هل العراق أفضل تحت الاحتلال مما كان عليه أيام صدام حسين؟ تتجادل، وتتحدث أحياناً باسم الشعب العراقي وكأنه شعب غائب ومغيّب. جزء منها يتباهى "بمقاومة" فدائيي صدام وأمثال بن لادن لدحض الغطرسة الأميركية، وجزء آخر يبرر كل خطأ أميركي باعتباره مجرد هفوة في مسيرة عظمى اسمها الديموقراطية. والأنكى ان المنطقة العربية المنقسمة على ذاتها تعتبر نفسها في "تضامن" مع الشعب العراقي تلك التي تريد هزيمة أميركا في العراق بغض النظر عن النتيجة على العراقيين، وتلك التي تشتري المقولة بأن حرب العراق حدثت من أجل تحويل العراق الى ديموقراطية. التعرف الى رأي العراقيين ليس سهلاً. فهم واقعون في شباك ثقافة التدمير وثقافة الخوف وثقافة الشكوك، ولا توجد بنية تحتية قادرة على استطلاع آرائهم من دون شبح العقاب. كل الفاعلين في العراق يريدون من الشعب العراقي أن يصبح مخبراً، وإلا فإنه يصنف اما داعماً للارهاب أو داعماً للاحتلال. صدام يعتبر التصدي للاحتلال ومن يتعاون معه "واجباً شرعياً". والقادة الأميركيون يعتبرون التصدي للارهاب مسؤولية عراقية وطنية، ان لم تمارس، فهي تنفي الدعم للارهاب. ظن العراقيون في لحظة ما بعد انهيار النظام ان الحرب الأميركية جاءت لانقاذهم من ارهاب داخلي مارسه صدام حسين ضدهم، فوجدوا ان الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش أراد نقل حربه على الارهاب بعيداً عن المدن الأميركية ليحول العراق الجبهة الرئيسية للحرب على الارهاب. جاء الارهاب العالمي الى العراق ليخرّب لحظة تخليص الشعب العراقي من الارهاب الداخلي، فتعاظمت محنة العراقيين وهم يُتخمون بوعود التحرر والحرية. أخطاء الادارة الأميركية في العراق كبيرة وفادحة لكنها لا تبرر أبداً الاندفاع الى تحويل الساحة العراقية ساحة هزيمة لأميركا، كما يحدث في ساحة المزايدات والمهاترات العربية. فالشعب العراقي ليس حجراً يُرمى ولا هو ملك من أملاك الاحباط العربي أو الكراهية لأميركا. انه لا يطلب ان يكون بطلاً، أو ضحية، لحروب الآخرين في عقر داره. أي عاقل يدرك ان الشعب العراقي لا يريد أبداً عودة العراق "وفق ما كان عليه" في زمن الاستبداد والقهر والتحقير تحت سلطة صدام حسين وحزب البعث. قد يختار ان يعود الى الملكية، وهذا حقه، ولا يحق للآخرين منعه من مثل هذا الخيار. قد يختار النموذج الاميركي من الديموقراطية، وهذا شأنه. حتى لو اختار ان يتحول الى جمهورية اسلامية، فهذا سيكون خياره، ولا يحق لأحد "تهذيب" الديموقراطية حتى لو كان وزيراً للدفاع الأميركي. الواضح هو ما لا يريده العراقيون. لا يريدون عودة صدام حسين، ولا يريدون ان يستخدموا جبهة في حرب الارهاب. ولا يريدون "مساعدة" المتطوعين من شبكة "القاعدة" وأمثالها. ولا يريدون المتهافتين للخدمة كفدائيي صدام. والأرجح ان العراقيين لا يريدون حكماً كالذي في ايران، أو أنظمة كتلك التي في دول عربية مجاورة. وهم، بكل تأكيد، لا يريدون مهاترات العروبة ومزايداتها عليهم، وبالذات من أوساط النخبة. واضح أيضاً ان الأكثرية العراقية لا تريد الانسحاب الفوري للقوات الاميركية والبريطانية خوفاً مما سيخلفه وراءه من سفك دماء وانهيار وتفكك في العراق. تريد الانسحاب المنظم بما يؤدي الى انهاء الاحتلال بعد تسلم العراقيين ادارة العراق. لذلك لا يريد العراقيون دعوات العرب الى الانهاء الفوري للاحتلال، ولا يريدون التصدي للاحتلال بما يؤدي اما الى تقهقره أو الى تكريسه. فهو سيدفع ثمن أي من النتيجتين. وبين ما لا يريده أهل العراق، غطرسة صقور الإدارة الأميركية وجشع الشركات الأميركية الكبرى. يريدون أن تفهم الادارة الأميركية ان تحويل العراق الى قاعدة انطلاق لتغيير الأنظمة العربية وحماية اسرائيل وتفوقها ليس مقبولاً عراقياً، لأن ذلك سيعرقل مساعي تعافي العراق ويجعله ضحية. وهذا شعب سئم التضحية به لأهداف آخرين. يريد لهذه الادارة ان تدرك مدى امتنانه لخوضها حرباً تقول انها من أجل تحويل العراق الى ديموقراطية، انما يريد لها ان تدرك ايضاً ان الامتنان لا يعني المصادقة على احتلال دائم، بذريعة أو أخرى. فهذا شعب يقبل بأن خلاصه من صدام حسين وتحويل العراق الى ديموقراطية شكلا جزءاً من اهداف الحرب، لكنه لا يؤمن بأن هذه الحرب حدثت من أجل ديموقراطية العراق. ما توصلت اليه الادارة الأميركية من ضرورة الاعتراف الضمني بأخطائها وصوغ استراتيجية جديدة عائد في الدرجة الأولى الى ردود فعل الشعب العراقي التي بينتها دراسة سرية لوكالة الاستخبارات المركزية اشارت الى انحسار الثقة بالولاياتالمتحدة من جانب العراقيين الى حد جعل البعض يعتقد بأن هزم الولاياتالمتحدة وارد، فالأفضل دعم المقاومة. هناك بالطبع من يريد القول ان المقاومة هي التي أجبرت الادارة الاميركية على اعادة خلط الأوراق. أصحاب هذا الفكر يأخذون بالمنطق الانتقامي شامتين بمأزق اميركا في العراق ومتجاهلين مأزق العراق الذي يتباهون بالدفاع عنه. فالاحتلال ليس وحده في مأزق، ان العراق في مأزق. المقاومة العراقية لا تقدم وسيلة اخراج العراق من المأزق، ولا تقدم للعراقيين البديل الأفضل عن الاحتلال، طالما ان أقطابها الرئيسية من فكر البن لادنية والصدامية والانتقامية، وطالما ان الفكرة هي عودة العراق "وفق ما كان عليه". كذلك المكابرة الأميركية التي يمثلها المتطرفون بين صقور الإدارة الأميركية وفي صفوف المحافظين الجدد ليست أبداً وسيلة اخراج العراق من المأزق، بل هي وسيلة توريطه أكثر. ففكر هؤلاء عنصري بقدر ما هو نرجسي وأناني يدوس على الآخرين لتحقيق مصالحه وغاياته. فهؤلاء أرادوا استخدام العراق في حروب "العقيدة الاستباقية"، وأرادوا ترسيخ احتلال العراق ليصبح احتياطه النفطي ملكاً لهم، وهم يجعلون من الديموقراطية مسخرة ونكتة سيئة على حساب العراقيين. هؤلاء أرادوا شن حرب الارهاب في العراق فاستدعوا الارهابيين اليه ليعطوا العدو وجهاً وعنواناً. من اذن ينشل العراق من المأزق؟ ان الشعب العراقي هو أهم مساهم في انقاذ العراق من الورطة. لكنه في حاجة الى مساعدة اقليمية، ودولية، واميركية ايضاً. كبار الحزب الجمهوري يحاولون استعادة وزنهم الذي سلبه منهم المحافظون الجدد، ويتخذون من انتخاب بوش مجدداً للرئاسة ذخيرة. المشكلة ان لا ثقة بولاية ثانية لجورج بوش يتخلى فيها عن المحافظين الجدد. وبالتالي، قد لا يسهم ما يفعله كبار الجمهوريين المعتدلين من تعديل في مسار الادارة الحالية، ذلك انهم لن يتمكنوا من لجم الادارة الثانية وقطع الطريق على مغامراتها الآتية. فقد يخفض المحافظون الجدد رؤوسهم قليلاً ومرحلياً تكتيكياً، انما الاستراتيجية الكبرى ما زالت قائمة في أذهانهم. هناك كلام في واشنطن عن استبدال "والي" العراق بول بريمر بالسفير الأميركي لدى الهند ومستشار بوش الأكبر في الشؤون الخارجية اثناء الحملة الانتخابية، روبرت بلاكويل. وهناك كلام عن عزم المسؤول الأول عن انتخاب بوش، كارل روف، على خفض عدد القوات الأميركية لخفض خسائر الجنود الاميركيين. استراتيجيته قائمة على الاثبات للأميركيين ان أميركا ليست في مأزق ولا هي في مستنقع وانما لديها خطة. للأسباب الانتخابية، كما لأسباب التطورات داخل العراق، قررت الادارة الأميركية استدراك بعض اخطائها من دون الاعتراف بالأخطاء. قد يكون فات الأوان، وقد يكون في الخطة الجديدة مدخل لخروج كل من الولاياتالمتحدةوالعراق من المأزق. ما يتطلبه هذا السيناريو المتفائل هو بعض الاعتراف الأميركي بالأخطاء، والكثير من الوضوح في غايات الاحتلال الموقت بعدما سلب الغموض والعناوين الزئبقية للحرب قدراً كبيراً من الثقة بأميركا. يتطلب شراكة حقيقية مع العالم في مشاريع اعادة بناء العراق، بشفافية وبصدق، وليس بخطوات تجميلية. يتطلب من جورج دبليو بوش التخلي عن تطرف الصقور والمحافظين الجدد وعن خططهم نحو جيرة العراق، فجيرة العراق ضرورية للخروج من المأزق. يتطلب بعض التواضع وسياسة نحو الشرق الأوسط أقل انتقائية. ما قاله بوش في خطابه في لندن قبل يومين عن مستلزمات حل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي كان جيداً انما ناقصاً. فلو تحدث عن انهاء الاحتلال لكان لخطابه أثر حين سعى ان يكون له أثر. ما قاله عن ضرورة مشاركة الشرق الأوسط في "الثورة الديموقراطية"، وحاجة الحكام الى فهم عواقب النقص والعجز في الحرية، وقرف الملايين من الديكتاتورية والراديكالية، وشراكة الغرب مع الشرق الأوسط في الدفع الى أمام ب"استراتيجية الحرية"، كلام صحيح. كذلك إقراره "بأخطاء الماضي" حيث "عقدنا صفقات سمحت بالاضطهاد، من أجل الاستقرار... انما الصفقة لم تأت بالاستقرار، ولم تجعلنا أكثر أمناً" وايضاً ما قاله لجهة "اختيار" أهل الشرق الأوسط للحرية والديموقراطية "دون فرضها من الخارج"، مع اقامة "تحالف مع الاصلاح". هذا كلام مفيد يجب على الشعوب والنخبة العربية الاستفادة منه والبناء عليه بدلاً من البحث عن السلبيات لتبرير التقاعص العربي. فإذا كانت الإدارة الاميركية في استدراك لبعض اخطائها، في العراق وفي فلسطين وفي علاقاتها مع المنطقة العربية، فإن الحكمة في تشجيع الاستدراك من أجل الخروج من مآسي الماضي والحاضر وليست في تشجيع قوى اعادة المنطقة الى ما كانت عليه من بؤس قاتم أو تكريس ما هي فيه من مآزق.