أهداني الصديق الكريم وديع فلسطين كتابه الجديد الذي يتحدّث فيه عن أعلام عصره. فله مني الشكر على هذه الهدية الكتاب في جزءين :الأول يتناول فيه وديع فلسطين ستاً وأربعين شخصية وفي الثاني يستعرض خمساً وأربعين. وهذا الكتاب نتيجة عمل سنين. ذلك أن وديع فلسطين، الذي مرت عليه ستون سنة وهو يعمل في الصحافة في فنونها المختلفة وأفانينها المتنوعة، لم يكتب إلا عن "اعلام عصره الذين صافوه الود ومنحوه من ثقتهم وتشجيعهم ما حاول أن يثبته اقراراً بفضلهم واكباراً لصنعهم واعظاماً لقدرهم". الى هذه كلها، فإن لوديع فلسطين أسلوباً طلياً وقلماً مطواعاً ييسران له سبيل التعبير الدقيق ورسم الصورة الصحيحة لهؤلاء الأشخاص. قرأت الكثير من هذه الفصول قبلاً لما كان ينشرها في "الحياة" بعنوان "أحاديث مستطردة"، لكن لما جاءني الكتاب وأخذت أقلب صفحاته وأقرأ رأيتني هذه المرة أدخل عالماً متكامل الأبعاد، يقوم على تخطيط سوي. ولعل ما زاد رغبتي في القراءة انني عرفت نحو ثلاثين من القوم الذي تحدث عنهم معرفة وثيقة، ومن هنا أدركت ان وديع فلسطين يصف ويقول وهو منصف لا تفارقه الرغبة في اظهار الحقيقة عن هؤلاء الأشخاص، فلم يَكِل مدحاً جزافاً ولا أسبغ القاباً حائرة محيرة. فكل كلمة جاءت صادقة في التعبير، واضحة الرؤيا صريحة المعنى جيدة المبنى. لن أعرض عليكم، قرائي الأعزاء، فهرس الجزءين، ولن أمثل على ذلك. فالأمر الأول مرهق لا جدوى منه، والأمر الثاني تحيط به صعوبة الاختيار. لكن أقول للقراء انهم أمام موسوعة لترجمة كبار القوم في العالم العربي خلال القرن العشرين: من أهل العلم والأدب والسياسة والصحافة والشعراء. لكن صديقنا وديع فلسطين لم يجد في موسوعته مجالاً لرجال كانت السياسة صناعتهم. لعله كان يخشى السير في حياة هؤلاء الناس لأن الكثير من أعمالهم وآثارهم قد لا يرقى اليه القول الصراح. وليس في جعبة وديع مكان لما لا يتضح من آثار الشخصيات. فكل أولئك الذين تحدث عنهم هم أشخاص واضحة أعمالهم يمكن أن يقدم بها بيان لأي كان فلا يحكم عليهم بالتخاتل أو التكاذب أو التفاخر. لكن بعض الذين تحدث عنهم عمل في النواحي الخيّرة من الشأن السياسي العام. فهؤلاء لم ينكر عليهم المؤلف ما لهم من فضل في هذه الناحية. وعلى كل فلم يتكتم وديع عن أحد، ولا احتفظ لنفسه بما لا يعرض على القارئ. ومن ثم فأنت تقرأه وأنت مطمئن الى صحة الصورة وصدق الرواية ودقة الحكم. فتحت صفحة في الجزء الثاني كمن يضرب في الرمل فإذا بها عن وديع رشيد الخوري، الذي عرفه المؤلف بالمراسلة. يقول: "من الشعراء والأدباء من انحسرت عنهم الشهرة على رغم موهبتهم التي تشهد بها آثارهم. ويبدو ان الشاعر أو الأديب يحتاج الى شيء من فنون العلاقات العامة سواء لإظهار موهبته أو للتغطية على قصوره، وهو ما نشاهده اليوم في السهرات الشعرية... ومن هؤلاء المظلومين الذين لم تدركهم فنون العلاقات العامة الشاعر الأديب المهجري وديع رشيد الخوري صاحب ديوان "نداء الغاب" وكتاب "ظهور وتطور الأدب العربي في المهجر الأميركي" حيث أغفله جميع الذين أرّخوا للأدب المهجري في أميركا الشمالية ويعددهم وديع فلسطين ويذكر أسماءهم وهم جورج صيدح ومحمد عبدالغني حسن ولا عيسى الناعوري ولا يوسف اسعد داغر ولا الدكتور عبدالكريم الأشتر ولا روبرت كامبل، ولم يشر اليه من دون التعرض لسيرته هو نجيب العقيقي. وينقل عن أبو ماضي، في مقدمته ل"ديوان الغاب" لوديع رشيد الخوري قوله: "إذا كان هذا الشاعر لم يرزق شهرة من قبل ولم تطنطن له الجرائد فلأنّه لم يروج دعاية لنفسه كما يفعل غيره ممن هم دونه. فهو شاعر في الحياة التي يحياها، كما هو شاعر في القصائد التي تصدر عن حسه، ولا شك في انه من خيرة الشعراء في هذا المهجر وهذا ديوانه يعزز هذه الشهادة وينصفها". قلت فتحت الكتاب فوقع نظري على وديع رشيد الخوري، فرأيت ان أبين كيف حاول وديع فلسطين تفسير اهمال هذا الشاعر في بدء الحديث عنه، الأمر الذي اتفق فيه مع أبو ماضي في مقدمة الديوان. لا أذكر الذي قال ما معناه: "خلصني من أصدقائي يا ربي، فإنني كفيل بأعدائي". هل ينطبق هذا على وديع رشيد الخوري؟ يبدو ان الأمر فيه بعض الصحة. فبعد أن تخلى عنه مؤرخو الأدب جاء شاعر - لا أقول انه كان من أعدائه - فعرف قدره وهو أبو ماضي. * لو كان الكتاب الذي بين يدي عن موضوع أو قضية أو بحث أو عرض تاريخي، لكان التحدث عنه أسهل. إذ تعرض القواعد التي اتبعت في الكتابة وتخص المسائل التي احتوى عليها ويعلق عليها. لكن هذا كتاب لا يمكن الحديث عنه، لكن قراءته هي السبيل الوحيد الذي يمكن المرء أن يصل فيه الى مقاصد المؤلف. * كنت بين السنوات 1941 و1947 أزود اذاعة الشرق الأدنى بأحاديث منها أحاديث عن الكتب. أعجبني يوماً كتاب لتوفيق الحكيم اسمه "أهل الكهف". كتبت عنه حديثاً ختمته بقولي: "هذا كتاب يستحق القراءة. فإن كنت تستطيع أن تبتاعه فافعل والا فاستعره من أحد الأصدقاء، أو اسرقه. فالكتاب يستحق القراءة". يمكن القراء أن يتصوروا النقد اللاذع وبعضه كان شتائم موجهة لأنني أدعو الى الرذيلة. لكن البرنامج كان يحمل اسماً وهمياً، فلم تصلني اللعنات. وهذا ما أقوله عن كتاب وديع فلسطين في أعلام عصره. * دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت الطبعة الأولى 1424ه/ 2003م. في جزءين.