من الأدباء والشعراء مَنْ انحسرت عنهم الشهرة على رغم من موهبتهم التي تشهد بها آثارهم. ويبدو ان الشاعر أو الأديب يحتاج الى شيء من فنون العلاقات العامة، سواء لإبراز موهبته أو للتغطية على قصوره، وهو ما نشاهده اليوم في السهرات الشعرية التي تقام عندنا في مصر في دار الاوبرا او في فنادق النجوم الخمسة حيث يتبارى المنشدون والمنشدات في التغني بشعر الشاعر بين أضواء الليزر وعدسات الفيديو، ودع عنك المآدب التي تمتد بعد هذه السهرات. ومع هذا، فليت الشعر الذي يتغنون به يستحق عناء الاصغاء اليه، حتى وإن كان إنشاده بألسنة المذيعات والفنانات وممثلات الاعلانات! ومن هؤلاء المظلومين الذين لم تدركهم فنون العلاقات العامة، الشاعر الأديب المهجري وديع رشيد الخوري صاحب ديوان "نداء الغاب" وكتاب "ظهور وتطور الأدب العربي في المهجر الأميركي"، حيث اغفله جميع الذين "أرّخوا للأدب المهجري في أميركا الشمالية، فلا جورج صيدح 1893-1978 عني بأمره في موسوعة "ادبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية" بطبعاتها الأربع، ولا محمد عبدالغني حسن 1907-1985 سجّل سيرته في كتابه "الشعر العربي في المهجر، ولا عيسى الناعوري 1918-1985 ذكره في كتابه "أدب المهجر" بطبعاته الثلاث، وأشار اليه البيبليوغرافي يوسف اسعد داغر 1899-1981 في كتابه "مصادر الدراسة الأدبية" بأجزائه الأربعة، ولا تناول نثره الدكتور عبدالكريم الأشتر، أطال الله بقاءه، في دراسته الموسومة "النثر المهجري" بجزءيها، ولا أدرجه الدكتور روبرت كامبل، أطال الله عمره، في موسوعته "اعلام الأدب العربي المعاصر" بجزءيها، والوحيد الذي أشار الى آثاره من دون ان يتعرض لسيرته هو نجيب العقيقي 1916-1981 في الجزء الثاني من كتابه "من الأدب المقارن". ومع ان وديع رشيد الخوري كان يكاتبني في السنوات الأخيرة من عمره قبل وفاته في 17 تموز يوليو 1977، فلم يُزيّن لي الفضول الأدبي ان أسأله عن تاريخ مولده ونشأته وظروف هجرته وحياته في المهجر الشمالي، وهكذا تبقى سيرة حياة هذا الشاعر الأديب علامة استفهام، عسى ان تتجلى ذات يوم على يد واحد من الباحثين الثقات. وواضح من المقدمة التي كتبها الشاعر ايليا أبو ماضي 1889-1957 لديوان "نداء الغاب" - وهو يضم شعراً ونثراً - أن الشاعر ولد في لبنان وجاءت هجرته بعد ذلك الى الولاياتالمتحدة واختار أن يقيم فيها في مدينة بنغهامتن بولاية نيويورك بعيداً من "الصخب المهجري" ان صح ان يطلق هذا الوصف على أنشطة الشعراء الكبار في نيويورك وهم ميخائيل نعيمة 1889-1988 وجبران خليل جبران 1883-1931 وأمين الريحاني 1876 - 1940 ورشيد أيوب 1871-1941 وندرة حداد 1881-1950 ونسيب عريضة 1887-1946 وطبعاً ايليا أبو ماضي، ودع عنك الصحافيين عبدالمسيح حداد 1890-1963 ونعوم مكرزل 1864-1932 وسلوم مكرزل 1879-1952 وغيرهم وغيرهم، فقد كانت نيويورك تعج بالصحف العربية كالسائح والهدى والبيان والسمير ومرآة الغرب والاصلاح ومجلة "الفنون" و"مجموعة الرابطة القلمية" وقد توقفت كلها عن الصدور بعدما تقلص الى حد العدم قراء الصحف العربية. وقد علل الشاعر أبو ماضي انحسار الشهرة عن وديع رشيد الخوري بقوله في تقديمه لديوان "نداء الغاب": "إذا كان هذا الشاعر لم يرزق شهرة من قبل، ولم تطنطن به الجرائد، فلأنه لم يروج دعاية لنفسه كما يفعل غيره ممن هم دونه، فهو شاعر في الحياة التي يحياها، كما هو شاعر في القصائد التي تصدر عن حسّه، شك في أنه من خيرة الشعراء في هذا المهجر، وهذا ديوانه يعزز هذه الشهادة ويؤكدها". أما أثر لبنان في شعر وديع رشيد الخوري، فقد رصده أبو ماضي بقوله: "لو طالعت هذه المجموعة من الشعر والنثر، وكنت أجهل اين نشأ مؤلفها، وسئلت عن موطنه، لقلت انه ولد في لبنان، فإن السنديانة القديمة، وخيالات المغيب الواقفة وراء الأشجار، وأنوار الشموع، ورائحة البخور، والظلال التي تمتد وتتقلّص في الساقية، والأشعة التي تترامى على الأغصان، وما شاكل ذلك من الصور التي ترصع كلام هذا الشاعر في نظمه ونثره لا يستطيع ان يجيء بها في هذا الأسلوب المرن الطليّ الا شاعر ولد في لبنان... وإذا كان هذا الشاعر ولد في لبنان، فإن لبنان يُولد في شعره ولادةً جديدة، لأن كل ما انطبع في ذهنه من الصور الرائعة الخلابة هناك قد ظهر في شعره هنا وعلى شكل سنيّ وجميل يحمل لبنان على الفخر والزهو". ولعلّ الشاعر أبا ماضي أراد بتأكيد لبنانية الشاعر وديع رشيد الخوري ان يقول ان الهجرة الى الولاياتالمتحدة لم تتراء في شعره لأن "الطغراء" اللبنانية لم تفارقه، وبقي اميناً عليها في شعره ونثره. وهناك معركة طريفة بدأت في لبنان وانتقلت الى المهجر وان تكن تفاصيلها مجهولة لأني لم أقع على اشارة اليها عند دراسي الأدب. ذلك ان الأديب القاص اللبناني الشيخ خليل تقي الدين 1906-1987 الذي لم يعرف عنه انه شاعر، شاء ان يجرب حظه في الشعر فنظم ابياتاً نشرها في مجلة "الصياد" اللبنانية في عام 1952 ثم ذاعت وعمت عندما قام المطرب محمد سلمان بتلحيتها وغنائها من محطة الاذاعة اللبنانية. يقول خليل تقي الدين في قصيدته اليتيمة: الى التي كتبت لي/ ووقعت شفتاها/ بأحمر من لماها عَبَدْتُ تلك الشفاها/ قالت: وهبتك ثغري/ فافعل به ما تشاء يا قاسي القلب قل لي/ متى يكون لقاء؟ أسرفت في البعد حتىّ/ بكت عليّ السماء تقول: كيف الصبايا/ هناك، كيف النساء هل بينهن سُليمى/ أو دعد أو أسماء؟ لا تسأليني، فكل الحسان عندي سواء سيّان في الحب عندي/ سمراء أو شقراء الى التي كتبت لي/ تقول: اني أحبّك قلبي على العهد باق/ فهل تغير قلبك؟ وبمجرد نشر هذه القصيدة، بعث الشاعر بشارة الخوري المكنّى بالأخطل الصغير 1885- 1968 برسالة الى صديقه الشيخ خليل تقي الدين قال فيها بعد بثه قبلات ممزوجة بالحنين الى رؤيته انه طالع ابياته الشيقة "فما أكبرتُها على ابداعك وروحك. غير اني رأيت ان القافية المضمومة في الأبيات الثلاثة الأخيرة تكون في غاية القبح اذا لُحنت. رأيت ان تكون مفتوحة، فهي ألطف وقعاً، كذلك لم أستأنس بالبيت الثاني، لا سيما تكرار الشفاه في هذا... لك الخيار". وأعادت مجلة "السمير" التي كان يصدرها في نيويورك الشاعر ابو ماضي نشر هذه القصيدة وكذلك تعليق الأخطل الصغير عليها. فارتأى الشاعر وديع رشيد الخوري ان له ملاحظات شاء ان يبديها، ولا سيما لأن "الصيّاد" قالت "ان الغاية من نشر القصيدة ونشر الملاحظة معها هي اثارة المناقشة حولها لبعث الحركة الأدبية في جوّ الجمود الذي يعيش فيه الشعر العربي في هذه الأيام". وممّا قاله وديع الخوري في اقتناص أوجه القصور في قصيدة تقي الدين "ان المحب المتيم لا يُهدي ثغره الى المحبوب، بل قلبه، لأن القلب هو مصدر العواطف والاحساس والشعور، ولم اسمع عن محب وهب ثغره لحبيبه سوى عروس الشعر في هذه القصيدة. والغريب أنها وهبته ثغرها وهو بعيد عنها، وقد اسرف في البعد حتى بكت السماء! واستعارة بكاء السماء، أي انهطال المطر، للتعبير عن ذرف الدموع على عاشقين فرقهما البعاد تعبير سمح لا يحرك العواطف في القارئ ولا يصوّر له اللوعة والحرقة التي تنال من قلوب المحبين عند الفراق، غير ان الحبيبة بعد ان بكت عليها السماء، استطردت الى سؤال الشاعر عن النساء هناك، وهل بينهن مثل سُليمى ودعد وأسماء؟ وهذا السؤال البارد لا يتفق قط مع حُرقة المحب ولوعة المشتاق، لأن العاشقة الوالهة تنسى كل ما في الوجود عندما تناجي من تحبّ. وهي بطبيعتها تتجنب ان تسأله سؤالاً يحول أفكاره الى سليمى ودعد وأسماء". واستطرد وديع الخوري مدللاً على تشويش المعاني عند الشيخ خليل تقي الدين فقال: "والذي يدل على أن الشاعر تائه في مهامه التشويش إقراره أولاً أنه يهيم بحبيبته ويعبد شفافها، وبعدئذ يقول لها ان كل الحسان عنده سواء ولا فرق عنده بين سمراء وشقراء، وهذا لعمري منتهى الاستهتار والإباحة في الحب". وقال كذلك: "وعدا ما في القصيدة من التشويه المعنوي واللفظي، فإن وضعها شاذ، لأن من الثابت المقرر ان الحب يستخف الرجل اكثر مما يستخف المرأة. فهو الذي يتغزل بها، ويصف جمالها، ويصور ما يلاقي من جور صدها وبعادها، ويبثها شوقه وهيامه، فعنترة العبسيّ ذُلّ لعبلة وتغنى بحبها، وانطونيوس طرح نفسه على قدمي كليوباطرة، وقيس جُنّ بليلى، ودانتي هام ببياتريس، وسليمان تيمته السوداء الجميلة وخلبت لبه. ولم يشذ عن هذه القاعدة في الحب غير اثنين: وهما الشيخ خليل تقي الدين وعمر بن ابي ربيعة، فهما اللذان خلبا عقل المرأة وتيماها وحرقا قلبها!". وعاب الشاعر وديع رشيد الخوري على الشاعر الأخطل الصغير مبالغاته في قوله "انه لم يكبر هذه الأبيات الشائقة على ابداع الشاعر وروحه" وقال "ان هذا حقاً هو ما تقتضيه اللياقة والمجاملات الشرقية... ولعل سبب هذا الكرم الخلقي في منح الألقاب، هو أن مقاييسنا في الكبر والابداع والعبقرية ليست في مستوى مقاييس غيرنا من الأمم والشعوب الراقية". وهنا أبدى كاتب آثر ان يوقع تعليقه بامضاء "متسائل" فاعترض على وصف قصيدة خليل تقي الدين ب"الدونية" على رغم انها ليست من غرر الشعر. وقال ان العرب والعجم استعاروا بكاء السماء ليعبروا عما يخالجهم من افكار. كما اعترض على القول أن الرجل هو الذي يهيم بالمرأة ويتوله في حبها، ولا كذلك النساء، فقال ان الحب تبادل وتشارك بين الطرفين وهو ما فعله عنترة وقيس وانطونيوس. وعاد وديع رشيد الخوري يرد على "المتسائل"، فقال انه لم يمعن النظر في قصيدة الشيخ خليل تقي الدين قبل ان يبدي رأيه فيها وفي التعليقات من حولها. وقال "اما فلسفة عبادة الشفاه مع عدم المبالاة بالقلب، فهي ما لا استطيع حله، ولا أقدر على ان اتصور امرأة تهب الرجل ثغرها ليفعل به ما يشاء، وهي تعلم انه لا يبالي بقلبها. أم اي رجل يستميله جمال شفتي المرأة الى حد العبادة، ولا يخفق قلبه بحبها شاملاً بما فيه قلبها أيضاً؟... وبهذه المناسبة أودّ ان أسأل الأديب المتسائل وهو العليم برموز اللغة وأسرارها أن يشرح لنا هذا البيت إني وهبتك ثغري، فافعل به ما تشاء. فماذا يعني الشاعر بقوله فافعل به ما تشاء؟ ومن أي نوع من الشعر هو؟ أهو من الشعر الرمزي النزيه، أم هو من شعر التصوف؟ أم من شعر الحب العذري؟" ثم استشهد وديع رشيد الخوري بقصيدة لالياس ابي شبكة 1903-1947 القاها في اليوبيل الفضي لجريدة "زحلة الفتاة" في عام 1937 وبمقطوعة نثرية للشاعر سعيد عقل، أطال الله بقاءه، عنوانها "حلوة الحلوات، أميرة الأخيلة" نشرها في العدد الممتاز من جريدة "النهار" في اوائل عام 1951 ليبرهن "للمتسائل" كيف "تنتقل عدوى التشويش والإشكال من أديب الى أديب ومن قطر الى آخر، وكيف تحل الرطانة محل الفصاحة، والهذر محل الشعور الفياض". وختم وديع رشيد الخوري رده بقوله "وكل من راقب سير الأدب في الآونة الأخيرة، يعلم انه بعد ان وافت المنيّة حافظ وشوقي ومي ومطران في مصر، ومضى الموت بجبران ورفاقه ومن جرى مجراهم من الأدباء في المهجر، انفرط عقد الأدباء الآخرين وانصرفوا الى معالجة شؤون الحياة وضروراتها. فتسلم زمام الأدب طغمة لا تقيم للضبط والتنسيق وزناً فانتشرت الفوضى في التعبير، وعمّ الإشكال والغموض. ولو كان هؤلاء من زغاليل الأدب لهان الأمر، وكان من الواجب مدّ يد المساعدة اليهم حتى تشتد اجنحتهم ليطيروا. ولكنهم من الكبار المحلّقين!" وعاد "المتسائل" يناقش وديع رشيد الخوري في أطروحاته، فقال ان "الشيخ خليل تقي الدين حسن النثر قليل الشعر، وليس في شعره ما يضعه في منزلة الشعراء. ولست ترى في القصيدة التي نحن بصددها شيئاً من السموّ الشعري أو الجلال أو البلاغة الرائعة أو الالحان الساحرة... والأديب وديع الخوري يحاول ان يستجري تقي الدين في الحب بحسب هواه ووفقاً لما جرت عليه طائفة من الشعراء المجلين المعروفين بشديد غرامهم ولاهب وجدهم في الحب والوصال. والذين ذكرهم في مقاله كانوا من الحب في جنون ومرض، وليس على كل من يقترب من الميل للجنس اللطيف ان ينحو نحوهم، فالخيال وثاب، والنزعات كثيرة، والأذواق شتى، ومجال الفن رحب". وفي ختام هذه المساجلة الأدبية كتب وديع رشيد الخوري يقول إن احترامه لخليل تقي الدين لا يمنعه من ان يبدي رأيه في قصيدته. وخليل تقي الدين من طبقة فوق طبقة أولئك الذين يهذون. وهو حسن النثر، ولعلّه نظم قصيدته هذه لتلقى في دائرة ضيقة فانتقلت الى دائرة أوسع، وكان ما كان. وبعد، لعلي أطلت في عرض هذه المساجلة الأدبية التي انتقلت من لبنان الى المهجر الشمالي لأدلل بذلك على أن المهجريين، ومنهم وديع رشيد الخوري، لم ينفصلوا أبداً عن الوطن، ولا تخلفوا عن المشاركة في جميع القضايا التي أثارها الأدباء المقيمون في بلادهم المختلفة. ولو استقصى الباحثون اصداء الأحداث الوطنية في المهاجر الأميركية، لهالهم مدى الاهتمام الدؤوب بكل ما يُثار في الوطن من قضايا، سواء أكانت قضايا سياسية أم أدبية. ولئن حالت الأوضاع المحلية في ظل الاستعمار الغابر دون الجأر بالشكوى من الحكم الأجنبي في الوطن، فلقد اشتد زئير الأحرار المقيمين في المهاجر، ولهم من الحريات العريضة ما لا يعرف المصادرة أو الرقابة أو "الشفاه المخصيّة" بتعبير الشاعر نزار قباني 1923-1998. * كاتب مصري.