وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلمى الخضراء الجيوسي تدرس الحركات الشعرية العربية الحديثة . تجميع نقدي يتخلّف عن أبحاث عصر النهضة
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 1998

وصلنا أخيراً الجزء الأول من كتاب الناقدة العراقية سلمى الخضراء الجيوسي وعنوانه "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" منشورات اتحاد كتاب وأدباء الامارات، وكان عكف على ترجمته الناقد العراقي عبدالواحد لؤلؤة. وكان الكتاب أثار اهتمام الباحثين والقراء العرب قبل أن يصدر مترجماً الى العربية نظراً الى الموقع النقدي والأكاديمي الذي تحتله المؤلفة.
جاء في صفحة الغلاف الأخيرة أنَّ في الكتاب "متابعة دقيقة لتطوّر النقد الشعري في العصر الحديث لا سيما في جانبه النظري، كما أنّه يتضمن دراسات نقديّة متكاملة للشعراء الرئيسيين ما قبل حركة الشعر الحديث...".
عنوان الكتاب، وما جاء في صفحة الغلاف يجذبان القارىء، ويحملانه على توقّع ما يمكن أن يشتمل عليه الكتاب، ويكوّنان له أفق القراءة، أي أن يكون الكتاب مقاربة جادّة تحفر في الحداثة نقداً وشعراً، بحثاً عن جذورها، ومعاينة لانبثاقها، وملاحقة لتجلّياتها. غير أنّ المتن يصدم القارىء باشكالات غير منتظرة، تتعلق بالمصطلح والمرجعية والرؤية التي حافظت، على ما يبدو، على الخطاب النقدي السائد، برغم الحداثة.
الكتاب، في الأساس، أطروحة دكتوراه أنجزتها الباحثة سنة 1970، وألحقت بها دراسات عن حركة الحداثة أنجزتها 1993. وقد جاء في المقدّمة التي جعلتها الباحثة جزءاً من الفصل الأوّل، أن غايتها رصد التطوّر التاريخي للشعر الحديث بوصفه شكلاً فنّياً، منذ النهضة، ذلك أن التغيّرات التي لحقت بالشعر لم تحظَ بدراسة عامّة وشاملة. وهي تتوخّى أن تروي "قصّة العبقرية الشعرية في الزمن الحديث"، على أن تسقط من دراستها غيرَ المعروفين، والذين تشبه تجربتهم الشعرية تجربة "شعراء أكبر منهم كصلاح لبكي".
كشفت الباحثة أنّها اختارت المنهج التاريخي مستفيدة من طريقة العرب ومن اضافات الغربيين، أي اختارت طريقة تجمع بين العوامل الخارجية الاجتماعية والسياسية والثقافية، والعوامل الداخلية لتطوّر الفنّ من داخل. على أنّها تميل الى الاعتقاد بأنَّ تطوّر الشعر يمليه تطوّر الفن وليس التطوّرات الاجتماعية والسياسية. وهي ترى أن كلّ "عمل فنّي ينطوي على جوهرٍ ثابت من القيم، من دونه لا يبلغ العمل مستوى الفن"، وأنّ ثمّة مجموعتين من القيم الجمالية إذاً، "القيم الثابتة التي تستعصي على التحديد، والقيم المتغيّرة التي هي جزء من عملية التاريخ". وهكذا، فقد حدّدت معاييرها بالقيم الجمالية الثابتة وبالحركة التطوّرية، فتأخذ النتاج في تطوّره، تضعه في مجال القيم السائدة في عصره ثمّ النظر اليه في ضوء القيم السائدة في زمن الباحث ]20[.
ولأن الباحثة تركّز على التطوّر الذاتي الداخلي للشعر والنقد وليس على التطوّرات الخارجية فقط، فإنّها اختارت، في تقسيمها دراستها، الوضع الفنّي الذي يميّز المراحل الأدبية وليس الوضع السياسي والاجتماعي، فلاحقت التغيّرات التي تحدث في المعايير الشعرية، وتنتقل بالشعر من نسق إلى آخر. وتبعاً لذلك، يبدو أنّ الباحثة وجدت مفاصل التغيّر في النسق الشعري في نهاية القرن التاسع عشر، وفي نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وفي نهاية منتصف القرن العشرين، فوزّعت دراستها بين ثلاثة فصول:
الفصل الأول جاء بعنوان: الجذور الثقافية للشعر العربي الحديث، وفيه مقدّمة الكتاب، وقسمان: الأول عن الثقافة العربية في القرن الثامن عشر، والثاني عن النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر. وأبرز الذين دار كلامها عليهم كانوا في لبنان وسورية ثم من مصر. ففي لبنان عمل اليازجي على بعث القديم متّبعاً أساليب القدامى، وفي حين سرّب فرنسيس مرّاش ورزق الله حسّون الأفكار المسيحية الى الأدب العربي، استطاع اليازجي أن يتخلّص من التراث المسيحي أسلوباً وفكراً، وإذ تصف الباحثة شعر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتخلّف وامتلائه بالعبارات المكرورة والمحسّنات اللفظية والتطريز والتراسل والتأريخ والتظرّف الأجوف، ترى أنّ انجازات النهضة لم تغيّر "هذا الشعر على امتداد القرن التاسع عشر، وحتّى الشدياق العظيم لم يستطع ان يجتاز الامتحان الصعب لإحداث تغيّر فعلي في الشعر". أمّا في مصر، فقد غلبت الدراسات العلمية على النهضة فيها، وبقيت الدراسات الأدبية من غير تشجيع، وقد برز البارودي بوصفه "أفضل شعراء مصر"، وهو بدوره قد "اتّبع نموذجاً ثابتاً على مثال الشعر القديم، وأسس الكلاسيكية المحدثة".
الفصل الثاني وقد جاء بعنوان:التطوّرات الأولى في القرن العشرين، وقد وزّعته الباحثة على قسمين: الأوّل عن إرساء قواعد الكلاسيكية، والثاني عن الشعر العربي في الأميركيتين، وهذا القسم وزّعت أيضاً الى قسمين: الأوّل عن الشعر المهجري الجنوبي، والثاني عن الشعر المهجري الشمالي.
تعيد الكاتبة تثبيت الكلاسيكية المحدثة الى أحمد شوقي، وبرغم الانتقادات الشديدة الموجّهة اليه، ترى الباحثة إليه، اليوم، في شعره "وقد اتّخذ مكانته بين أهم الشعراء في التراث العربي جميعه"، وهو على ما تقول "أعظم حدث شعري، يقف عالياً فوق الآخرين... والشعراء بعد متلاحقون، وإلى شوقي، تضيف الباحثة حافظ ابراهيم الذي اشتهر في شعر المنابر، والشعر الغنائي الذي يستدعي الاستجابة العاطفية.
مطران والتجديد
أما التغيّر فقد حدث مع خليل مطران الذي تحصر تجديده في الشعر القائم على الخيال، في فنّ الوصف وفي الصورة الشعرية، وفي الحقل القصصي، لكنّها ترى أن مطران "بقي منشغلاً بالمظاهر الخارجية للمرئيات، ولم يلتحم بالطبيعة شأن الرومانسيين"، وانه "بالرغم من انجازه المهم في الشعر، في مطلع هذا القرن، لم ينجح في إنعاش عنصر العاطفة في الشعر، واطلاقه قويّاً متوهّجاً، ولذلك، ترفض الباحثة تتويج طه حسين لمطران معتبراً إياه "سيّد جميع الشعراء في العالم العربي دون منازع"، معتبرة هذا التتويج واحدةً من اندفاعات طه حسين المزاجية، كما ترفض اشادة مندور بمطران، وبزعامته للشعر الحديث.
تلحظ الباحثة أن شعر الجنوب الأميركي تفوّق في الكمّ على شعر المهجر الشمالي، وأنّ شعراءه ادخلوا الى الشعر المواضيع التجريدية والمواقف الفلسفية والرومانسية، ففوزي المعلوف استخدم الصور التجريدية في "على بساط الريح"، وشفيق المعلوف اتّبع النزعة الرومنسية الا أنّ صوره كانت منفّرة، أما رشيد سليم الخوري فشعره ملتزم، لاهب، عاطفي ومباشر، بعض قصائده الوطنية "تعدّ أعظم أمثلة الشعر الوطني العربي الحديث". وهذا الشاعر مزيج متضارب من التقليدي والمستقلّ.
وبالمقابل، تلحظ الباحثة ان الشعر المهجري الشمالي كان أكثر تحديثاً، فأمين الريحاني "أبو الشعر المنثور" في العربية، عمل على نقل الروحية العربية الى الغرب، ونقل تقدّم الغرب الى الشرق، وهو مزيج من الرومانسي والواقعي، وفيما كان عرب المشرق يسعون الى التخلّص من الكلاسيكية المحدثة كان الريحاني يسعى الى تخليص الرومانسية من الميوعة العاطفية والحشو اللفظي، أما جبران، فتعتبره الباحثة، "أعظم شخصية أدبية في الأدب العربي خلال العقود الأولى من هذا القرن"، أطلق التيار الرومانسي، وأدخل الروح المسيحي الى الأدب العربي، ومع أنّ شعراء الجنوب الأميركي مسيحيون، الا انهم كتبوا ضمن القومية العربية، بينما الشماليون سرّبوا الروح المسيحي عبر فكرة الحب الأشمل والانشغال بثنائيات الوجود والتقنّع بشخصية المسيح، بصورة خاصة، جبران، ومع أنّه يدعو الى أخوّة البشر، فقد رأى محمد حسين هيكل أن الحركة الأدبية التي يتزعّمها جبران تمثّل خطراً حقيقياً على الثقافة الإسلامية. وإلى ذلك، ترفض الباحثة أن يكون جبران قد أنشأ قصيدة النثر التي اعتبرها حاوي من ابداعاته، مثلما كان العقاد قد رفض اعتبار "المواكب" قصيدة، وبالمقابل هذا التوجّس من جبران، تقبّل العرب العرب ايليا أبو ماضي لوقوفه بين التقليد والتجديد، ولأنه أقلّ المهجريين تصويراً للموقف المسيحي، ولتطابق موقفه مع جوهر الموقف الإسلامي، ولتضمّن شعره الحكمة والخلاصات اليقينية، ولاعتماده الحكايات الرمزية، ولنزعته التفاؤلية، ولعدم تسريب الدخيل الى شعره.
أمّا في النقد، فقد برز ميخائيل نعيمة، يقوم مذهبه على تفضيل المحتوى على الشكل، ويستند الى معايير أدبية ثابتة في أن يعبّر الأدب عن الحقيقة والجمال والفضيلة، وعن الموسيقى والمشاعر والأفكار الإنسانية، وهي حاجات، ترى الباحثة أنّها ما تزال متطلّبات أساسية في الأدب والفن. وكذلك، حمل نعيمة على الواقعية المحدثة، وعلى الأدب الملتزم، وعلى موضوعات الجنس والرغبات الجسدية، وهو يرى تحرير الأدب في اللغة - والعقول.
الفصل الثالث ورد من غير عنوان، إلا أنّ القارىء يمكن أن يورده تحت عنوان الفتح. وقد توزّع الى عناوين فرعية استناداً الى التقسيم المكاني، ووفقاً للأقطار العربية.
في مصر، تلاحظ الباحثة نزعة تمصير الأدب والذات المصرية، ومن العاملين على ذلك طه حسين وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل والعقاد. فالمصريون من سلالة الفراعنة، وثقافتهم هيلينية اغريقية وليست شرقية، و"ليس من شيء، ولا حتى الإسلام، يستطيع أن يمنع العقل المصري من اعادة تبنّي قيم الحضارة الغربية والتقدّم بشكل كامل". وهكذا، تمّ عزل مصر، والذات المصرية، والشعر والنقد المصريين. وهذه الانعزالية هي التي دفعت طه حسين الى نقل زعامة الشعر، بعد شوقي، الى العقّاد، مما جعل مارون عبود يهزأ من طه حسين ومن العقاد.
مارس طه حسين النقد كأستاذ، بشكل فوقي، وقال بالموضوعية مع أنّه أطلق الكثير من الأحكام الذاتية، لم يكترث من شعر الأحياء سوى لشعر حافظ وشوقي، دعا الى المحافظة على الوزن والقافية، فضّل المعنى الدقيق على الموحى به، وقد شكّ بالشعر الجاهلي. أمّا جماعة الديوان شكري والمازني والعقاد، فقد وضعوا أساس النقد الشعري الحديث في مصر. عملوا على تحطيم حصون الكلاسيكية المحدثة، ورأوا أنّ للشعر مقوّمات أساسية أهمّها أن يتغافل في النفس، ويستقي إلهامه من التجربة الإنسانية، وعلى الشعراء أن يبحثوا عن الجوهري في الأشياء، وأن يهملوا شعر المناسبات والأحداث العامّة". إلا ان شعرهم لم يكن بمستوى نظرياتهم، وأنَّ تعبيرهم كان متكلّفاً وليس تلقائياً ايحائياً. ثاروا على شوقي بسبب تقليده، وتفكك قصائده، وولوعه بالأعراض، وتكلّفة، وفقدانه التلقائية.
العراقيون والمشهد الوطني
في العراق، انشغل العراقيون بالمشهد الوطني، ومعظم شعراء العراق صدروا من النجف، والتزموا بالمسائل الوطنية والسياسية والاجتماعية، ومعظم شعرهم منبري ومرتبط بالمناسبات. فالكاظمي هو من أوائل أنصار الحرية في العراق، كلاسيكي تقليدي "لا يضاهيه بنقاء كلاسيكيته حتى شوقي العظيم"، شعره، كسائر الشعر العراقي في زمانه، اتّسم بالوضوح والمباشرة والخطابية والنبرية التعليمية، وهكذا، أيضاً، كان الرصافي هو الشاعر المعلّم، وأكثر الشعراء نزعة وطنية واجتماعية، يغلب على شعره ارتباطه بالمناسبات التي اعتبرها عبود "كوليرا الشعر وطاعون العرب". وكذلك، ترى الباحثة أنَّ الجواهري هو أعظم شاعر عراقي، وأكبر شاعر صوّر حياة العراق المضطربة، وهو "سيّد شعر المناسبات"، وقد تميّز "أسلوبه بفحولةٍ لا مثيل لها في الشعر العربي الحديث".
في سورية، تتكلّم الباحثة على شعر بدوي الجبل، فتشبه أسلوبه بأسلوب البحتري، وتراه مجيداً في شعر المناسبات، خصوصاً في المراثي، وهو ينهل من التراث الشيعي، ومن الشريف الرضي ومهيار الديلمي، مثله مثل جميع الشعراء الشيعة.
أمّا عمر أبو ريشة فيمثل الشباب المتحرّر الرومانسي في شعر الحب والمرأة، وعنده أنّ المرأة بريئة نقية، أو هلوك بغية، برع في الشعر الوطني والقومي، فتغنّى بالأمجاد الإسلامية، وبالتفوّق الحضاري العربي، وتفاعل مع السياسة.
في لبنان، تكلّمت الباحثة على شكيب ارسلان بوصفه شاعراً تقليدياً، تكلّم على الوحدة العربية، وعلى القضايا الوطنية، ودافع عن الإسلام. كما تكلّمت الباحثة على الأخطل الصغير الذي تبيّن لها أنّه حرّر الشعر من جمود الكلاسيكية، وأنّه أدخل الروح الشعبي اللبناني الى الشعر، وأنّه تأثّر بالكلاسيكية وبالرومانسية العربية القديمة، وإذ انتقلت الى الكلام على أمين نخلة، رأت أنّه لم يبلغ مستوى الأخطل، شعره منضبط متوازن، وقريب من الكمال الكلاسيكي في وصفه ابتذال وتقليد، لا حياة فيه ولا اتحاد مع الطبيعة. في شرق الأردن، تكلّمت الباحثة على وهبي التلّ شاعر الغجر الذي عشق الحرية ومجّد الكرامة الإنسانية، الا أنّ شعره مليء بالأغلاط. في فلسطين، تكلّمت الباحثة على ابراهيم طوقان الذي ارتبط شعره بالمناسبات، ودار بعضه على الحب والمرأة والوطنيات، وقد ثار على سماسرة الأراضي، وكان كثير الاهتمام بالقرآن، استخدم في شعره المفارقة والسخرية، الا أنّه انحدر الى المبتذل، وبقيت الطبيعة عنده مسطّحة.
القراءة النقدية
الكتاب تجميع، وعرض بانورامي قاصر ومتخلّف عمّا ورد في بطون الدراسات عن الشعر والنقد منذ عصر النهضة. يأخذ من كلّ شيء بطرف، يقول كلَّ شيء، عن كلّ شيء، ولا يبلّغ شيئاً، التضليل والإرباك ميزتان غالبتان عليه. في المنهج، اختارت الكاتبة المنهج التاريخي لتروي "قصّة العبقرية الشعرية في الزمن الحديث". في زمن شيوع مناهج النقد الجديد، والألسنية، والشكلية، والبنيوية، والتفكيكية، حتّى التاريخية الجديدة، ولم تستفد من أيّ واحدٍ منها، وإذا هي تروي قصّة التخلّف في الشعر والنقد.
في المنهجية. أخفقت الباحثة في توزيع دراستها، فذكرت المقدّمة ضمن الفصل الأوّل، ووزّعت الفصل الى أقسام، والقسم الى أقسام، والواحد الى واحد، وبدا توزيعها مربكاً، لا هو يستند الى مفاصل تغيّرية شعرية نقدية، ولا الى مفاصل تغيّرية خارجية. فإلامَ استندت لتضع الشعر المهجري في الفصل الثاني، وهل هو أكثر تخلّفاً ممّا ورد في الفصل الثالث؟ ولمَ فضّلت هذا التوزيع المكاني، ولمَ لم تختر التوزيع استناداً الى الاتّجاهات والحركات انطباقاً مع عنوان الكتاب؟
في الرؤية الى الشعر الحديث. لم تعيّن الباحثة مفهوم الأفق الذي تطلّ منه الى الشعر والحداثة. واذا كان هذا الوارد في الكتاب هو ضمن الشعر والنقد الحديثين، أو تأسيساً لهما، فإنّ الباحثة تكون مضلّلَةً ومضلِّلة. والى ذلك نضيف أنّها لم تكتشف حقيقة التجديد وموضع مفاصل التغيير، لأنّها اعتمدت ما قرّره سلفاً غيرُها من الباحثين، فأهملت قصيدة "المساء" لمطران مثلاً، وحكمت عليه بأنّه لم يستطع أن ينظر الى الطبيعة سوى نظرة مسطّحة، في حين يعرف "حتّى" طلاب البكالوريا أنّ تلك القصيدة هي طليعة التجديد في الشعر العربي، أمّا جبران فقد اعتبرت الباحثة أنّ عظمته تعود الى ادخاله الرومانسية، ولم تدرك أنّه هو ذلك الأديب الذي يصدر عن رؤيا، وأن حداثته تعود الى أنّه أنسن الدين والله، وارتقى، بالمقابل، بالإنسان الى الألوهة.
في القراءة الاختلافية، تصدر الباحثة من مركزيات عديدة تكشفها قراءة الغياب:
أ - المركزية الدينية والمذهبية، ثمّة مركزية النجف بوصفها مصدر إطلاق الشعراء الشيعة، فضلاً عن مرجعية الشريف الرضي وتلميذه. وثمّة مركزية الأزهر فضلاً عن مركزية التمصير، وثمّة المركزية المسيحية التي أطلقت الشعر المهجري الشمالي وسرّبت الروح المسيحي الى الأدب العربي، فضلاً عن المركزية اللبنانية - السورية.
ب - مركزية الفلسفة المثالية عموماً، والشعر العربي خصوصاً، فهي ترى أنّ للفنّ ومنه الشعر، قيماً جمالية ثابتة أقلّها الحق والخير والجمال، ورؤيتها التحديث الشعري في الحركة التطوّرية من إحياء القديم، الى الكلاسيكية المحدثة، الى الرومانسية المتحرّرة من الميوعة العاطفية، الى الواقعية المحدثة.
إنّ المركزيات المذكورة المحتجبة ضمن ذلك التوزيع المضلّل، جعلت الباحثة تقع في ارباكات وتناقضات كثيرة، وفي أحكام اطلاقية أوردناها على امتداد القراءة الوصفية، فالأزهر، "بلغ أسمى منزلة كمركز للعلم، في القرن الثامن عشر"، وجبران أعظم شخصية أدبية، والجواهري أعظم شاعر، وشوقي أعظم حدث شعري، وعبود أكثر النّقاد حدساً... والباحثة، لم تدرك أنّ الحداثة، إنما قامت على تفكيك المركزيات السلطوية والدينية والاجتماعية والأدبية على اختلافها، وهذا الشعر الذي أرّخت له، قد بقي على ثباته في شكله وبنائه ورؤيته الى العالم، أي بقي ضمن مجال التمركز الشعري الأوّل، ومركزية لم ينجز تفكيكها، انّما الحداثة قامت على تشظّي المركزيات ضد المركزية الواحدة، وعلى النسبية ضد المطلقية، وعلى التغيير ضدّ الثبات، وعلى التعدّدية ضد الوحدة، وكلّ ذلك لا يرد له ذكر، ولا أثر له في أي مفصل تغيّري من المفاصل التي اكتشفتها الباحثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.