لم أكد أبدأ في الكتابة عن مهاتير محمد بمناسبة قرب اعتزاله منصب رئيس الحكومة حتى اندلعت أزمة تصريحاته التي تناول فيها سيرة اليهود. كانت النية، قبل اندلاع هذه الأزمة، أن أناقش مفهوم "مهاتير النموذج" من خلال أبعاد ثلاثة. أول هذه الأبعاد واقع العرب الراهن. فبسبب التدهور في جوانب الحياة العربية كافة، وبسبب الشعور السائد بامتهان الكرامة والانهزام غير المعلن، وبالهرولة نحو إصلاحات مبالغ في حجمها إرضاءً لأطراف خارجية قبل أن تكون استجابة لحاجة حقيقية، وبسبب الشعور السائد بأن حقوق العرب مهضومة باسم حرية التجارة وباسم فرض الديموقراطية، تطلع عرب كثيرون لماليزيا كنموذج دولة لم تستسلم لسبب أو لآخر من هذه الأسباب التي كبلت الإرادة السياسية للأمة العربية وشعوبها. وبلغ الإعجاب بمهاتير إلى أن صار أبناء شعب عربي أو آخر يتفاخرون بمهاتير المنحدر من صلب عربي، غير آبهين بأن الرجل وأنصاره لا يدعون هذا الشرف، واستمروا يصرحون بأنه من أصول مختلطة هندية وماليزية. وتسربت إلى بعض الدوريات والصحف تعبيرات وصرخات مثل "وامهاتيراه" "والمهاتيرية" والنمط المهاتيري في التنمية وغيرها. البعد الثاني يتعلق بحال المسلمين عموماً. إذ لم يعد يخفى عليهم ولا على غير المسلمين واقع انحشارهم في مكان ما على مفترق طريقين، طريق الإسلام التقليدي أو ما يطلق عليه أحياناً الإسلام الرسمي وفي أحيان أخرى الإسلام الأصولي. وصدر الحكم عليه من غير المسلمين من خارج العالم الإسلامي ومن دوائر داخل العالم الإسلامي أنه طريق غير قابل للتطور أو للتحسن أو للتغير. الطريق الآخر هو طريق التطرف والتعصب أو المتشرب بالعنف والغلو، وفي أحيان أخرى يأخذ أشكال وممارسات عدمية، وفوضوية أو إرهابية. بسبب هذا الانحشار على مفترق الطريقين، تسربت معلومات أو تحليلات تفيد أن مهاتير محمد قرر أن يتحمل مسؤولية قيادة حركة إسلامية جديدة، وأنه اقنع بالفعل قادة إسلاميين وقادة في الغرب بأن هناك طريقاً ثالثاً يمكن أن يُخرج المسلمين من الموقع الذي هم فيه منحشرون. ويؤكد مسؤولون على صلة وثيقة بمهاتير أنه يشعر بالثقة استناداً إلى تجربته في تطوير الممارسات الإسلامية في ماليزيا على امتداد عشرين عاماً، والاقتناع المتزايد بين حوارييه بتصوراته عن مستقبل الإسلام. ولا يخفي هؤلاء أن كثيراً من القادة الآسيويين من المسلمين يعتقدون أن العرب مسؤولون عن تدهور الحركة الإسلامية في العالم بأسره، ومسؤولون عن الممارسات الخاطئة التي جلبت على المسلمين سخط الغرب ومؤامرات أنصار صدام الحضارات، وأن الوقت حان ليتولى قادة من مسلمي آسيا مسؤولية تصحيح المسار. أما البعد الثالث فهو الأزمة الخانقة التي تمسك بخناق معظم حكومات الدول العربية والإسلامية. هذه الدول مشتبكة الآن في حرب طوعيه أو مفروضة عليها مع الإرهاب، وهي قلقة ومتوترة إلى حدود قصوى من احتمالات انفجار بسبب اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى حدود غير مسبوقة، وبسبب أوضاع الأقليات الدينية والعرقية، خصوصاً بعدما خرجت قضايا الأقليات من نطاقها المحلي إلى حيز الاهتمامات العالمية وصارت الدول العربية والإسلامية هدفاً لحملات الحقوقيين والمجتمع المدني العالمي. كما أن هذه الدول تعاني من خلافات متصاعدة مع عديد من القوى السياسية باتجاهاتها كافة. ويتعرض معظمها لانحسار في تأييد الرأي العام الذي يكتشف يوماً بعد يوم مدى تناقض المبادئ والسياسات المعلنة مع الممارسات ومع أفكار قادمة من الخارج عابرة للحدود وكاسحة. وفي كل هذه الدول أو معظمها مشاكل مع دول الجوار وأحلام محبطة في التكامل الاقتصادي الإقليمي. وفي كل هذه الدول أو معظمها تتصادم موجات من حاجة الشعوب إلى المشاركة السياسية وموجات من إجراءات جديدة لتأكيد سيطرة الحكومات وإبطال مفعول الضغوط الداخلية والخارجية لتحرير الدولة والمجتمع. وفي كل هذه الدول لم تفلح جهود الطبقة السياسية الحاكمة لتحقيق قفزة حضارية شاملة تنتقل بالدولة والمجتمع من حال التخلف إلى حال التقدم. بمعنى آخر افتقرت هذه الدول إلى طبقة سياسية من نوع الطبقة التي قادت بزعامة مهاتير محمد ماليزيا من دولة متخلفة تقسمها طوائف عرقية وطائفية وتعيش على تصدير المطاط والأخشاب إلى دولة تقف في صفوف الدول المتقدمة. ويثير الاهتمام بالحالة الماليزية فضول المثقفين العرب للتعرف على هذه الثقافة السياسية في جنوبي آسيا التي أفرزت زعيماً من أصول صينية قاد سنغافورة من مستعمرة تخصص سكانها في خدمة مراكب الصيد والقرصنة والبواخر المارة في المنطقة إلى دولة منتجة للمعرفة وأدواتها. وزعيم آخر من أصول هندية وماليزية ينقل بلداً متخلفة ثروته الأساسية أشجار في غابات إلى دولة ناجحة بالمقاييس كافة وبعلاقات طيبة مع جاراتها كافة وتقدم للإنسانية، وبخاصة للعالم الثالث فكراً متميزاً ومعتدلاً ومتحضراً. وفي الحالين، حالة سنغافورة وحالة ماليزيا، قرر الزعيمان السياسيان اللذان قادا عملية الانطلاق الاقتصادي والانتقال من التخلف إلى التقدم الرحيل عن السلطة بإرادتهما الحرة وبأسلوب ديموقراطي رغم ضخامة شعبيتهما وتوفر الظروف التي تسمح لهما بالاستمرار في الحكم إن أرادا ذلك. ثم انعقدت القمة الإسلامية. وكنت أتوقع أن يخرج مهاتير من هذه القمة مزوداً بتفويض، وإن غير معلن وغير صريح، ليتولى قيادة حركة إسلامية عالمية جديدة تضم إليها كل القيادات السياسية الإسلامية المعتدلة في دول العالم الإسلامي. وكنت أتوقع أن تحوز هذه الحركة ومهاتير على رأسها بموافقة إن لم يكن بتأييد دول غربية والولايات المتحدة خصوصاً. وفجأة أحبطت هذه التوقعات ولو موقتاً حملة متوحشة شنتها أجهزة الإعلام في الغرب على مهاتير كرد فعل لتصريحه عن اليهود. وأقول حمله وحشية بسبب ما احتوته من مبالغات وتناقضات وسوء نية، هذا على رغم اعتقادي الجازم بأن مهاتير أخطأ بإدلائه هذا التصريح وإن كان شجاعاً في التعبير عن رأي يعتقده ويقتنع به. ويتردد فضولاً أو استنكاراً أو قلقاً في أذهان ملايين البشر. لم يكن مهاتير على عكس ما جاءت به الحملة الإعلامية الغربية ظالماً أو عنصرياً عندما هاجم جورج سوروس منذ أعوام ثم أخيراً. كان هذا الأخير يتآمر ضد اقتصاد ماليزيا وغيره من اقتصادات جنوب آسيا قبل وخلال الأزمة الاقتصادية الشهيرة في آسيا. ولعلنا نذكر أنه سبق مهاتير إلى الهجوم على سوروس بعض أشهر الاقتصاديين الغربيين وسبقه أيضاً المسؤولون في حكومة المحافظين البريطانية حين تعرض الاقتصاد البريطاني لمشاكل بسبب المضاربات المالية التي مارسها سوروس وتفاخره وقتها أنه استطاع أن يهز الاقتصاد البريطاني، وأنه لو شاء لأضر به ضرراً أكبر. ولم يكن مهاتير شديد الغطرسة كما اتهمته أجهزة الإعلام الغربية إذا قورنت غطرسته بالغطرسات اليومية التي تتسم بها تصريحات وخطب آرييل شارون ودونالد رامسفيلد وبول ولفوفيتز وغيرهم كثيرون من الذين لا يخفون استمتاعهم بتوجيه الإهانات للعرب والمسلمين. ولم يكن شريراً أو متطرفاً ضد دين آخر إلى الدرجة التي يستحق عليها هذا الهجوم الساحق من أجهزة الإعلام الكبرى خصوصاً وأن هذه الأجهزة لم تكن حادة أو عنيفة عندما نشرت تصريحات رئيس وزراء إيطاليا ووكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون الاستخبارات وغيرهما كثيرون في عواصم الغرب، بخاصة في واشنطن حين تعرضوا للإسلام بأسوأ ما يمكن أن يتعرض به إنسان لدين آخر. في كل الأحوال لم تقم الدنيا في أي مرة من هذه المرات كما قامت على مهاتير. وأخيراً لم يكن مهاتير في أي يوم مغالياً أو كاذباً حين اتهم عوامل خارجية بأنها وراء الأزمة الاقتصادية التي وقعت في جنوب آسيا في نهاية عقد التسعينات خصوصاً أن التقارير التي أصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بعد مرور سنوات ألقت بمسؤولية هذه الأزمة على عوامل خارجية أكثر وأهم من العوامل الداخلية. كشفت الحملة الإعلامية على مهاتير، وإن أخطأ أو أذنب، عن أمر يتطور منذ وقت ولم ندرك إلى أي حد صار خطيراً. لقد بلغ الاتهام بالعداء للسامية حداً مخيفاً. ولا اتردد في القول أنه انطلاقاً من هذا الحد سيتفاقم الحقد والكراهية ويزداد الغضب ضد الغرب، وضد اليهود بخاصة، وستفتح على مصراعيها أبواب صدام الحضارات على رغم كل المحاولات التي بذلت على مدى سنوات طويلة وجهود شاقة لإغلاقها. سيف الاتهام بالعداء للسامية قد يكون باتراً: ولكنه بالتأكيد ذو حدين. * كاتب مصري.