في كتابه الأهم "الثقافة والإمبريالية" صاغ إدوارد سعيد مقولة شهيرة تختزل دور المثقف الطليعي: "لا تضامن من دون نقد" No solidarity without criticism، مشيداً معلماً مهماً لمثقفي العالم الثالث يلتفتون إليه في خضم نضالاتهم ضد هيمنة الامبراطوريات القديمة والحديثة والأشكال المعاد إنتاجها من السيطرة والإخضاع. التضامن الداخلي، في المجتمع المعرّض للإكراهات الخارجية، او بين المجتمعات الشبيهة ذاتها، يتقوى بالنقد الذاتي التقويمي ومداومة الإصلاح. كلما قويت شوكة النقد الداخلي وأتت ثمارها، كلما تصلب التضامن وباتت مواجهة إكراهات الخارج وإخضاعاته اكثر نجاعة وأكثر نتاجاً. ليس ثمة ما هو أسوأ من تبرير مظالم الداخل، وتحييد النقد، بمسوغ المواجهة مع الخارج. يناظر ذلك سوءاً التظاهر الزائف بأن المواجهة مع الخارج تخلق تضامناً وتوحداً داخليين بشكل آلي. فهذه المواجهة مشروع طويل مديد يخرج عن نطاقه المحلي ويرتبط بشكل نظام العالم الراهن عموماً، على ما تؤكد معظم، إن لم يكن، كل كتابات المهمومين بالعدل العالمي وأحدثها كتاب جورج مونبيوت "عصر التوافق: مانفستو نحو نظام عالمي جديد": Age of Consent: Manifesto for a new world order. هي مواجهة لا يمكن ان تنجح طالما ان الاختلالات الداخلية توفر ثغرات وخروقات كبرى يمكن ان ينفذ منها الإكراه الخارجي ويستخدمها مسوغات لفرض مشروعاته وثغرة الاستبداد هي دوماً المثال الأكثر تسيداً. والمواجهة هنا ليست جغرافية او حضارية صراعية او ثقافية دينية: بل هي انسانية عالمية تخترق فيها جبهات المقاومة الحدود والجغرافيا، اي هي ليست بين شرق وغرب. بل يتناصر فيها بعض من شرق وبعض من غرب ضد انماط وأشكال الهيمنة سواء فرضها غرب او شرق، او فرضها تحالف بين النخب هنا وهناك. راهناً، عولمة الهيمنة الغربية تخلق عولمة لمقاومتها، وهي عولمة ليست لها هوية ثقافية او حضارية، بل كوزموبوليتانية انسانوية. هذا جزء من كثير يفوت على امير طاهري ونقده التجريحي غير الموضوعي المنشور اخيراً في واحدة من اكثر دوريات المحافظين الجدد الأميركية تطرفاً National Review online. 3 oct.2003 والذي كان بعنوان: Fictions and Nonfictions Edward Said and Ali Shariati Asked the wrong questions. طاهري في مقاله التواطئي يتهم سعيد بأنه ينسب للغرب كل الشرور، وأنه استاذ تبرير كل إخفاقات العالم الثالث بالمشجب الغربي. من يقرأ مقالة طاهري المتسرعة وبالغة السطحية ينتهي الى واحد من استنتاجين: إما انه متحامل وملكي اكثر من الملك في دفاعه عن "التنوير الذي قام به الاستعمار الغربي في الدول المستعمرة"، او انه ببساطة لم يقرأ سعيد وإنما قرأ بعض ما كتبه عنه خصومه اليمينيين الذين يكتب طاهري نصاً استرضائياً تافهاً في دوريتهم. طاهري يقول ان أطروحة "كتاب الاستشراق" يمكن اختصارها ببساطة كالتالي: "الغرب وحش "استعماري" خارج عن حدوده للسيطرة على العالم، والتهام ثرواته، وإفقار شعوبه، ولتوريط الإنسانية في حرب مستديمة". اما خلاصة الكتاب ونتيجته فهي الأخرى يراها مبتسرة كالتالي: "العلاقة الوحيدة الممكنة بين الغرب وبقية العالم هي الصراع المستديم". ليس ثمة أتفه على الإطلاق من هذه القراءة والابتسار لكتاب الاستشراق. طاهري في نقده التجريحي لسعيد، أراد ان يضفي لمسة اوسع، وأسوأ، لشرائح القراء اليمينيين الأميركيين الذين يخاطبهم بالتظاهر بأنه "ناقد ذاتي" إذ ينقد ايضاً مثقفاً إيرانياً عالمياً من طلائع مثقفي العالم الثالث هو علي شريعتي. وهكذا يضع سعيد وشريعتي في سلة واحدة هي سلة المتهجمين على الغرب بمناسبة ومن دونها. يرسم صورة غير حقيقية عن الاثنين تدغدغ خصومهم. يقوم بذلك من دون ادنى حس للموضوعية والنزاهة. فهو يتهمها بالدفاع الطهراني عن مجتمعات العالم الثالث وتنزيهها من كل العيوب، ونسب كل عيوبها الى الغرب. لا أعرف كيف وصل الى مثل هذه النتيجة؟ كيف له ان يصف علي شريعتي بذلك وشريعتي معروف بنقمته الكبيرة على المجتمعات التي استُعمرت بضم التاء، ورأى ان سبب الاستعمار هو اصلاً "القابلية للاستحمار" التي تفاقمت في تلك المجتمعات بسبب عيوبها الداخلية، وهو رديف مصطلح مالك بن نبي "القابلية للاستعمار" ذي المعنى نفسه. شريعتي نظر الى الداخل وصوب سهام نقده له بلا هوادة، لكنه في الوقت ذاته كان لا يتساهل مع جريمة الاستعمار ذاتها. طاهري ومن على شاكلته ممن يضجرون ويتألمون من اي نقد يوجه للمشروع الغربي الاستعماري لا يروقه ذلك. هو يريد للضحية ان تسبِّح بحمد جلادها. يريد ان يكون غربياً اكثر من الغربيين انفسهم الذين تتسع دوائر الضمير بين ظهرانيهم نقداً ذاتياً إنسانوياً لكل مشاريع الهيمنة التي قامت وتقوم بها مؤسساتهم الحاكمة. وهو يمارس مازوشية بالغة عندما يتهكم على طروحات علي شريعتي في "العودة الى الذات". ويشتم كل ذات ما عدا "الذات الغربية" المقدسة في نظره ومنبع التنوير والتطور. وفي سياق مازوشية متطرفة يوجه سؤاله لسعيد وشريعتي لماذا لا يسألان، كما لو انهما لم يفعلا، عن علل مجتمعات العالم الثالث، وكيف، مثلاً، تمكن نابليون بونابرت من احتلال مصر عبر "حفنة من الرجال"؟ وكيف تمكنت بريطانيا من احتلال الهند بالطريقة نفسها؟ يقلب حتى الحقائق التاريخية ليقول لقارئه الذي لا يعرف شيئاً عن المنطقة ان شعوب مصر والهند كانت تافهة وقادها استعماريون كان عددهم حفنة هنا او هناك. ولا يحتاج احد للعودة الى المكتبات ليتذكر ان حملة نابليون على مصر، فاق عددها "حفنة رجالها" الأربعين الف مجهز. يبدو الهجوم على سعيد وشريعتي بالنسبة الى طاهري وتيار من المحافظين الجدد خارج الولاياتالمتحدة فرصة ذهباً لتأكيد طلب هوية الانتساب الى اليمين الأميركي الجديد ذي النزعة الإمبريالية التي تريد نشر "الحضارة" الأميركية" في وسط الشعوب المتوحشة. تماماً كما كان الأمر بالنسبة الى الإمبرياليات التقليدية المندثرة: هناك حاجة دائمة لوكلاء محليين يحملون الراية ويدافعون عن توطين المشروع القادم من وراء الحدود. هناك حاجة لتسييد ذوي وجوه بيض كما كان يكرر فرانتز فانون. ما يثير اعصاب طاهري ومن هو مثله، في سعيد وشريعتي وكل من يحمل هم النقد الداخلي مربوطاً بنقد الخارج، هو قناعات هؤلاء الآخرين بأن إعمال النقد الداخلي وعدم التساهل تجاهه لا يعني التقليل بأي شكل من الدور السالب الكبير للخارج الغربي في إحلال المآلات التي آلت إليها مجتمعات العالم الثالث. فما يعيشه عالم اليوم هو خلاصة سيطرة وهيمنة وتقسيم للثروات وصوغ اشكال علاقات تبعيات معقدة ومتداخلة وشالّة للحركة الذاتية العالمثالثية، سواء اعجبت هذه الحقيقة طاهري ام لم تعجبه. وليس هناك من مناص لأي كائن مهموم بمستقبل اقل ظلماً للبشرية إلا ان يقرر انه لا بد من مراكمة المقاومة المعولمة لأشكال السيطرة العولمية التي نعيشها الآن، والتي هي وريثة هيمنات متواصلة. وهي مقاومة مطروحة على جبهتين: خارجية وداخلية في آن معاً، تتفادى الانجرار الى الجدل العقيم والسفسطائي حول تقديم احداها على الأخرى. فالمقاومتان على الجبهتين تسيران يداً بيد تعاضدان بعضهما بعضاً. ولا تحتمل اي منهما الانتظار حتى يتم "إنجاز" الأخرى. في كلا المقاومتين، والآن بعيداً من مماحكات طاهري، يبرز المثقف الناقد مشروعاً تصويبياً دائم الغليان والاشتغال. وقد كانه سعيد، كما كانه شريعتي. وهو يختلف عن المثقف الداعية، صاحب المشروع الايديولوجي الذي يرى العالم ومجتمعه وشكل المستقبل وفق منظار محدد ضيق الأفق، أو المثقف التبريري الذي همه تخليق المسوغات وتجميل ما لا يجمل مما تقوم به سلطات السياسة او الثقافة السائدة. إنه الأشد شجاعة من بين كل اصناف المثقفين، وهو في اكثر الأحيان الأشد خسارة على اكثر من صعيد. فتعاديه السلطة ويتحامل عليه المجتمع. لكن قوته المعنوية المتراكمة عبر عدم خضوعه هي رأسماله الكبير الذي بتراكمه ذاك يخلق النموذج ويخلق التغيير. المثقف الحقيقي هو المثقف الناقد للأنظمة السائدة سواء أكانت سياسية ام اجتماعية ام ثقافية. هو لا يساير ولا يبحث عن رضى "المؤسسة" اياً كانت طبيعتها. والنقد هنا لا يأخذ معنى عبثياً هدفه النقد فحسب، بل هو تصويب ضروري لانحرافات القوة والسلطة التي ما ان تتمكن من مصائر الآخرين حتى تشطح وتتغول. المثقف هنا هو حارس القيم الإنسانية والمدافع عنها، المهجوس بالعدالة وفكرة العدل والمساواة حتى النخاع. يناصر المحاصرين بوطأة السلطة حتى ينفك الحصار، ثم لا يتردد في نقد اولئك المحاصرين إن تحولوا الى ملاك سلطة يحاصرون بها الآخرين. وهو بنقده الشجاع والمستديم "للمؤسسة" يتحول الى نبيل كبير لا تقوى "المؤسسة" نفسها على ابتلاعه او محاربته. قوته الأخلاقية والمعنوية تكسر جبروت القوة الباطشة مهما بدت عاتية. و"المؤسسة" هنا ليست النظام السياسي القائم فحسب، على رغم انه اكثر تمثيلاتها وحشية، بل هي ايضاً القيم الفاسدة التي تعشعش في المجتمع محل دفاع المثقف ذاته. حول هذه الأفكار دارت بعض اهم توكيدات ادوارد سعيد في "تمثيلات المثقف"، واحد من اكثر كتبه إشراقاً وذكاء والذي كان خلاصة محاضراته الشهيرة سنة 1994 في سلسلة محاضرات ريث التي تنظمها ال"بي بي سي" لأهم مفكري القرن. موقف ادوارد سعيد نراه يتردد عند كل مثقف عالمي إنسانوي. ذات لقاء جمعني مع وول سوينكا، الكاتب النيجيري الحاصل على جائزة نوبل للأدب والذي عاش سنوات منفياً بسبب مطاردة ديكتاتور نيجيريا السابق له ساني اباشا، سألته كيف يشعر وهو يلجأ الى بلاد من استعمروا بلده في السابق. رد علي بمرارة، لكن بنقد لا مواربة فيه، إن في ذلك إدانة لكل مجتمعاتنا العالمثالثية ولنظمها ولكل واقعها. لم يشتم الغرب، بل وجه النقد للذات أولاً. سعيد، وشريعتي وسوينكا وكثير غيرهم قدسوا في الغرب قيماً وإنجازات وإنارة افادوا منها ولم يترددوا في الاغتراف منها بلا هوادة. لم يعلنوا حرباً شعواء على الغرب كما تتهمهم ابواق الإمبرياليات الجديدة، بل نقدوا مؤسسات وآليات الهيمنة فيه بموضوعية وبلا تردد. في كتابه "الثقافة والإمبريالية" كان اخشى ما يخشاه سعيد انطباق تخوف فرانز فانون من ان تتحول الضحية، وهي في طور نضالها ضد الجلاد، الى جلاد آخر فتخرج من إنسانيتها. ان "تشيطن" الآخر كما شيطنها، وتبيح ما لا يباح فيه. فالمناعة المعنوية الهائلة للضحية لا تكمن فقط في عدالة قضيتها، بل وفي إنسانية نضالها. إذ خرج نضالها عن انسانيته، تنزلق الى لا إنسانية الجلاد. جبروت الجلاد ولا إنسانيته لا يبرران تبني وسائله الوحشية. تزاوج الاثنين: علو كعب اخلاقيات الضحية ونصاعة القضية هما جوهر النضال الشريف في كل مكان وزمان. انكسار واحد من طرفي هذا الزوج، يقود الى ترد يشوش فيه غياب ما غاب على بقاء ما بقي. اشتهار سعيد بتجلياته في "الاستشراق" وتقويض العلاقات المستترة بين "الثقافة والامبريالية"، أو بدفاعه العظيم عن عدالة قضية فلسطين، قللت الى حد ما معرفة الناس بإبداعاته في سياق التنظير لدور المثقف في المجتمع والعالم. وأهمية تنظيره ذاك تأتي من عبقرية التطبيق، حيث كان يفعل ما يقول، معارضاً شرساً لكل ما يراه منحرفاً عن بوصلة العدل الإنساني والقيم الأساسية التي تنزع نحوها ضمائر البشر. سعيد لم يكن مثقفاً عضوياً غرامشياً بالمعنى الآلي للكلمة، حيث التضامن مع المجموعة ضد انماط الهيمنة قد تحجب ضرورة واستدامة النقد الذاتي الخلاق. كان مثقفاً "نيو غرامشياً" عينه الناقدة لطغيان الخارج وشهوات هيمنته، لا تعيقه عن نقد الداخل والذات بجلاء وقسوة احياناً. لم يكن دفاعه عن فلسطين دفاع الأعمى، فقد ظل حتى الرمق الأخير شديد البأس على كل ما شاب الساحة الفلسطينية من اعتوار. وحتى في نظرته للآخر الإسرائيلي ظل مقاداً بنظرة انسانية وليست قومية، فأجهد نفسه في اجتراح حلول تصالح انتماءاته الى العدل والإنسانية مع دفاعه عن قضية قومية عادلة. لم يكن هجومه وتفكيكه لآليات التحكم الامبريالي في عوالم ومجتمعات العالم الثالث دفاعاً رخيصاً يعلي من رومانسية هذه المجتمعات ويبرئها من كل الآثام، بل كان سليط القلم على نظمها الحاكمة، وعلى انظمتها الاجتماعية المغلقة. وكان في نقده الشرس لأصوليات فكر صدام الحضارات لا يتعامى عن ترعرع اصوليات التطرف والعماء في الفضاءات التي يصد عنها هجومات الآخرين. كان فيلسوف مقولة "لا تضامن من دون نقد" وهي حقاً ما نحتاج إلى تذكره دوماً. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.