يثير عمل إدوارد سعيد النقدي والفكري الكثير من الجدل والنقاش والحوار، والاعجاب في الوقت نفسه، منذ أكثر من عشرين عاماً، أي منذ أصدر كتابه المميز "الاستشراق". ويمكن المرء أن يتابع صعود نجم إدوارد سعيد من خلال العدد الذي لا يحصى من مراجعات كتبه في الدوريات الأميركية والإنكليزية والكتب التي تكتب عنه والجدل الذي يثيره كل كتاب يصدره. ان من الصعب في هذا الزمان بالنسبة لناقد أدبي أن يصبح نجماً اجتماعياً تحتشد القاعات لسماعه ومشاهدته أثناء محاضراته، لكن ادوارد سعيد استطاع لبلاغته وحجته القوية وقدرته المميزة على جذب الجمهور أن يصبح من نجوم هذا العصر. وليس مستغرباً، استناداً الى هذه الخلفية، أن يثير اتهامه ب"تزييف" سيرة حياته الشخصية! جدلاً واسعاً في الأوساط الصحافية في العالم حيث انبرى للدفاع عنه عدد كبير من النقاد والباحثين والصحافيين الذين رأوا في الهجوم عليه نوعاً من التزييف المغلف برؤية أصولية متعصبة للتاريخ والوجود، وهي رؤية كثيراً ما عالجها إدوارد سعيد في كتاباته ورأى أنها مضادة لرؤيته الدنيوية للتاريخ والثقافة. يصدر إدوارد سعيد، في رؤيته النقدية وعمله المعرفي، عن تصور يرفض النظريات الأصولية في فهم الأدب والتاريخ، أي تلك التي ترى في الأصل الغربي - الأوروبي مصدر إشعاع يغمر بضيائه الثقافات الأخرى. وقد كان كتابه "الاستشراق" بمثابة نقد مضاد لكل هذه النزوعات الأصولية في فهم الثقافة والأدب والنقد حيث اختار لهجومه موضوعاً من أكثر الموضوعات الشائكة في التفكير الغربي حول الشعوب الأخرى، وهو الدراسات الاستشراقية التي صعد نجمها في مرحلة تاريخية ترافقت والتوسع الاستعماري الهائل خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كان ينظر للدراسات الاستشراقية في السابق بوصفها أعمالاً علمية خالصة لا تهدف الى تحقيق منفعة خارج إطار قراءة الشرق ومنجزه الحضاري والبحث عن أسباب تأخره والتعرف على العطب الداخلي الذي يقيم في لب تصوره للعالم! وهكذا اكتسب المستشرق صورة نورانية بوصفه مترهباً في عالم الفكر باحثاً في لغات غريبة مفككاً لعادات شعوب متأخرة كان لها في يوم من الأيام إرث حضاري يقوم المستشرق بمحاولة تحليله ووضعه تحت عدسة فكره الأوروبي التنويري! لكن إدوارد سعيد استطاع ببصيرته النافذة، وعقله التحليلي الذي هضم معارف الغرب ومناهجه الجديدة، أن يعيد تأطير هذه الصورة العلموية، التي تدعي الرصانة، لفكر المستشرقين وانجازهم، مفككاً هذه الصورة واضعاً الاستشراق في إطاره التاريخي الثقافي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً الى النصف الأول من القرن العشرين. لقد تكشف الاستشراق، في عمل سعيد، عن ممارسة من ممارسات القوة، عن تمظهر من تمظهراتها" وهو كان يخدم، بغض النظر عن الحالات القليلة التي تمثل الاستثناء لا القاعدة، برنامجاً استعمارياً للهيمنة والسيطرة، ولم تكن أهدافه، ومن ثمّ، علمية خالصة كما ادعى ممارسوه وأتباعهم ممن درسوا تاريخ الاستشراق وانجازه النصي. يرى إدوارد سعيد أننا "إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر بداية محددة تقريبية للانطلاق منها فإن الاستشراق يمكن أن يدرس ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق - التعامل معه بإنشاء عبارات وزوايا نظر مفوضة حوله، بوصفه وتعليمه وتحديده والحكم عليه: ان الاستشراق، باختصار، هو الأسلوب الغربي للسيطرة على الشرق واعادة بنيته وامتلاك السيادة عليه". الاستشراق، ص: 3. ومن الواضح أن ما أثار حفيظة الكثيرين من نقاد سعيد هو اللهجة الهجومية، التي تستند الى أرشيف ضخم من الكتابات الاستشراقية، كما تستند الى معرفة دقيقة بمناهج التحليل الغربية الجديدة التي قرأت مناطق أخرى من ممارسات القوة - المعرفة وكشفت عن فضيحة العقل الغربي في أزمنة التنوير والحداثة قراءة فوكو لتاريخ الجنون، وتاريخ الجنس، وتاريخ العقاب... إلخ. لقد كان كتاب "الاستشراق" من الكتب الأساسية، في القرن العشرين، العابرة للتخصصات التي أثرت في عملية تغيير التفكير في موضوع الاستشراق كما في حقول التفكير بالعالم الثالث وعلاقة المستعمِر - المستعمَر مما مهّد لظهورها ما يسمى الآن "دراسات ما بعد الاستعمار" التي تعيد النظر في الخطاب الاستعماري حول البلدان والشعوب المستعمرة، ومن ثمّ تفكك هذه العلاقة وتنظر الى الذات الوطنية بعيون جديدة غير خاضعة لمناهج التحليل الغربية المهيمنة. بهذا المعنى يمكن القول ان ادوارد سعيد، سواء في "الاستشراق" أو في كتابه التالي "الثقافة والإمبريالية" ودراساته الكثيرة الأخرى، ملهم لقطاع واسع من النقاد والباحثين في الدراسات الثقافية وتحليل الخطاب الذين بدؤوا يعيدون النظر في الكثير من المسلمات التي روج لها الخطاب الغربي في العلوم الإنسانية. يندرج في هذا السياق ثورة تغيير مفهوم الأعمال الأساسية The Canon التي يسمح بتدريسها في أقسام الأدب في الجامعات الأميركية والأوروبية، إذ كان اسهام ادوارد سعيد شديد الأهمية في الحض على تغيير هذا المفهوم الذي ينضح بنظرة عرقية مركزية غربية فاقعة ويستبعد المنجز الإنساني في الأدب، ويسقط أدب الأقليات والملونين من حساب المؤسسة الأكاديمية الغربية. كان "الاستشراق" إذاً هو الذي وضع إدوارد سعيد في دائرة الضوء، لكن عملاً آخر سبق "الاستشراق" لم يلق من الاهتمام ما يستحقه، ربما لطبيعة موضوعه المعقدة. ان كتاب "بدايات" 1975 يدور حول مشكلات البداية واختيار الكاتب الحاسم لبداياته التي يرتحل منها وتميز عمله عن غيره من الأعمال التي سبقته. لكن أهم ما في "بدايات" هو تساؤلاته الجذرية حول اللغة بوصفها موضوعاً للتفكير، وحول الهيمنة الثقافية لمجال ثقافي أو قومي على آخر، وحول الأصالة والتحرر والحرية. بدايات، ص: 381 وهي أسئلة بحثتها أعمال تالية لإدوارد سعيد بدءاً من "الاستشراق" 1978، مروراً ب"القضية الفلسطينية" 1979 و"تغطية الإسلام" 1981، و"العالم، والنص، والناقد" 1983، وصولاً الى عمله المميز الأخير "الثقافة والإمبريالية" 1993 الذي يوسع أطروحة كتاب "الاستشراق" لتشمل جهات جغرافية أوسع في العالم تتجاوز الشرق وحقول بحث وابداع كالرواية والشعر، دارساً في هذا الكتاب التحليلي الواسع الإطلاع والمعرفة علاقة صعود الرواية وتطورها بالتوسع الإمبريالي، على سبيل المثال لا الحصر. ان ادوارد سعيد، كما نلاحظ من استعراض موضوعات كتبه، يعمق فكرته الأساسية عن ترابط الإنجاز النصي والعالم وشروط الحياة اليومية للبشر رافضاً تصورات منظري ما بعد البنيوية الذين يرفضون أية مقاربة لعلاقة النص بالعالم، مفضلين الاهتمام بالتداخل النصي! انهم، كما يرى سعيد، لا يقدمون "أية دراسة جدية لمفهوم السلطة، سواء من حيث الطريقة التي تنتقل بها السلطة تاريخياً وظرفياً من الدولة الى المجتمع المشبع بالسلطة، أو بالعودة الى العمل الفعلي للثقافة ودور المثقفين والمؤسسات والأجهزة الاجتماعية". العالم والنص والناقد، ص: 172. النقد الدنيوي وهو من ثمّ يؤسس في "العالم والنص والناقد" مفهومه لدنيوية النصوص ويقارن بين ما يسميه النقد الديني والنقد الدنيوي مفضلاً النقد الأخير الذي يرى أن النصوص الأدبية "في أكثر أشكالها مادية تكون منشبكة بالظرف والزمان والمكان والمجتمع. باختصار انها موجودة في العالم ]في الدنيا[، ومن ثمّ فإنها دنيوية". العالم... ص: 35 على هذا الأساس فإن هدف "النقد الدنيوي" هو "الوصول الى احساس مرهف بما تستلزمه قراءة أي نص، وانتاجه وبثه، من قيم سياسية واجتماعية وإنسانية". ص 26. يميز ادوارد سعيد أيضاً بين النظرية والوعي النقدي انطلاقاً من عقيدته الدنيوية فهو يرى أن "الوعي النقدي هو ادراك الاختلاف بين المواقف، وادراك الحقيقة التي مفادها أن لا نظام، أو نظرية، يمكن أن يستنفد الموقف الذي منه انبثقت أو اليه انتقلت هذه النظرية...، ان الوعي النقدي هو ادراك مقاومة النظرية، وادراك ردود الفعل التي تثيرها النظرية في التجارب والتأويلات الملموسة التي هي في صراع معها. وفي الحقيقة أنني أريد أن أذهب بعيداً وأقول ان عمل الناقد هو توفير مقاومة للنظرية، وفتح هذه النظرية على آفاق الواقع التاريخي، على المجتمع والحاجات والاهتمامات الإنسانية. ان عمله هو ان يحدد الشواهد الملموسة المستخلصة من الواقع اليومي الذي يكمن خارج أو بعد منطقة التأويل". العالم ص 242. بالمعنى السابق يظل ادوارد سعيد وفياً لأفكاره التي مسها بصورة عابرة في "بدايات"، وشرحها بوضوح تام في "الاستشراق" ثم قام بتوسيعها ومد مجال تحليلها في "الثقافة والإمبريالية"، وكذلك في "صور المثقف" 1994 حيث يركز على ضرورة أن يمتلك المثقف وعياً نقدياً. يشدد صاحب "الاستشراق" في كتابه "صور المثقف" على ضرورة أن لا يغيب المثقف في كتلة التفاصيل وأن لا يصبح مجرد شخص يضاف الى جمع المتخصصين. يقول "أريد أن أشدد على أن المثقف فرد له دوره العمومي المحدد في المجتمع الذي لا يمكن اختزاله ببساطة الى وظيفة لا وجه لها، الى مجرد فرد مختص منشغل تماماً بعمله. ان الحقيقة المركزية بالنسبة لي، كما أظن، هي أن المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة، أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأي، وتجسيدها والنطق بها أمام جمهور معين ومن أجله". صور المثقف ص 8. من هذا التشديد على دور المثقف في حياة المجتمع يمكن فهم الدور الذي يضطلع به ادوارد سعيد في الدفاع الحار عن الحقوق الفلسطينية، والانشغال الدائم بتحليل الشروط التاريخية للوعي الفلسطيني، وكذلك وعي العالم بالقضية الفلسطينية. وهو يستخدم لشرح وجهة نظره أشكالاً ووسائل متعددة لتوصيل أفكاره: الكتابة الأكاديمية والأبحاث المتخصصة، الكتابة الصحافية، والمقابلات التلفزيونية والإذاعية" مما جعله شخصية عامة مؤثرة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، وجلب عليه في الوقت نفسه غضب المؤسسات الصهيونية النافذة في الغرب التي فتحت عليه النار بالمعنيين المادي والرمزي، وآخرها حملة جستس رايد فاينر ومجلة كومنتري الصهيونية الأميركية. ان ادوارد سعيد هو اليوم واحد من ألمع النقاد والباحثين المؤثرين في مجال العلوم الإنسانية في أميركا، ان لم نقل في العالم. وقد ألهم عمله عدداً لا يحصى من الباحثين في مجالات عدة. في النقد والعلوم الإنسانية. كما أنه الوجه الأبرز في الإعلام الأميركي الذي يتحدث بصورة دائمة عن حقوق الفلسطينيين في وسائل الإعلام الأميركية وكذلك الدولية الأخرى. وهو الى جانب كونه مؤلفاً بارزاً لعدد كبير من المؤلفات، التي تتراوح بين النقد والدراسات الثقافية ونقد الموسيقى والكتابات السياسية، يحاضر في عدد كبير من الجامعات الكبرى في العالم، كما أنه يرأس الآن "جمعية اللغات الحديثة" في أميركا وكان سبقه الى رئاستها أعلام كبار في النقد مثل رينيه ويليك، وهو يكتب في عدد من الصحف والمجلات المؤثرة في أميركا وبريطانيا: نيويورك ريفيو أوف بوكس، لندن ريفيو أوف بوكس، ذا نيشن، هاربرز، اضافة الى كونه عضواً في هيئات تحرير عدد كبير من المجلات والدوريات الأكاديمية البارزة في أميركا والعالم.