إذ عرضت احدى الفضائيات العربية سيرة شفاهية لأحد الذين كانوا قادة في سورية مطلع الستينات، فهي تزيدنا اعجاباً بقدرة هذا البلد على تجاوز هذا الكم الهائل من اللاعقلانية والصبيانية السياسية عند اولئك. لكن اذا كان لنا ان نرثي لصاحب السيرة التي أرادها بمثابة نقد ذاتي تأخر الى ان اصبح مُصاناً اميركياً، وهو نقد عرّفنا إلى طريقة تحليلات طائفية من الدرجة الثامنة، إلا اننا لا بد من ان نصاب بالدوار، لأن احداً يملك كل هذا الحقد المناطقي على دمشق وأهلها خصوصاً والطائفي على بعض الطوائف السورية من علويين ودروز وإسماعيليين، يدعوهم باستهتار: عدس، وازورار عن مسيحييها... لا يمكن إلا ان يكون نموذجاً مشوهاً عن السوريين، مرتين: مرة لأن من يحلل بهذا الشكل المناطقي الطائفي لا يوصّف إلا مشهد وعيه الداخلي، ومرة ثانية لأن من يسمح لنفسه بهذا التحليل في وقت النكبة الثانية، وفي وقت تحتاج فيه الأمة وليس فقط شعب دولة فيها الى تراص، ويسمح لنفسه بث الفرقة في صفوف السوريين، شخص يستحق - اقله - المشهد السياسي في سورية ان يفخر انه اقتلعه. ليست قضيتنا الرد على فلان من الناس، فالرد لا معنى له، فقد قضي الأمر، والبشر لا يتغيرون، خصوصاً إذا بلغت من العمر عتياً، لكن هدفنا هو ان ندرأ من خطر التفكير والقول والعمل... الطائفي. كنا سنقبل ممن يدعي انه يفهم بالسياسة كما كان السياسي يردد اي نقد ذاتي، وهو واجب لكل من يعيش تجربة ما، فما البال بتجربة السلطة، لكن ان يأتي ذلك النقد على طريقة تجريم طائفي من موقع طائفي، والبلاد تواجه وحدها ما تواجه، فهذا ما لا يمكن قبوله ابداً، ذلك ان السياسة هي حساب عالٍ. والحقيقة ان ما أثار مسؤوليتنا في الرد على تلك الطروحات التي سمعناها من الرجل، وكنا دائماً نتجاهله ونرى ان الرد عليه بلا جدوى، ان الرجل تجاوز حدود الرفض والمعارضة الاعتياديين الى تحليلات هي اقرب الى نبش تهم طائفية، ودائماً من موقع طائفي، الأمر الذي لا يشوه وعي المواطن العربي فحسب، بل يحيي فتنة ويحرّض على تبني التحليل الطائفي طريقاً، وهو ما نظن اننا وضعنا سوراً صينياً بيننا وبينه، فضلاً عن ان التعامل معه لا يمت الى الترف الماجن، بل يكاد والأمة في مواجهة ما تواجه ان يكون اقرب الى الكفر. لا يمكن قبول مفهوم الأقلية او الأكثرية في مجتمع ما او في الفعل السياسي لنظام سياسي بعينه إلا اذا كان ثمة فعل طائفي يستجرّ وضعاً اقلوياً ووضعاً أكثروياً. وهذا يعني انه اذا لم تكن هنالك ممارسة اكثروية بالمعنى الديني او المذهبي فلن تقابلها وضعية او ممارسة اقلوية. وعليه فإذا كانت الممارسة الأقلوية مُدانة برأي البعض لأنها تتنافى مع صورة وفعل الدولة الحديثة، فإن الإدانة ذاتها، وربما اكثر منها، تتجه ايضاً الى الفعل الأكثروي الطائفي اللاوطني ايضاً وغير المعاصر. ونقول إن الإدانة تبلغ درجة اعلى للأكثرية، لأن الأكثرية يفترض انها ليست في وضع متوتر وبالتالي فإن عليها مسؤولية التعايش الأمثل مع محيطها المتنوع. نقول هذا ونحن على قناعة بأن الموقفين الأكثروي والأقلوي المذكورين هما من موقع ديني او مذهبي، وليس كما هي الحال في الدول المعاصرة من موقع وطني مصلحي - مدانان في الممارسة الاجتماعية التفاضلية التمييزية وفي المفاضلات السياسية. وهما لا يؤسسان لفعل وطني. والحال هنا ان صاحبنا الذي يقرأ ممارسة زملائه في السياسة من موقع اقلوي، مدان بالجرم نفسه اللاوطني ولكن من موقع آخر تسميته المباشرة انه اكثروي - طائفي. ولو كان الرجل وطنياً بالمعنى المعاصر المتأسس على وطن للجميع وتبادل للسلطة على اساس ثنائية اكثرية وأقلية حزبية وبرنامجية، لوجب ان يكون تقويمه للموقف متجاوزاً تلك الثنائية المنطلقة - اصلاً لديه - من فعل او رد فعل طائفي، لا فرق. إذ ان الفعل الطائفي ورد الفعل الطائفي يتساويان في القوة ويتعاكسان في الاتجاه كما تفرض قواعد الجملة الفيزيائية. ثم انه اذا توخينا التحليل من زاوية اخرى فإننا نذكر ان دولاً كالسويد تحمّل الأكثرية الوطنية مسؤولية اضافية تجاه الأقليات لا من موقع التفضّل ولكن من الموقع الوطني نفسه، حرصاً على تجنب فعل طائفي اكثروي يجر الى رد فعل أقلوي وكلاهما يتساويان في الجرم او الجنحة الوطني نفسه. لا ننفي ان بلداننا العربية لم تصل الى الدولة - الأمة - المصلحة التي تشكل نموذج الدولة المعاصرة، وهي تحفل بهجين من الذكريات الطائفية من موقعين اكثروي وأقلوي ومرة اخرى كلاهما مدانان بالفعل نفسه، لكن سيرورة العمل الوطني في سورية كانت دائماً فوق هذا الثقل التاريخي، في محاولة جدية لبناء مفهوم الوطن على اساس من التمني الأخلاقي ريثما يتأسس الفعل الوطني في سيرورته واقعاً، وهو امر يحتاج الى تراكمات وسنين طويلة، ويستلزم دوراً من البنى الفوقية، اعني من إكراه الدولة أعجبنا ام لم يعجبنا! الرافض والمؤثّم لأي إشارة او قول او فعل او ممارسة طائفية. صحيح ان الفعل هذا لا يلغي الطائفية، التي تبقى كالجمر تحت الرماد، لكنه يُشكل أهون الشرين، إذ ان الحكمة والمسؤولية لا تسمحان بإطلاق الحراك ما قبل الوطني - الدولتي - القومي الطائفي على عواهنه بانتظار تشكل الدولة المعاصرة وهي في المآل الدولة - الأمة - المصلحة. إذ ان ترف التنظير من علٍ لن يؤدي إلا الى انهيار وكارثة وطنية. ميزة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد انه جرّم الطائفية قولاً وفعلاً، والأهم انه فتح البلاد على مصراعيها ومن طرفها الى طرفها الآخر، إذ بدلاً من أن تحكمها دمشق وحلب فحسب، فقد بات بإمكان أي مواطن أن يأخذ فرصة الترقي، بمن فيهم أبناء الريف الذين لا يراهم السياسي المذكور إلا من موقع الأقلية المذهبية او الدينية ونراهم مواطنين سوريين عرباً بامتياز، وبالتالي فقد باتت لهم مصلحة تتجاوز الانتماء الأولي والوجداني الى بلد كسورية، وبذلك فقد خطونا خطوات واسعة باتجاه دولة لكل مواطنيها، وليس دولة لفئة بعينها. ثم اننا بتنا نسجل في تجربتنا الوطنية في سورية في عهده مفهوماً جديداً للأقلية والأكثرية، فلم يعد الانتماء بالولادة هو الذي يُعين المفهوم من الناحية الوطنية، فمن يحمل همّ الأكثرية الوطنية والقومية هو الأكثروي أياً كان مولده وانتماؤه الذي ليس له فيه من امتياز أو خيار. ولهذا فحافظ الأسد الذي حمل همّ القضية القومية الأولى، فلسطين، كان أكثروياً بالمعنى الوطني بما لا يجعل ثمة من مفاضلة مع أكثروي ديني أو مذهبي لا همّ له إلا أن ينقب وراء انتماءات الآخرين التي لم يختاروها، وهو ليس فقط أقلوياً من حيث الممارسة، لكنه مارق، وهنا يستقيم القول ويتموضع المفهوم كما لم يفعل الأميركيون باستعماله، فالمارق هو الخارج عن الطاعة المفارق للجماعة الوطنية ومصيره معروف! هل انهينا بترفعنا عن الموقف الطائفي الطائفية؟ بالتأكيد لا، لكننا رسمنا فرصة لفتح البلاد على بعضها البعض، الى أن يتشكل العامل الاقتصادي والتاريخي الذي يؤسس لمفهوم المواطنة المعاصر، وهو أمر يحتاج الى تاريخ، لكن فتح البلاد على بعضها البعض كان امتيازاً لكل السوريين، ومدخلاً الى الوطنية المعاصرة. صحيح ان هذا لم يكن بيوريتانياً طهرانياً، وليس له أن يكون لأن الكمال لله، لكن الدوافع كانت وطنية ونبيلة، وحسبنا اننا تمازجنا وتعاونا وطوينا الصفحات التي كانت تعتمد تحت الرماد ناراً، وجاءت تجربة الصراع أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي لتوقظها، وتركت آثاراً سيئة، لكن المحصلة كانت وطنية جامعة. تربينا في سورية على أسس وطنية لا تفرّق بين دين وآخر وبين هذا المذهب أو ذاك، ولكن ذلك كان وجدانياً لا أساس مادياً ومصلحياً وحداثوياً له، وهو في الأصل ما يحتاج الى تاريخ وزمن طويل وتراكمات، ومع ذلك كان معيارنا وطنياً، وكأن الفضاء الوطني السوري لا يكفينا. وهنا لا بد من وقفة نظرية: لا بد من أن ندرك ان مسألة الأقليات ليست بالتبسيط الذي يتم التعامل معه وجدانياً ورغبوياً وعلى طريقة صاحبنا الطائفية الموقع والممارسة والرؤية، فلا ضامن لحقوق الأقليات إلا في اطار الحقوق، إذ ان فكرة الديموقراطية لا تنفصل أبداً عن منطق الحقوق. وهنا نشير الى أن دعاوى السياسي السوري التي اتحفنا بها حول تغلغل الأقليات بالمعنى الديني والمذهبي في حزب البعث في سورية وكذلك في الجيش، لا تقرأ بعقليته الطائفية انما تقرأ على أساس فهم ان حركات التحرر الوطني في كل الدول العربية كانت حركات ريفية، وهو ما يفسر الشحنة الكبيرة التي يراها السياسي المذكور طائفية ونراها وطنية من دون اختلاط. والسؤال الأهم: هل ثمة فعلاً طوائف بالمعنى السياسي في سورية كما ادعى السياسي المذكور، أم أنها طوائف بالمعنى الكينوني الثقافي، خصوصاً إذا كانت بلا مرجعيات، وهذا بحد ذاته ما يحتاج الى بحث، ولكن شرط أن يكون الباحث غير مُصاب باللوثة التي يتناولها! خصوصاً أنه يعلن أنه يريد للأكثرية المذهبية ان تحكم البلاد، وهذا موقف غير وطني بل هو طائفي بامتياز، فسورية ليست طوائفها انما هي مواطنوها، ولا يهم انتماء من يحكمها الديني أو المذهبي أو المناطقي، المهم ان يكون كفواً. وطالما ان مخاطر الاختلاط بين الأكثروية السياسية وتلك الاجتماعية، قائمة الى حد كبير في المجتمعات الفسيفسائية الموزاييكية وفي عموم المجتمعات العربية التي لم ينضج فيها الحراك السياسي ليتموضع في قمة الهرم، وعند أمثال ذلك السياسي الفذّ، فإن الدعوات الديموقراطية لا يجب أن تقفز فوق حقيقة ان المواطنية شرط مسبق قبل الولوج في المستوى الديموقراطي، على أن ندرك ان "المواطنية تستدعي الوحدة الاجتماعية المتكاملة، كما تستدعي الوعي بالانتماء لا الى مجرد مدينة أو دولة قومية"، انما بالوعي ما قبل القومي أيضاً باعتباره جزءاً من الهوية العامة للفرد والجماعات، على أن يتم وضع كل انتماء في فاعليته، وذلك حتى لا نفاجأ بأن ثمة من لا يزال يفكر بطريقة طائفية. ليس ثمة شيء يثير قلقنا مثل ارتكاسات الوعي واللاوعي الشعبي الى الانتماءات الكينونية، نعني الانتماءات بالولادة، والتي لا حول لنا ولا قوة فيها ولا امتياز لنا بالانتماء اليها وهي الانتماءات: "الدينية، الطائفية، العشائرية، المناطقية، الحاراتية، الفئوية...". وليس أكثر ما يثير اشمئزازي تلك التبريرات التي تساق تحت عناوين من قبيل: "من لا أصل له لا فرع له"، أو "البحث عن الجذور"، أو "الأصالة"... وهي كلها تبريرات لفعل البحث عن هوية بعد تداعي وانهزامات الهوية الشاملة، التي تسم مفهوم الوطن. * كاتب سوري.