استطاعت الأقليّات ضمن التنوّع السوريّ الحصول على تعاطف عالميّ كما هو متوقع تاريخيّاً، ومن دون أيّ جهد يذكر، بينما فشلت «الأكثريّة» في طمأنة العالم الى مصير الأقليّات وأحوالها في سورية على رغم الجهود الحثيثة التي بذلتها المعارضات المتوالية بتنوّعاتها. وهذه النتيجة أقرب الى الطبيعيّة في ظلّ أحكام نمطيّة تسود المزاج العالميّ، عمل النظام الأسدي على ترسيخها بنجاح يُحسد عليه. ولكن إذا كانت الأقلّيات واضحة نوعاً ما، فمن هي الأكثريّة في سورية؟ وهل هي حقّاً أكثريّة بالمعنى السياسيّ؟ المشكلة أنّ هناك خلطاً كبيراً بين الانتماء الى المذهب السنّي، والآراء السياسيّة لتلك الفئة، وبالتالي مجموعة أفعالها، وهذا ما يحتاج إلى التوضيح في معظم تفصيلات هذه الأكثريّة «المزعومة». فنسبة لا بأس بها من أبناء هذه الطائفة كانت وما زالت موالية للنظام إلى أبعد الحدود، على رغم همجيّة النظام ووحشيّته في الاحتفاظ بسلطته المغتصبة منذ عقود. لكنْ، هل النظام في سورية طائفيّ؟ ولو شئنا الدقّة هنا: هل النظام علويّ؟ نعم إنّه طائفيّ، لكنّه ليس علويّاً، وكذلك ليس مجموعة تحالفات من الأقليّات على رغم أنّ معظم مفاصل الدولة الأمنيّة والعسكريّة تقبع بين براثن أشخاص ينتمون الى الأقليّات. وفي هذا الصدد تكاد لفظة «طائفيّة» تعادل كلمة (مافيا)، بحيث لا يغدو شرط الانتماء الى طائفة ما هو الوحيد الذي يتحكّم في صعود الأشخاص إلى هرم السلطة القائمة، بل هي مجموعة متنوّعة من العوامل أهمّها على الإطلاق الولاء المطلق. من هذا التقديم، تغدو كلمة «الأكثريّة» عبارة عن وهم شعبويّ ليس إلّا، حيث الأكثريّة بالمعنى السياسي تتجاهل جذور الانتماء، وتقوم على مجموعات من الأهداف البعيدة منها والقريبة، وقد عرفت تجربة الدولة السوريّة الحديثة الكثير من «أهل السنّة» في صفوف تيّارات يساريّة الهوى، على رغم «يمينيّتهم» المفترضة، ولا سيّما حزب البعث المحسوب في شكل من الأشكال على اليسار. في الواقع، يجرى تسويق كلمة الأكثريّة بكثافة في ظلّ الثورة السوريّة، ويقع منظّرو هذا التسويق في خطأ كبير عندما يعتمدون على الأكثريّة في ديدنهم، وبخاصّة ذاك المتعلّق ب «صناديق الاقتراع». ففي ظلّ ظروف استثنائيّة من الاقتتال الشرس على الحرّيّة المسروقة من سلطة غاشمة، تنتعش هذه الكلمة إلى الحدّ الذي تغدو فيه الأقلّيات بحاجة إلى طمأنة بالفعل. ولكن إذا نظرنا بعين موضوعيّة الى تلك الأكثريّة، فسنجدها فقط مجموعة من التحالفات البدائيّة (والإسميّة فقط) لأقليّات عقائديّة، تقع على خطّ طويل من أقصى التشدّد الدينيّ، إلى أقصى التسامح وقبول الآخر، على رغم مرجعيّتهم الانتمائيّة الى السنّة، بما في ذلك انتماءات إثنيّة أخرى. المضحك عند بعض الإسلامويّين في تصريحاتهم المكرورة عن نسبة السنّة في سورية تقديرها بثمانين في المئة، ثمّ التلويح الدائم بهذه النسبة بمن فيهم الأكراد مثلاً. وفي الحسابات العروبية أيضاً، النسبة تكاد تكون ذاتها بعزل الأكراد هنا وضم الأقليات الأخرى كالدروز والعلويين ومعظم المسيحيين. فإذا طالب الأكراد بحقوق وتطمينات وقف العروبيّون لهم بالمرصاد كأكثريّة، وكذلك الأمر لو بدّلنا المواقع. وهكذا يشدّ الجميع لحاف الأكثرية الذي هو أصغر من كذبة الوحدة الوطنية بكثير. السنّة كأكثرية ليست سوى خديعة كبرى، بل إنّها في الواقع أكثر تمزّقاً من أيّ وقت مضى. لدينا السنّة العشائريّة التي ولاؤها المطلق للعشيرة، وليس للمذهب، وتجلّى ذلك بوضوح كبير في مدينة حلب عندما عملت بعض العشائر في مهنة التشبيح لدى النظام. والأمثلة كثيرة كذلك في بعض المناطق الأخرى كدرعا ودير الزور والرقة، ولدينا أيضاً السنّة المناطقيّة التي ولاؤها مناطقيّ بالدرجة الأولى، وأيضاً لدينا السنّة المنقسمة طبقيّاً، والتي تنقسم بدورها بين مستفيدة من النظام ومن دعمه، ومتضرّرة منه ومن بقائه. وفي كلتا الحالتين الدوافع مصلحيّة وليست مذهبيّة ولا حتّى شكلاً. كما أنّ هناك انقساماً شاسعاً بين جماعات المشايخ السنّة وأتباعهم، ولا يمكن بحال من الأحوال القول بأنّ مريدي وأتباع الراحل البوطي أو المفتي حسّون يتوافقون مع مريدي وأتباع الشيخ الرفاعي أو الصياصنة أو غيرهما من مشايخ الثورة المعروفين منهم والمغمورين. وإذا جاز لنا الحديث هنا عن الفرق بين السنّة في المناطق المنكوبة عن تلك التي تسمّى مجازاً «مرتاحة»، فسنجد كذلك فروقاً متباينة في الموقف السياسي، ناهيكم عن تلك المعضلة القديمة بين سنّة المدن وسنّة الريف. كما أنّ هناك أنواعاً من التسميات لطوائف السنّة، على شاكلة: متطرّفين، جهاديين، سلفيين، معتدلين، منفتحين، صوفيين...، قبل أن يدخل الإسلام السياسي كمصطلح فضفاض غير واضح المعالم، ويزيد في التنوعات تلك الإثنيّات السنّيّة الكثيرة كالتركمان، والشركس، والقرباط مثلاً لا حصراً. فالأكثريّة مجموعة زاخرة بالفروقات، منها ما هو جذريّ، وما هو شكليّ، وما بينهما الكثير أيضاً، وعلى ذلك تتخذ الدول مواقفها السياسية تجاه المسألة السوريّة بالاختباء وراء تلك «الفسيفساء» غير المتجانسة. أمّا الأقليّات فلكلٍّ منها مرجعيّة تدّعي حمايتها، وهنا قد يجوز القول بأنّ «الأكثريّة» يتيمة بالفعل، كحال توصيف الثورة السوريّة. إذاً، من هم الأكثريّة المعنيّة بتلك الطمأنة، فيما هي ليست سوى ذلك المسمّى البدائيّ لمجموعات نهشتها السياسات البعثيّة والأسديّة إفقاراً وتجهيلاً، كما وأدت بذور المدنيّة منذ عقود، فحالت دون تشكيل الأحزاب وحتّى النقابات بحيث تكون لدينا أكثريّة وطنيّة. واستطراداً، من أيّ «جيش حر» نستطيع طلب حماية الأقلّيات؟ لا شكّ في أنّ لدى الأقليّات هواجس وأوهاماً «نمطيّة» لا علاج لها سوى التأسيس لرؤية وطنيّة جديدة ليست قائمة على الأسوأ المقتطع من التكوين السوريّ العام. فالوطنيّون وحدهم يدركون أن الثورة لا تحمل لوناً طائفيّاً، وإنّما هي ثورة «تحرّر وطنيّ» بكلّ ما يعنيه هذا المصطلح الكلاسيكيّ من معنى. * كاتب سوري