برزت أخيراً تأكيدات من مواقع فكرية شتى على أن السنّة هم الأمة، ولا يجوز التحدث عنهم بوصفهم طائفة على غرار الطوائف الإسلامية الأخرى، أو على غرار الأقليات الدينية. تأكيدات ربما كانت لتبقى في إطار الاجتهاد البحثي لولا الظروف السياسية الحالية المحيطة بالثورة السورية، والتي استدعت استقطاباً سنّياً شيعياً، أي جعلت مقولات كهذه تُنسب فوراً إلى التسييس المباشر في الواقع، وتحتكر تالياً مفهوم الأمة، على ما فيه من إلتباس، في شكل مستدام، بينما تنسب الطائفية إلى الآخر كماهية مستدامة أيضاً. هنا نفرّق بين المقولات الفكرية وتلك التصريحات التي رافقت مؤتمر علماء المسلمين «السنّة» الذي عُقد في القاهرة في 13 حزيران (يونيو) الجاري. فالمؤتمرون تعاطوا مع مفهوم الأمة من منطلق إخواني ركز في أدبياته المبكرة على مفهوم الأمة الإسلامية. وجه الاعتراض الأول على تلقف هذه الخلاصة وترويجها يأتي من التبسيط الذي لا بد أن يرافق عادة أي تنميط. فتحويل الأكثرية السنّية إلى نمط يقابل تنميط الطوائف الأخرى يتجاهل بالضرورة أن السنّة لم يكونوا دائماً سنّة بالمعنى السياسي المقصود، ولم يتصرفوا دائماً على هذا النحو. في المقابل لم يكن الشيعة، في أماكن تواجدهم، شيعة دائماً على النحو الذي نراه الآن في تجربة الملالي وتوابعها، وليس من المحتم أن يبقوا كذلك أبداً. نستذكر المفهوم الإخواني للأمة مرة أخرى، لأنه لا يعترف بالحدود الحالية القائمة بين الدول، ولا يعترف تالياً بالفوارق الثقافية بين شعوبها التي، وإن انتسبت إلى المذهب السنّي، فذلك لا يجعل منها وحدة متجانسة عبر الحدود، ولا يجعل منها وحدة متجانسة في كل بلد، وهو بهذا يتقاطع مع الأيديولوجيات القومية التي باءت بالفشل برفعها المذهب الديني إلى مرتبة القومية. لذا ثمة خطورة تأتي من البناء على التصور الإخواني، ولو من طرف خفي، لأنه بالأصل تصور لا يمكن اختباره إلا عبر إنكار الحدود القائمة، والسعي إلى إعادة رسمها بناء على التموضعات المذهبية في أدنى الحالات، وبناء على التطلعات «الإمبراطورية» وفق أعلى الطموحات. وبما أن مفهوم الأمة السائد لا يزال يمتح من فكرة «العصبية»، فقد يكون من السهل البناءُ على أوقات تشهد أزمات كبرى، يعتقد فيها أهل السنّة في دولهم أنهم مهددون بوصفهم سنّة تحديداً. لكن وعي الأزمة الذي يدفع بالعصبية إلى أعلى حالاتها ليس بالمعيار الذي يجوز تعميمه. على العكس من ذلك، يدلل وعي الأزمة وانتعاش العصبية على افتراق السنّة عن كونهم أمة جامعة بالمعنى الذي يقصده مفكرون غير إسلاميين، لأنه بالضبط يحيل إلى قابلية التمحور على الذات كطائفة لا كأمة. بالطبع ينبغي عدم استبعاد مفهوم «القوم الأكثري» بالتوازي مع السنّة، غير أن ديمومة هذا الوصف تحتمل من الخطأ الفكري ما يحتمله مفهوم الأمة أيضاً. فمعيار القوم الأكثري هو إحساس أبنائه ووعيهم لذواتهم كأكثرية حقيقية، وشرط ذلك أيضاً ألا يستشعروا الخطر الخارجي أو الداخلي يستهدفهم كسنّة. إذ ليس بجديد أو طارئ أن تتلبس الأكثرية وعياً «أقلوياً» متى شعرت بأنها مهددة ككتلة، بصرف النظر عن صواب شعورها من عدمه، ما يكسبها آليات دفاعية مشابهة للآليات الدفاعية للأقليات. يتضح هذا جلياً مع شيوع النظر إلى البعد الهوياتي للصراع السياسي الخارجي أو الداخلي، وهو ما لم تكن شعوب المنطقة بمنأى عنه منذ بدء ما يُسمّى عصر النهضة. مع ذلك تبدو محاولات تطييف السنّة متعثرة طوال الخمسين عاماً الماضية، من دون أن تنجح أيضاً المحاولات الخجولة ليصبحوا أمماً. فالأمة/الدولة وفق الحدود الحالية لم يُقيّض لها الإنجاز بعد، فضلاً عن أن التفكك الذي يشكو منه دعاة الأمة الإسلامية هو الغالب على سعيهم إلى اصطناع عصبية سنّية، الأمر الذي يلقى تشجيعاً موسمياً نابعاً من العداء للآخر فحسب، وأهم ما ينجزه مراوحة أصحاب الشأن بين كونهم طائفة وكونهم أكثرية. في الواقع سيكون الاحتكام إلى الأرقام مخادعاً، شأنه شأن الاحتكام إلى التاريخ. فدلالة الأرقام تتباين بين بلد وآخر، بخاصة في شرق المتوسط، وفي بلد مثل سورية لا يمكن الحديث عن أكثرية سنية تحت وطأة المستوى الطائفي للنظام، وأيضاً عندما يغيب التمييز بين طائفية النظام ذات الاستثمار السياسي المباشر والمسألة الطائفية ككل المستمدة من تاريخ ما قبل الدولة السورية. المشاعر السائدة هنا هي أن السنّة مستهدفون حصراً، ويغذّيها النظام باستمرار، فينجح نسبياً في تطييف السنّة وإخراجهم من موضع الأكثرية الحقيقي. وأكثر ما ينجح فيه هو المستوى النفسي، أما المستوى السياسي فيتعثر حتى الآن بدلالة عدم قدرة الأكثرية على التحول إلى «بلوك» طائفي بأهداف ووسائل سياسية وعسكرية موحدة. ثم إن الحديث عن وعي أقلوي يبقى ناقصاً ما لم يأخذ بالحسبان تاريخاً من تشكله، وأيضاً تاريخاً من تصلبه وارتخائه. ولعل متغيرات الوعي الأقلوي بين صعود وهبوط لا تخلو من دلالات على حال الأكثرية، لأن ارتخاء العصبية لدى أحد الطرفين يؤشر إلى ارتخائها لدى الآخر. لا يخرج عن هذا التحليل الدور السلبي الذي لعبته كلّ من ثورة الملالي وحكم «طالبان» في تعميم العصبيات السنّية والشيعية خارج حدودهما. قد يكون صحيحاً القول أن السنّة، بحكم الأكثرية العددية في بعض البلدان، هم الحامل المتوقع للأمة، على ألا تتقنّع هذه المقولة بدعاوى أيديولوجية ثابتة، وعلى أن تترافق فعلاً مع تمكين السنّة من التحول إلى أكثرية، متضمناً العجز عن الوحدة والانسجام، أي أن تمكينهم من الإحساس والوعي الأكثري لا يغدو قضية يختص بها «أهل السنّة» وحدهم، بل يصبح واجباً وحقاً لشركائهم الآخرين. لكن هذا الافتراض، السياسي لا الأيديولوجي، قد يصح إن كان مصحوباً بالنظر إلى السنّة كمشاريع أمم مستقلة ومطابقة لواقعها في كل دولة على حدة، فيما دون هذا يبقى الادعاء بأن السنّة هم الأمة أقرب إلى احتكار الأخيرة واقعاً ومفهوماً.